يقرأ كثيرًا لمختلف الاتجاهات من يسارها إلى يمينها، له أبحاث ودراسات واسعة في مجالات متعددة من المعرفة والثقافة والعلوم الإنسانيّة والسياسية.
سمعتُ بإسمه لأول مرّة يوم عُيّن أستاذًا للغة العربية في كلّية بابل الحبريّة للفلسفة واللاهوت ببغداد. وأذكر أنّني رأيته للوهلة الأولى إن لم تخنِّي الذاكرة في المركز الثقافي التابع للكلّية المذكورة آعلاه، إذ جلس بجانبي وتبادلنا اطراف الحديث لفترة وجيزة. ثمّ رحت أختلس النظر إليه من حيث لا يشعر، كان أسمر اللون، مربوع القامة، ممتلئ الجسم، له كرش بارز، ذو طبقةٍ صوتية مرتفعة عند الحديث. ثم أَلفنَا اسمه كواحدٍ من الأساتذة، منذ أن تولّى تدريس مادة اللغة العربية وآدابها لأبناء مرحلتي لسنةٍ دراسية كاملة.
ولقد تعمقت جذور العلاقة بيننا بواسطة صديق مشترك هو الأب نادر اسماعيل حنّا الراهب، لا سيّما في أوقات ترددنا إلى مكتبة الكلّيّة، حيث كنتُ منهمكًا في كتابي العزيز البطريرك مار نيقولاس زيّا ( البطريرك المستقيل في ظروفٍ غامضة)؛ بينما كان الأب نادر يبحث عن مصادرٍ لبحثهِ السنوي، فيما كان الأستاذ صباح حينها يزود المكتبة بكمياتٍ هائلةٍ من الكتبِ النادرة في مختلف المعارف.
وذات يوم التقيتهُ دون سابقِ موعدٍ في مكتبِ البحّاثة العراقي الأب د. بطرس حدّاد، وحين ابلغه الراحل الكبير عن شغفي في البحث عن مصادرِ الكتب التاريخية العراقيّة وولعي باقتناء المراجع التي تتصدى للتاريخ الكنسي وتراثه الحديث عرض عليّ زيارة مكتبته الكبيرة في دارهِ الواقعة في حي الميكانيك بمنطقة الدورة البغدادية، فرحبت بالأمرِ بسرورٍ كبير، وانضممتُ إلى زملاء اخرين، نلجأ إليه للحصول على كتبٍ يصعب العثور عليها في أماكن تواجد الكتب، ومنذ تلك الأيام أمسيت واحدًا من روادِ مكتبته، أكان في بيته أو في شارع المتنبي، وهكذا كانت الحال في سيدني.
إنّني حيال رجل لا يعرف المرء من أين يبدأ الكتابة عنه، ومن أيّ طرف يمسك به، إذ تتزاحم الكلمات على قلمي. فهو كفاءة معرفية لا تعوض، وباحث نَهم يلتهم كلّ ما تقع عليه عيناه من قراءات ومشاهدات، وهو محلل سياسي أيضًا ذو ذهنية نقدية، يُحلل كلّ ما يطالعه من أحداث. واستاذ لغة متمرس ينصرف في الجلسات العامة والأحاديث الثقافيّة لتصحيح لغة الكلام لهذا أو لذاك، وغالبًا ما اشاغبه في تصحيح بعض مفرداته، ليرد عليّ قائلاً: " تلميذ الأستاذ أستاذ ونص". والأهم في رأيي من كلّ هذا، إنّه قارئ متذوق، ومتبحر دقيق في بطون أمهات الكتب وصياد لؤلؤ ماهر يصطاد كلّ ثمين ونفيس، يجليه ويصقله ليلبسه حلّة قشيبة ومن ثَمّ يقدّمه للباحثين والقرّاء أو لمشاهدي سورويو TV. إنّه كصيادٍ رمى شباكه في البحرِ يصطاد السمكات الطيبة المذاق وليس غيرها.
كما أنَّ من الثابت والمعروف أنه مهتم منذ عقدين من الزمنِ بالدفاع عن قضايا أبناء شعبنا المسيحي العراقي، ومهمومٌ بالوضع العراقي العام والقضايا القومية للمكون المسيحي. يعيش منذ سنوات في استراليا حياة تؤرقها الذاكرة البغداديّة الموجعة ويؤلمه شأن الوطن المنحور. وقد سرّني ذات مساء بأنه يستفيق في الصباح على ذكريات الأمس، وفي المنامِ تطوف به الأحلام في "عوجات" الموصل وأزقة بغداد، فلا عجب أن لقيناه يقضي أوقاتًا طويلة من السنةِ الميلاديةِ في ربوعِ العراق، وكأنه أشبه بالسمكة التي لا تقوى على العيش خارج المياه.
وِلدَ صباح برخو ميخائيل عام 1955 في محلة المحوديين / منطقة رأس الجادة بمدينة الموصل/ محافظة نينوى. درس المرحلة الأولى من دراسته الابتدائية في مدرسة مار توما الموصلية، ثم انتقل للدراسةِ في مدرسة مار ميخا في ناحية القوش، لكنه سرعان ما عاد مع عائلتهِ إلى مسقط رأسه وتخرج من مدرسة مار توما الابتدائية في العام الدراسي 1966- 1967.
درس المتوسطة وشطرًا من دراسته الثانوية في الموصل وأَكملَ ما تبقى منها ببغداد في السنة الدراسية 1976- 1977. تخرج من جامعة بغداد/ كلّية الآداب/ قسم اللغة العربية عام 1981. وفي عام 1986 درس سنةً أضافية لتطوير اللغة العربية في الجامعة المذكورة.
تزوج من الآنسة جونار متي وردة ، شقيقة سيادة المطران بشّار وردة راعي أبرشية اربيل الكلدانية عام 1994 ، فرزق منها بولدٍ واحد واربع بنات.
درس التاريخ الإسلامي/ قسم المخطوطات، وأكمل اطروحة الماجستير عام 1999، دون أن يتسنى له الدفاع عن اطروحتهِ لئلا تشد عليه مضايقات النظام السابق الذي كان قد أصدر منذ أمد وثيقة توجبه بعدم السفر خارج العراق. عمل السيّد صباح في حقل التدريس في محافظتيّ بغداد وبابل لسنوات طويلة. وتولّى تدريس مادة اللغة العربية في كلّية بابل للأعوام من 2001 إلى 2004. يجد متعةً في التعليم، ولكن ليس في عراقنا المعاصر، لأنه من المؤمنين بأن التعليم الحكومي قد رفع الرأية البيضاء أمام التعليم الديني والسياسي في معظم المدارس العراقية، فمن الصعب اليوم، نعت التعليم الحكومي بالعلماني أو تسميته بتعليم الدولة الرسمي، خصوصًا أنّ هناكَ، المُعلّم المتدين، وكوادر جرى تعينهم في مؤسسات التعليم وفق مُحاصصات طائفية ومنح سياسية وولاءات حزبية، دون أن ننسى غياب جودة المناهج، وتواصل طرق التعليم التقليدية التي أَلفناها منذ عصور. ولقد باح لي يومًا أستاذنا القدير عن غصة قلب تنتابه من عدمِ تماهي المناهج التعليمية للغة العربية في المدارس العراقيّة مع مناهج التعليم في كلٍّ من سوريا ومصر، إذ يعدهما بحسب رأيه المتواضع أفضل المناهج في العالم العربي.
عندما بدأ يتوسع في قراءاته الأدبية والفكرية تعاطفَ مع الفكر الماركسي لأنه ينصف الكادحين، ويطالب بالعدالة الإجتماعيّة، ويدعو إلى تكافؤ الفرص بين الناس، فإنتمى في مرحلةٍ مبكرة من شبابهِ إلى إتحاديّ الشبيبة الديمقراطي والطلبة العام، ومن ثَمّ اليسار العراقي بشكلٍ عام، لكنه ظلّ متأرجحًا مترددًا بين قناعات شتى، إلى أن فلح سريعًا في تحديد مساره. ورغم أنه مسيحي العقيدة، ارثذوكسي المذهب، عراقي الهوية والإنتماء، ماركسي النزعات، عربي الكتابة، قومي الشيوعية، إذ كانت هذه الأخيرة سببًا في سجنه سياسيًا. تأثر بالكثير من عباقرة الفلسفة والأدب والسياسة ويقبع في طليعتهم العبقري الاغريقي نيكوس كازنتزاكي (ت 1957)، الذي اشتهر براويته العالمية زوربا.
نشأ الغرام بينه وبين شارع المتنبي الواقع في وسط العاصمة العراقية بغداد بالقرب من منطقة الميدان وشارع الرشيد، منذ كان يؤمه لغرض إيجاد الكتب، ثم سهّلت دراسته في جامعة بغداد، الكائنة في باب المعظم، التردد إلى ذلك الشارع الغني بالكتب بشكلٍ شبه يومي. ومن بعد حين قاده عشقه للكتب وحبّه لشارع المتنبي ليكون من أوائل الذين ارسوا مفهوم "بسطية الكتب" عام 1988 على ارصفة ذلك الشارع العراقي الذي يعرفه القاصي والدني. ويعد أبو سارة أبًا روحيًا للكثيرين ممّن اشتغلوا في ذلك المجال، إذ تبعه المئات بعد أن اتخذوا من "بسطية الكتب" مهنة وهواية ورسالة. فقد ساهم صاحبنا مع اخرين في إيصال الكتاب إلى الطالب والقارئ والكاتب والباحث والمستشرق. وتداول سرًا الكتب المحظورة التي شدد النظام السابق الخناق على تداولِها ومنع التعاطي بها، ككتب العلاّمة علي الوردي وكتب الشهيد محمد باقر الصدر والكتب الماركسية، خاصّة الكتب التي استهدفت الرئيس العراقي الأسبق، ومن تلك الكتب " صدام القادم من تحت الرماد". وبفضل تقاطعاته العلنية مع ذلك النظام، جرى اعتقاله والتحقيق معه في مراحلٍ متعددةٍ، حتّى وصلت الحال إلى تتبع خطواته بنحوٍ متواتر. إبّان تلك الفترة العصيبة حاول البقاء مهادنًا وساكتًا، ومَن يسكتُ يسلم، فالرّجل لم يُقدم نفسه مُناضلاً ضد العهد السابق، بل معارضًا جسورًا، لكنّه ظلّ قلقًا شارد البال، خائفًا من نظامٍ ظلَّ يركض خلفه ويلاحقه باستمرار، فطوى النفسَ على أمرٍ خشية على عائلته.
كان مثقفًا خارج نطاق الدولة، فهو المتمرد عليها، المنتقد لها علنًا، لذا وقف المحسوبون على الدولة ومؤسساتها الأمنية على الضد منه، فنحن أمام فرد جابه الممنوع. وليس من قبيل المغالاة إن قلت: له باعٌ طويل في عالم توزيع الكتب والمطبوعات الأخرى. حيث عمل على نشر الوعي لأكثر من 30 عامًا بين العراقيين، لا سيّما المهتمين بالسياسة والأدب والتاريخ والثقافة. وكذلك تمكن من التعرّف إلى الكثير من المبدعين ورصد مواهبهم ومساعدتهم قبل نبوغهم وذياع صيتهم.
ويوم أغتصبَ الأمريكان شوارع بغداد الجميلة، تنفس صباح الصعداء من نظامٍ كاد يخنق أنفاسه، فتنعمَ بالحريّة التي أفتقدها في الأمس الأليم ، ومارس دوره القومي والثقافي على أتم وجه، بعد أن عملَ ككادرٍ متقدم ومسؤول عن العلاقات والإعلام في إتحاد بيث نهرين الوطني، ورئيسًا لتحرير صحيفة " نيشا- الهدف" الصادرة في العراق، والناطق الرسمي لإتلاف مكون من ثمانية أحزابٍ ( كلدانية- اشورية- سريانية). لكن يا فرحة ما تمت!، إذ هُجِر وأُقلع من جذورِ موطنهُ الأصلي بتاريخ 30/12/2005 نتيجة لقائه مع السيّد أياد علاوي رئيس الوزراء العراقي يومذاك، إذ أكّدَ خلال ذلك اللقاء على غياب دور الدولة في حماية المكونات العراقيّة صغيرة التعداد، فاوعز السيّد علاوي إلى الاتصال بالقاضي وائل عبد اللطيف وزير الحكم المحلي يومذاك، ودارت الاحاديث في نفس الفلك بائحًا عن مخاوفه من أن يخلو العراق من سكانه الاصليين. فضلاً عن تهديدات بالقتل تلقاها على نحوٍ متواصلٍ من قبل اصحاب الفكر المتطرف يوم اقدمَ على نشرِ مقالاتٍ في جريدة " نيشا"؛ اشار خلالها إلى معاناة العراقيين عامة واستهداف المسيحيين وتهجيرهم خاصّة، وذهب الأمر أبعد من ذلك الأمر، بعد أنّ منع من خوض مضمار الانتخابات، وتهديد أمن أطفاله.
لقد عاصرتُ تلك السنوات الدامية عن قربٍ وأختبار، ورأيت بأمِّ عيني كيف كانت محبوبتي بغداد تحتضر على يد جنود الاحتلال، وتزهق روحها بفعل تنظيمات القاعدة وعصابات الأرهاب، وهم يطفئون أضواء مدينتي الجميلة المضاءة بنور الثقافات، إذ من تربتها جُبلت، وفي مدارسها ترعرت، ومن مثقفيها نهلت العلم وأرتويت الثقافة، وفي أرضها الطيبة توارى والدي رحمه الله عن أنظارنا. لقد كانوا يعبثون بملامحها ويشوهون تاريخها عن سابق اصرار، ويستهدفون عقول أبنائها، ويلوثون عطر الورود برائحة البارود والمفخخات. وإلى يومنا هذا تنزف بغداد ويحتضر العراق، راقدًا في غرفةِ الانعاش بسبب الساسة الذين جرهم الترف واطماع بعض بلدان الجوار ومخططات الدول العظمى، إذ من خصائص الحياة السياسيّة في بلدنا أننا لا نستطيع أن نجدَ فيها عهدًا خاليًا من المساوئ والأزمات.
وعندما دشنت العمة أمريكا والساسة الجدد "الربيع الدموي" في العراق، بحجة الديمقراطية، غادر صاحبنا ارض أجداده مُكرها مع عائلتهِ الفاضلة متجهًا إلى الشام وسكن في منطقة جرمانا- القوس، وشاءت الصدف أن نسكنَ في حيٍ واحد في باديء الأمر بعد أن واجهني المصير ذاته، وما كنت اتصور يومًا انني ساكون مواطنًا في بلدٍ سوى وطني العراق؛ حيث أهلي وكنيستي ولغتي واصدقائي وأساتذتي وكلّيتي وشاهد قبرَ أبي.
في الشام كان بيته على مرمى عصا من محل سكني ، فجمعتنا لقاءات مثمرة، حيث كان الرّجل يزورني باستمرار سواءً في بيتي أو في كنيسة القديسة ترازيا. وذات يوم أكرمني بدعوة إلى وليمةِ غداءٍ في شقتهِ، ودارت بيننا أحاديث متشعبة كان للذاكرة المثقوبة نصيب منها. وها هي تعود بي الآن لأتذكر تلك المسحة من الحزن التي لاحت على وجههِ الدائري حين أخبرني عن قيام الارهابيين بالإستيلاء على منزله والعبث بمكتبته التي تقدر بعشرةِ الاف كتاب مطبوع ومخطوط.
ولا تزال عالقة بذاكرة الجسد نبرة صوته يوم هاتفني ظهيرة يوم 6 أو 7 آذار عام 2007 في الشام، حيث اجهش بالبكاء أثر التفجيرات التي طالت شارع المتنبي بسيارةٍ مفخخةٍ أدت إلى مقتل ما لا يقل عن 30 من روادِ ذلك الصرح الثقافي، وتدمير العديد من المكتبات والمطابع والمباني البغدادية الأثرية فيه، فضلاً عن تدمير المكتبة العصرية قافي التي يعود تأسيسها إلى عام 1908. كما طال التفجير مطابع: المعارف، أولاد حياوي، غرناطة. فضلاً عن العشرات من محلات القرطاسية ومخازن الكتب، وامتدت نيران الإنفجار لتنال من مقهى الشابندر الثقافي، الذي يُعد من معالم بغداد العريقة وملتقى الكتّاب والباحثين.
أجل، لقد بكى بأسى ومرارة عندما استرجع ذكرياته الخالدة في ذلك الشارع، فتحسر على تلك الأيام وكأنه يعلم أنها ذهبت بِلا عودة، فما أقسـى الأخبار عندما تكون أليمة، وما أطول الأيام في المحنِ، وما أشد وطأة الزمان عند الابتلاء. لقد آلمه كثيرًا أنَّ اصدقاءً اعزاء وزملاء مهنة رحلوا عن عالمنا هذا، جيث سقطوا ضحية ذلك الإنفجار، سيّما وأنّ مكتبته الغنية التي كانت عامرة في المتنبي والمُقدرة بعشرة الاف مطبوع غدت رمادًا تحت أنقاض الأبنية!. لقد نعى اصدقاءه الأعزاء وبكى مكتبته النفيسة لأنهم جميعًا يمثلون إنتقاءات فريدة ومميزة لرحلة عمر أمتدت على مدار ثلاثين عامًا، يصعب تعويضها في زماننا هذا.
وطأت قدمه أرض سيدني بتاريخ 15/6/2007، لكنه لم يتأقلم مع المجتمع الجديد وظلت صورة شارع المتنبي كابوسًا يؤرقه ويقض مضجعه ليلاً في سويعات المنام. ولم تمضِ إلاّ بضعة شهور على تواجده في بلاد الكنغر ليشد الرحال إلى عاصمة العوام- بغداد، لغرض المساهمة في إعادة الحياة لذلك الملتقى الثقافي (شارع المتنبي) الذي نهل من معارفه العراقيون والعرب على حدٍ سواء.
عام 2009 أصبح رئيسًا وقتيًا لإتحاد بيث نهرين الوطني في العراق في حالةٍ خاصّة اثناء اجتماعٍ استثنائي للحزب، وفي عام 2012 أُنتخب رسميًا لرئاسة الإتحاد في المؤتمر الذي انعقد بشكلٍ شرعي.
في زيارته الأخيرة للعراق صيف عام 2014، كان يقطن في ناحية برطلة، محتفظًا بكتبِ ثمينة ومخطوطات نفيسة في مقر حزب بيث نهرين الوطني هناك، جلبها معه من الموصل وبغداد وقرقوش وأربيل، يسعى لشحنها جوًا إلى سيدني، ولكن حصل ما لم يكن في الحسبان، إذ سقطت مدينة نينوى والقرى المسيحية المتاخمة لها بيد طاعون العصر (داعش) الذين وجدوا ببعض أهالي الموصل حواضنَ لهم، ففر بجلده قبل ساعة من امتداد قبضة الأرهاب إلى تلك الناحية. ومرّة أخرى عاد ليسقطَ في دوامةٍ جديدةٍ من الحزنِ بعد أن بكى مكتبته، وكأن التنظيمات الأرهابية وجدت لملاحقة كتبه. ورغم كلّ ما حل به من نكبات لا يزال متمسكاً بهوايته التي المته كثيرًا واحزنته مرارًا عبرَ سنوات الحياة.
بعد أن فرقت بنا الأيام، لم يدر في خلدي أنني سأتواصل معه مرّة أُخرى في الطرفِ الآخر من العالم وبالسياق نفسه، ففي سيدني لم تنقطع الزيارات بيننا، فكلّما سنحت الفرص اقصد مكتبة الرّجل أما بمفردي أو صحبة الزملاء الكتّاب أو بعض الأصدقاء من الوسطين الأدبي والكهنوتي نتبضع الكتب، ونتبادل الحوارات في جلساتٍ ثقافية قصيرة. وبدوره زارني الرجل في كنيسة مريم العذراء لكنيسة المشرق الآشورية بضع مرّات يرافقه السيّد شليمون الرهاوي ويوسف بيث طوري والمسؤلون عن مكتب تلفزيون سرويو في استراليا إمّا لنقاشاتٍ ثقافية أو لغرض ظهوري في برامجٍ روحيّة عرضت على شاشة القناة المذكورة. أضافة إلى ما سبق، لا بدَّ لي من أن أشير إلى مراجعته اللغوية لكتابي الموسوم " قصّة الحبّ العجيب بين الرحالة ديلالفالي والست معالي" بعد أن زين صفحات الكتاب بمقدّمةٍ لطيفة. ولا تسقط من ذاكرتي احاديثه الأنيسة وإشادته الصادقة في لقاءٍ جمعه مع الصحافي صباح عبد الرحمن على مأدبة غداء صيامي في منزلي، فاتحفنا الرجل بعددٍ من الطرائف العراقية والحكايات السياسية، ثم راحت احاديثه تعزف وتغني حين مضى للقول شارحًا لضيفنا الصحفي:" لدينا كهنة كثيرون، ولكن الأدباء والمفكرين منهم قلائل، وصديقنا الأب الجزراوي أحد البارزين من أولئك القلائل، سيّما وهو كاتب مقروء يتحلى باسلوب غير مطروق، ينتقي المفردات، ويصوغ العبارات الرشيقة. يقدم ويؤخر الأفعال في جملٍ أنيقة، بلغةٍ محبوكةٍ وصياغةٍ مسبوكةٍ، شكلت بصمته الأدبية".
ولعلّ الانكى والأدهى من ذلك أنه لم يكتفِ بذلك القدر من الحديث، بل عرج معبرًا عن رأيه بوضوح مطلق إزاء المطران المتقاعد جبرائيل كساب، إذ كان شديد الحساسية في التعامل معه، فقال: "إنّ ذلكَ المطران ومع شديد الأسف لم يكن مؤهلاً لإدارة الكنيسة في استراليا... ولم ينسجم مع الكثيرين... وعندما كان يرى شخصية لامعة أو متميزة، كان يحاول أن يغلق عليها الأبواب.. فقد خسرت الكنيسة بسببه كهنة افاضل ومثقفين، اجتهدت الكنيسة خلال السنوات الماضية على تعليمهم وتثقيفهم، لهذا لم تشهد حقبة إدارته اعمالاً تذكر، سوى المشاكل بعد أن أفتعل الازمة تلو الأزمة... أزمات ستسيل الكثير من الحبر، فللتاريخ لسان لا يرحم أحدًا ".
نعود إلى حديثنا عن أبن ميخائيل الذي منذ أن عرفته كان عاليًا في تفكيره ومندفعًا بحماساته، صادقًا بمشاعره لنصرة المظلوم، واذكر في الأعوام الأخيرة أنّني ألتقيته بمحض الصدفة بضع مرّات في مدينة فيرفيلد بسيدني، فوجدته كما هو يحب التجوال بين عامة الناس.. وقد كان صعبًا عليّ أن أسير معه مئة خطوة دون ان يلتقينا مثقف أو كاتب يستوقفه ليجتر معه ذكريات الأمس، لينبري أبن ميخائيل في إعادة تنشيط الذاكرة البغدادية عبرَ احاديث تطيل وقت وقوفنا، أو تصادفنا عائلة عراقيّة وفيها من الشباب بعمر أولاده وكبار السنّ من أقرانه، كان معظمهم يلتفون حوله وينصتون اليه وكأنهم وجدوا كتابًا مفقودًا امضوا سنينهم يبحثون عنه، أو كأنهم يلتقون محاميًا يدافع عن قضيتهم.
أحتفظ عبرَ سنوات العمر بمكتبةٍ كبيرةٍ تربو إلى خمسة الاف كتاب ومجلة وموسوعة، بلغاتٍ متعددة في مقر سكنه الواقع في مدينة مان دروت بسيدني، يسترزق منها أحيانًا، لانه لا يملك من حطام الدنيا شيئا إلا ما يكفيه وأسرته. ورغم أنه يبيع الكتب والموسوعات، لكنّه يقدم النصائح ويعرض عصارة تجاربه الثقافيّة والمهنيّة بالمجان.
ويرى أنَّ الاوضاعَ برمتهِا قد تغيرت، بعد أن أقدم الامريكان على جعل العراق الزهرة الاولى في الربيع الدموي، خاصّة بعد التغيير الثقافي الذي طال البلاد وطرأ لاحقًا على الشرق الأوسط جراء مهزلة ذلك الربيع؛ حيث اخذت تقل شريحة القرّاء لتختفي ملامح المثقفين الحقيقيين الذين كانوا يبحثون عن الكتب القيمة في شتى المجالات، ممّا دفعه للجوء إلى العمل الصحافي دون أن يتخلى عن عشقه في ترويج الكتب.
نشرَ العديد من المقالات والكتابات الشعرية والنقد الأدبي في الصحف التالية: الزمان، الصباح ، المدى، طريق الشعب، نيشا التي يشغل فيها الآن منصب صاحب الأمتياز. كما له مقالات سياسية وابحاث رصينة وكتابات ساخرة في مواقع الانترنيت. حبّرَ بعض المقالات في صحيفتيّ العراقيّة والفرات الأستراليتين. كما أقام المعارض الفردية للكتب وشارك بأخرى جماعية في سيدني ومالبورن... فكان العرض كثيرًا، والطلب قليلاً في زمن الشبكة العنكبوتية، كما اطلّ على المشاهدين عبرَ شاشة القنوات الفضائية: العربية، عشتار، سرويو.
تلك بعض اللمحات من حياة صباح ميخائيل برخو التي تستحق أن نتوقف أمامها طويلاً. إذ كنتُ أهتمّ لحديثه واستمتع في الجلوس معه منذ أيام دراستي الفلسفية إلى يومنا هذا، فقد عرفته ثاقب الرّأي، مستنير الرؤية، ضليع اللغة، لبق الحديث، صحيح اللسان، لا ينطق إلاّ في خير الوطن وصلاح الإنسان، غارقا في هموم شعبه وقضية الوطن. لا يجلس ولا يرتاح إلّا في ساعات النوم القليلة. انسان متفتح العقل، نير البصيرة، متحرر من عُقدِ التعصب القومي والعنصري والديني والطائفي، ومن كلّ هذه المُسميات التي جعلت الانسانيّة فصائل واحزابًا وحكمت عليها بالإنقسام والتشتت.
بقي أن نقولّ إنَّه شخص لماح، في جبينه لمحات تقرأ عليها آلام وطن وأوجاع بلد ينزفان من جرح غائر سببته عنجهيات حكام لم تدر بخلدهم إلّا مصالحهم. أما عيناه فتحكيان عن طول السّهر وعبء العمل. عاش ما مضى من حياته بضمير مستقيم، فكان نظيف اليد، رافضًا بيع كلمته وتأجير قلمه، ولم يكن يومًا متواجدًا في سوق بائعي الضمائر ومزوري الحقائق؛ فقد كان ولا يزال يدعو لوطنٍ حرّ وشعب سعيد ومواطنة سليمة ومكفولة وإلى مسيحية واحدة لا موحدة، مدافعًا عن حقوق الجميع بخلقٍ رفيع، ناشرًا المحبة المسيحيّة، موزعًا الطيبة العراقيّة، متفوهًا بعبق الإنسانيّة أينما حلّ، ممّا اهله ليكون في علاقاتٍ طيبةٍ مع الكثيرين وليتمتع بصداقاتٍ نبيلةٍ مع العديد من الساسة والمثقفين ورجال الدين المسيحيين والمسلمين والصابئة والإيزيديين. ولعلّني أعزو تلك الجودة في العلاقات إلى مهنته التي حققت له قدرًا من الإنتشار، دون أن أنكر بأنّ الرّجلَ يمتاز بالصفاتِ الحميدةِ، ويتحلى بكمٍ كبير من الحكمة والطيبة والسخاء. كريم ومضياف، منفتحٌ على الجميع، حكاء بطبعهِ، له حصادٌ طيبٌ لتجاربٍ واعيةٍ جعلتهُ بعيد النظر، سديد الرأي، عميق الفكر، إنساني الخطوة، صادق النوايا. والحال، إنَّ الكثير من خصالهِ مصدر إعجاب وتقدير.
سأكتفي هنا بهذا القدر، فمهما أمطرت سحائب القلم وعبّر البيان، ما هي إلّا صفحات من كتاب أنتقيت له إسمًا: " مبدعون عرفتهم عن قرب.
0 comments:
إرسال تعليق