كتابةُ الشِّعرِ إنغماسٌ عميق في رحابِ أحزانِنا وأفراحنا/ صبري يوسف

إنَّ كتابة الشِّعر أشبه ما تكون حالة عناق لهبوب النّسيم، وتوهّجات بهجة العشق بعد حنينٍ طويل، وابتسامةُ فرحٍ لتلألؤاتِ النّجوم، انغماسٌ عميق في رحاب أحزانِنا وآهاتِنا وآمالنا وأفراحنا. أجل، إنَّ كتابةَ الشِّعر هي حالة تواصل فريد وتماهٍ بديع وشفيف مع روعة الحياة، بكلِّ ما فيها من حبٍّ وجمالٍ وأفراحٍ وأحلامٍ وأحزانٍ ومآسٍ وإنكسارات، فلا يجد الشَّاعر أجدى من الشّعر كي يترجم عبره مشاعره الفيّاضة، لأنَّ الشِّعرَ مشتقٌّ ومنبعثٌ من المشاعر المتدفِّقة من أعماقِ الرّوح، لهذا تنبع تدفّقات الشَّاعر من المشاعر العميقة الصّافية صفاء الماء الزّلال، وكلّما كان الشّاعر قادراً على ترجمة وتجسيد فضاءات مشاعره، نجحَ في تحقيقِ آفاق رؤاه الشِّعريّة وإيصال أهدافه وتجلِّيات مراميه للآخر المتلقِّي! 
لهذا ترتكزُ كتابة الشِّعر على الكثير من التِّقنيّات إضافة إلى الخيال الخلَّاق والموهبة الرّهيفة الّتي نبني من خلالها أبهى ما لدينا من حفاوة الشِّعر، وفي طليعةِ هذه الحيثيات تأتي الموهبة، والإطِّلاع العميق على تجارب شعريّة عديدة وعلى المزيدِ من  تجارب وخبرات الحياة، إلى أن يصل الشَّاعر إلى مرحلة الشَّغف العميق في ترجمة انبلاج بوح الشِّعر لديه، والإنطلاق من مماحكات تجربته الخاصّة في كلِّ ما له علاقة في تعميق توهّجات خياله في تجسيد انبعاث شهقة الشِّعر. 
وبرأيي أنَّ كلّ إنسان على وجه الدُّنيا هو بصيغةٍ ما شاعر عندما تتنامى لديه هذه العناصر، ولكن هناك شاعر يكتب ويترجم مشاعره وهناك الكثير ممَّن يضمرها ويجعلها حبيسة في داخله، وهناكَ مَنْ يركّز ويعمّق هذه الحساسيّة الشِّعريّة فتولدُ عبر تجلّيات باذخة إلى النّور، وهناك مَنْ يقفزُ عليها ولا يوليها أيَّة أهميّة فتضمر وتتوارى في ثنايا اللّاشعور. وهكذا فإنَّ تشكيل وصقل شخصيّة الشَّاعر تتبلور وتتكوَّن منذُ بدايته ومن خلال إهتمامه بهذه الجّوانب المتعلِّقة بالشِّعر، ومع كلّ هذا نرى أنَّ هناك عدداً لا يستهان به ممَّن يكتبون الشِّعر أو يحاولون كتابة الشِّعر، ليس لما يكتبونه علاقة عميقة بوهجِ انبعاثِ الشِّعر، من حيث البناء والوزن والقافية والمعنى والمضمون، فلا نرى شعراً لدى هؤلاء، بل نرى رصف بعض الكلمات بطريقة غير موزونة في الكثير من الأحيان! .. والغريب بالأمر أنّ بعضاً ممَّن يكتبون الشِّعر، ونقرأه يوميّاً في الكثير من الصّفحات، يكتبون ـ على الأساس ـ  الشِّعر "العمودي الموزون" وهو في حقيقة الأمر ليس موزوناً في الكثير من تفاعيله وهو مخلخل الوزن ممَّا ينعكس على المعنى والمضمون، فلا نجدُ نكهة للشعر ولا تحليقات شعريّة فيه، وهو يخلو من الموهبة ومن حرفيّة صنعة الشِّعر بإيقاعه الموزون. 
والسُّؤال المطروح، لماذا يكتب شخص ما شعراً موزوناً وهو غير قادر على الوزن؟! يستحسن أنْ يلمَّ كلّ مَن يكتبَ الشِّعر الموزون بقواعد الوزن وبحور الشِّعر وقواعد اللّغة، ثمّ يبدأ بخوض تجربة كتابة الشِّعر الموزون، لأنّه سيظلُّ طوال حياته يكتب شعراً مخلخلاً طالما لا يستطيع الإمساك بخيوط الوزن! 
إنَّ الشِّعر الجَّميل والرَّصين والجَّديد والخلّاق هو شعر بأيّة صيغة يكتبه الشّاعر، ويخطأ مَن يظنُّ أنَّ الشَّاعر الحقيقي والأصيل هو مَنْ يكتب فقط شعراً موزوناً وعموديَّاً، بل الشِّعر الحقيقي هو شعر سواء كان شعراً عموديَّاً أو شعر تفعيلة، أو الشّعر الحديث، قصيدة النَّثر! فكم من الشُّعراء يكتبون قصيدة النَّثر بشاعريّة عالية وراقية، وكم من الشُّعراء الَّذين يكتبون الشِّعر العمودي ولا نشتمُّ من قصائدهم أيّة عبق للشعر فلا شاعريّة ولا خيال ولا بناء ولا تحديث ولا تجديد ولا وزن دقيق في الإيقاع الشِّعري، فلو توقّف أي شاعر ونظر إلى نصّه وقيّمه بنفسه وحلَّل نصَّه بنفسه وتساءل هل نصِّي موزون، هل نصّي فيه روح الشِّعر والشَّاعريّة هل نصّي يصنّف شعراً، هل؟ ثمّ يتلو هذه الأداة الإستفهاميّة الكثير من التّساؤلات وإشارات الإستفهام ؟؟؟؟؟! وعلى ضوئها ليتابع مسيرته في كتابة الشِّعر! 
وبالمقابل هناك الكثير الكثير ممَّن يستسهلون كتابة قصيدة النَّثر، ويكتبونها على أساس أنّها لا تحتاج إلى الوزن والقافية ويأخذون إمتدادهم في رصف الكلمات على أساس أنّهم يكتبون قصيدة نثر، فنجد أنفسنا أمام كلام أقل من عابر، بل كلاماً فضفاضاً لا نكهةً فيه ولا روح الشّعر فيه، ولهذا أعتبر قصيدة النَّثر أو النّص النّثري من هذا المنطلق من أصعب القصائد، بما فيها القصيدة العموديّة، لأنّها لا تعتمد ولا تتَّكئ على الوزن والقافية، بل تعتمد على روح الشِّعر، بعيداً عن الوزن والقافية وتنطلق من حبق الشِّعر الصَّافي والخلّاق، فالجّملة الشِّعريّة أولاً وقبل كلّ شيء يجب أن تكون تحديثيّة وجديدة وتتضمَّن صوراً خلّاقة غير مطروقة من قبل شعراء آخرين بأيِّ نوع من أنواع الشِّعر وخاصّة الشِّعر الحديث، لأنَّ قصيدة النَّثر سمّيت بالقصيدة الحداثويّة لأنّها تتضمّن التّحديث والتَّجديد، فأين الحداثة والتّجديد والإبداع الصَّافي إنْ لم تتضمَّن هذه التّحليقات الإبداعيّة في الصُّور الشِّعريّة الحديثة والجّديدة وغير المطروقة من قبل؟! 
لهذا نجد الكثير ممّن يكتبون الشِّعر سواء العمودي أو التَّفعيلة أو الحديث ولا يستطيعون كتابة هذه الأجناس الشّعريّة ومع هذا يتنطّحون لكتابة الشّعر، وقد نسى هؤلاء أنّ لكتابة الشِّعر خصوصيّة رهيفة للغاية والشِّعر كائن فريد من نوعه لا يشبه إلا ذاته، وذاته الشّاعريّة هي الشّعر الخلّاق والفريد من نوعه، فأنصح الَّذي لا يستطيع كتابة الشِّعر العمودي أن يتعلّم أصول وقواعد وبحور الشِّعر ثمَّ يكتب نصّه على ضوء هذه القواعد والأسس، فهناك آلاف الشُّعراء الحقيقيين يستطيعون كشف عوراته وخلخلات شعره، ويتوجَّب على مَن يكتب شعر التَّفعيلة أيضاً، أن يكون ملمّاً بهذا النَّوع من الشِّعر كي تولد القصيدة بطريقة تناسب عوالم هذا الجّنس الشّعري الرّفيع، وما ينسحب على هؤلاء ينسحب على شعراء قصيدة النَّثر أيضاً، لهذا على كلِّ مَنْ يكتب قصيدة النَّثر أن يطّلع على مئات الدَّواوين الشِّعريّة لكتّاب قصيدة النَّثر الكبار، ثمَّ يكتب عن خصوصيّته كشاعر وعن تجربته وحداثته وتجديده، فلا يمكن لشخص متخلّف حتّى النِّخاع في الكثير من قضايا الحياة المعاصرة وليس له أيّة علاقة بمدنيّة وحضارة العصر وحداثة وتجديد الحياة المتسارعة أن يكتب نصَّاً شعريَّاً حديثاً، لأنّه سيكتبُ نصَّاً في قالب قصيدة النَّثر لكنّه شعر متخلِّف من حيث المضمون ومن حيث الرُّؤية ومن حيث البناء الفنِّي للنص الحديث، ولا أقصد أن يقلّد الغربي ويصبح غربيَّاً في فضاءاته الشِّعريّة، إطلاقاً لا، لكنِّي أقصد أن يحمل فكراً تنويريّاً عصريّاً حضاريَّاً متقدِّماً، وينظر إلى الحياة من منظور جديد ورؤية خلَّاقة في الجَّمال والعطاء والحبّ والإبداع، فهل من المعقول مثلاً أنْ يكتبَ شاعرٌ ما قصيدة عن الحبِّ والرُّومانسيّة والعشق ولا يؤمن بالإختلاط بين الجّنسَين في المجتمع والمدرسة والجّامعة والحياة؟! هل من المعقول أن يمطر علينا شاعر ما نصّاً شعريّاًعن العشق والهيام والحبِّ ولم يشاهد شابّة في حياته وجهاً لوجه وجالسها وحبّها وعشقها، ألا يكتب لنا شعراً من محض خياله ومن محض أوهامه المتصدّعة؟! 
الشِّعر ينبعُ من رؤانا وتطلُّعاتنا وآفاقنا وثقافتنا وتجاربنا الغزيرة في الحياة، وكلَّما كانت هذه المناحي غائبة وضامرة وغير متوفِّرة لدى الشَّاعر، نراه يكتب قصيدة نثر مهلهلة ومتصنِّعة وبعيدة كلّ البعد عن الرُّؤية الشِّعرية الخلّاقة، لأنَّه لا يمتلك أدوات هذه القصيدة الفريدة والجَّديدة والحداثويّة، فكلُّ ثقافة تعكس رؤية شعريّة معيّنة، لهذا أؤكِّد على ضرورة أن يتحلّى الشّاعر الَّذي يكتب قصيدة النَّثر رؤية بانوراميّة شاملة وعميقة في الفكر المعاصر والتَّنوير والتَّطوير والمدنيّة والدِّيمقراطيّة والعدالة والمساواة بين الجّنسَين وبالتالي يتمخّض من رحابة رؤياه الفسيحة والعميقة في الحياة، نصّاً شعريّاً حداثويَّاً! وممكن جدَّاً أن يكون لدى كاتب قصيدة النَّثر كلّ هذه الرُّؤى والأفكار والتَّطلعات والميّزات لكنّه غير قادر على كتابة الشِّعر سواء كانت قصيدة النّثر أو أي نوع من أنواع الشِّعر، لأنّه يفتقر للموهبة الشِّعريّة لهذا نحن إزاء منعطف هام وهو ضرورة أن يتوفَّر لدى الشَّاعر عنصر الموهبة ويصقل موهبته خطوةً خطوة، كما يستحسن مَنْ يكتب شعراً أن يكونَ قد قرأ كثيراً وكثيراً جدّاً، كي يشكِّل لنفسه أرضيّة غنيّة في قواعد وأصول الشِّعر، ويدقِّق ويمحّص ويعيد ما يكتبه عشرات المرّات، كي يخرجَ بنصٍّ عميق وجميل وفيه كل ما يستلزمه الشِّعر مع أهمّية توفّر الموهبة والخيال الإبداعي لديه! .. 
ولا يمكن للشاعر والقاص والكاتب والرِّوائي المبدع أن يصبح شاعراً وقاصَّاً وكاتباً وروائيّاً مبدعاً إلا إذا كان ناقداً دقيقاً وحصيفاً وموضوعيّاً لذاته قبل أن ينقده غيره وهذه القدرة على نقد ذاته أيضاً تتطلَّب قدرات عالية وعالية جدَّاً، كي يستطيع نقد ذاته ووضع ذاته في المسار الصَّحيح والدّقيق لما يصبو إليه، وهذا السُّؤال يتطلَّب الكثير من المعلومات والخبرات والتَّقنيات الأدبيّة والثَّقافيّة، ممّا لا يسمح المجال هنا للدخول في تفاصيلها، ولكن جوهر الإبداع ينحصر في أنْ يلمَّ الكاتبُ إلماماً عميقاً فيما يتطلَّب الجَّنس الأدبي الَّذي يكتبه ولديه معرفة عميقة بتقنيّاته وأدواته الفنّيّة، وإلا ستكون نصوصه وكتاباته زبداً فضفاضاً يطفو على هامش توهّجات الإبداع!

أديب وتشكيلي سوري مقيم في ستوكهولم
sabriyousef56@hotmail.com               

CONVERSATION

0 comments: