ندوةٌ يقودُها هدهدٌ في رحلةٍ إلى عنوانٍ مفقود!/ آمال عوّاد رضوان


في جاليري مركز التراثِ عسفيا الكرمل، أقامَ منتدى الحوار الثقافيّ ندوةً يقودُها هدهدٌ لإلقاء الضوء على الكتاب الشعريّ "رحلة إلى عنوانِ مفقود" للشاعرة آمال عوّاد رضوان، وذلك بتاريخ 2011/6/16، وافتتح اللقاء الشاعر رشدي الماضي بكلمة ترحيبيّة جاء فيها: آمال والابداع توأمة فنيّة:

يلذّ لي جوعي إلى خبز إبداعِكِ، وظمئي إلى تدفقكِ اللّغويّ، لوحاتٍ نهريّةً تنسابُ شعرًا عاشقًا غيورًا، في شعابٍ تطوفُ حولَ عشيقتِها؛ كعبةِ الكلام.

كيف لا، وأنتِ الفراشة مِن حبر تتقنُ الدّخولَ خلفَ الكلمة، وتؤمنُ أنّ الكتابة مشروعٌ شخصيٌّ ورحلة، فصمّمتِ ألاّ تقومي بها إلاّ وأنتِ مسافرةٌ وحدكِ. لماذا؟ لأنّكِ مُفعمة بالوعي الجَماليّ في استثمارِ فضاءاتِ النصّ على مختلفِ انواعها، وتختزنينَ المشاعرَ والأحاسيسَ القويّة، لذلك قرّرتِ التّخلّصَ مِن النّفيِ اللّغويّ، ليظلَّ إبداعُكِ زفّة حروفٍ مُترَعةٍ بالتغيير، وكلماتهُ أزهارٌ تزخرُ بالرّحيق وتداعبُ صهيلَ المعنى الدّاخليّ، لغةً مكثفةً نابضة غنيّة بالاستعاراتِ ووجوهِ المجاز، وتتجاوز الدّلالاتِ العاديّة للكلمات، ممّا يُبقي شكلَها الإبداعيّ بديلاً فيهِ تحَدٍّ للمعاييرِ التقليديّة، كلُّ ذلك مِن أجل أن تصِلي إلى خطابٍ جديد، يتيحُ لكِ أن تنفذي مِن اللّغةِ السّائدة إلى الآفاق الرّحبة، كي تخرجي مِن سجن التّموضع داخلَ موروثٍ أدبيٍّ خاصّ.

آمال.. يا أمل كلّ الآمال.. أعرفُكِ مؤمنة حقيقيّة بأنّ الإبداعَ لا يعيشُ والأضواءُ مُسلّطةٌ عليه، لأنّكِ ترفضين أن تكوني مبدعةً تبحثُ عن الشّهرةِ المُزيّفة والضّجّة الجوفاء، وحتى لا تغادرُنا عناوينُ الحروف، تصرّين الخروجَ كلّ صباح فراشةً، زوّادتُها ورقٌ وقلمٌ وحبرٌ، فأنتِ والكلمة تعيشان توأمةً فنّيّة، تسعى إلى السّموّ الإبداعيّ الذي ينسابُ دفقاتٍ عذبة.

وجاءَ في مداخلةِ الشاعر د. فهد أبو خضرة "النّوعيّة حول موضوع المغامرة اللّغويّة والتحدّيات":

كلّ تجديدٍ في اللّغةِ هو مغامرة، وهذه المغامرة في تجديدِها هي إحدى الوسائل التي تُطوّرُ اللّغة، وبدون هذهِ المغامرة والتجديد يمكن أن تتجمّدَ اللغة، وتفقدَ قدرتَها على الإبداع الجيّد والتطوّر ومعايشة العصر، وبناءً على هذا، فالمغامرة مبدئيًّا هي محاولة ضروريّة وهامّة وإيجابيّة، ومدى القبول للتّجديدِ يُقرّرُهُ المبدعون الآخرون والسّنوات القادمة، فبعض هذه المحاولات ينجح، مثل الأحرفِ المُقطعة الذي باتَ يحتلُّ مكانًا بارزًا في الشّعريّة الحديثة، وبعضُها يُثيرُ تحفّظاتٍ لأنّهُ يمَسُّ بأصولِ اللّغة، مثل تعدّيةِ الفعل اللاّزم، وجعْلِ الأفعالِ العاديّة مثل أفعال القلوب، ولكن حتى هذه يجب ألاّ تكونَ مرفوضة، وما بعدَ الحداثة هذه المحاولات تتماشى مع ما يحدث في أدب ما بعد الحداثة في العالم، سواء اطّلعَ عليهِ شعراؤُنا أم لم يَطّلعوا.

في كلّ هذا التّجديدِ والمغامراتِ والانزياحِ والأبعادِ في الاستعارةِ والإغراب شواهدُ متشابهة، ممّا يدلُّ على أنّ هذا تيّارٌ عالميّ، ويبدو أنّ الوقوفَ أمامّهُ ليسَ أمرًا سهلاً، والظّاهر أنّه ينتشرُ خاصّة في الكتاباتِ النّسائيّة، وهو جزءٌ ممّا بعد الحداثة كنوعٍ مِنَ الثورةِ النّسائيّةِ على الأدب الرّجولي الذكوري، وحتى في الأدبِ العربيّ فكتابةِ الشّعر المنثور هو غالب في الكتابةِ النسائيّة كنوع مِن التّمرّد.

وعن قبول الآخر يجبُ أن يكون هناك نوعٌ مِن القبول لهذا الاتجاه، ويجب على هذا الاتجاه قبول التيارات الأخرى ايجابيًّا، وإلاّ فهناك صراعاتٌ ممكن أن تنشأ دون أن يستفيدَ منه أحد، وهناك شواهد على ما قلنا في كتاب "رحلة إلى عنوان مفقود":

هناك اضافات غير مالوفة: اِستدِرْ حيثُكَ؛ ص 122 أي حيث أنت، مئة عيونك، بدل مئة عينك ص 112،

اُنثرْ مئةَ عيونِهِ شموعًا ص 112، كماكَ ص 108 أي كما أنت وغيرها.

اشتقاقات غير مالوفة:

ماضٍ تحلزنَ بالحزن ص 122، زوبَعَتني ص 112، كم شعشعَ مُتفيْرِزًا ص 122، فيرِزي صدْرَ سمائي ص 119، كوْثِري نهرَ قلبي ص 119، تُسدّرُني بدعواتِ ملائكتِكِ ص 119 مِن سدرةِ المنتهى.

نعوت غير مألوفة: مِن موجِها العشتار ص 123.

تعدية الفعل اللازم:

وتُلوّحُني مناديلُ الوداع ص 115، اُ ق ط ر ن ي ص 109 كأفعال القلوب فيها الفاعلُ والمفعولُ واحد، يتثاءبُكِ ص 105، ينبضُني جنونُ ضوئِهِ ص 106.

الاستعاراتُ البعيدة تحتاجُ إلى خيالٍ وتُشكّلُ صعوبة:

لا تجُزّي لؤلؤَ نبضي ص 126، وفي شِعابِ غصّةِ اضمحلالي ص 107، الصّهيلُ الموشومُ بالندى ص 121، فكيفَ بالصّهيلِ المسموع والنّدى يقعُ على الملموس؟ أمواه نار ص 121، رمالُ الآه ص 121، في سراويلِ دهرٍ ضارٍ ص 122، مُطعّمة ببياض وفائِكِ ص 119، تغزلُ برموشِ حروفِكِ ص 111، وغيرها كثير جدا

تكرار الحروف بهدف الايحاء بتكرارها لفظا:

ص 122 دُرْررررر، ص 103 آآآآآآآآآه، ص 105 تخوووووور وغيرها.

كلماتٌ بحروفٍ مُتقطعة أفقيّة وعموديّة تُشكّلُ معناها:

و ن ف ي ض صلاةَ صمتٍ ص 119، عَ لّ قْ تُ كِ ص 113، تُ ثَ رْثِ رُ كِ ص 108، أَ شَ عّ ن ي ، اِ سْ تَ عْ مَ رَ ن ي، وغيرها كثير.

قصيدة "فوضى ألواني المُشاكسة":

الفعلُ توارفَ غيرُ موجود في المعاجم، وَرَفَ الظّلّ وأورفَ الظلّ، أي امتدّ واتّسعَ وصارَ وارفًا، لهذا فإنّ قولَها توارفتِ ضبابًا يحملُ صيغة جديدة للأصل وَرَفَ لها نفس المعنى.

رهيفٌ من الأصل رهُفَ يرهُفُ رهافة ورهفا، دقّ ولطف فهو رهيف، وقد استعملت الكلمة صفة للجسم والخصر والسيف، ووصفَ الشعراءُ وغيرُهم الشّعور بقولِهم شعورًا مُرهفًا، أي لطيف ورقيق سريع التأثر، ولم يوصف الخطو بأنه رهيف والمقصود أنّه لطيف، وهذا الضبابُ يُواعدُ ظباءَ روحِها (روح الشاعرة) ولعلّها تقصدُ روحَها التي تشبه الظباء.

بحّة ترامحتْ بباحاتِ بوْحي: الفعلُ ترامحَ مرتبطٌ بالرّمح، يُقالُ ترامحَ القوم أي تطاعنوا بالرّماح، وهنا لا يمكن أن يكون المعنى المُعجميّ هو المقصود، ولعلّها أصبحت كالرّمح؟

باحاتُ بوْحي أي ساحات اعترافي وتعبيري.

غمستِ أصابعَ نقاوتِكِ بفمِ أحلام تشتعلُ: جعلت للنقاوةِ أصابع وللأحلام فمًا وجعلت الأحلامَ تشتعل، ومِن كوّةِ عتمتي سطعتِ أرتالَ أنوثة صافية، أقربُ ما يكون للفهم والشرح، مددتُ يدي لألتقط وهجًا أسطوريًّا/ يُرمّمُ ظلّي الهُلاميّ، الهلاميّ الذي يشبه الهلام وهو مادة تستخرج من الأنسجة الحيوانيّة، والظلّ هلاميّ، أي وصف المرئيّ الذي لا جسمَ له، وتصوّر الظلّ الهُلاميّ ليسَ سهلاً.

لكنّكِ أغمضتِ ورودَ غموضِكِ: جعلت للغموضِ ورودًا على طريقةِ الاستعارة المكنيّة، ورشقتِ شقاوتِكِ المُشعّة؛ جعلت الشّقاوة مُشعّة ولها سهمًا، وانخطافًا اصطدْتِني، وتقصدُ اصطدتِني استلابًا وانتزاعًا، مع أنّ الفعلَ انخطفَ لم يرِدْ في المعاجم، إلاّ أنّنا نستطيعُ اعتبارَهُ مطاوع خطفَ أو اختطفَ قياسًا.

"كيف ذا وأنا مَن انسلّ مِن خرْمِ مستحيل؟ جعلت للمستحيلِ خرمًا على طريقة الاستعارة المَكنيّة، وتصَوُّرُ هذا الخرْم أمرٌ متعذّر!

وفي مداخلة الشاعر والناقد الدكتور منير توما كانت حول "الطبيعة البنائيّة في قصائد رحلة إلى عنوانٍ مفقود لآمال عوّاد رضوان جاء:

يقول أدونيس مُوضّحًا معنى الكلمة في الشّعر: "إنّ للكلمة عادة معنى مباشرًا، ولكنّها في الشّعرِ تتجاوزُهُ إلى معنى أوسع وأعمق، لا بدّ للكلمةِ في الشّعرِ مِن أن تعلوَ على ذاتِها، وأن تزخرَ بأكثرَ ممّا تعِدُ به، وأن تُشيرَ إلى أكثرَ ممّا تقول".

هكذا كانت كلماتُ الشّاعرة آمال عوّاد رضوان في مجموعتِها الشّعريّةِ "رحلةٌ إلى عنوانِ مفقود"، فالكلمة في الشّعر وفقًا لأدونيس ليست مجموعة متآلفة مِن الأصواتِ تدلُّ اصطلاحًا على واقعٍ أو شيءٍ ما، وإنّما هي صورة صوتيّة وحدْسيّة، وهذه المعاني نلمسُها في قصائدِ المجموعة الشعريّة هذه، ومعظم القصائد فيها مبنيّة على أساسِ الرّجل للأنثى، باعتبار الرّجل أو الذكر عاشقا للمرأة، أو الأنثى موضوع الخطاب الشعريّ، حيث يتمثّلُ المشهدُ في هذهِ القصائدِ في سيطرةِ نمطِ القصيدةِ الغنائيّة على مُجملِ تجربةِ شاعرتِنا هنا، فالقصيدة لديها تقولُ بوْحَ الذات، همومَها، صدْمَها إزاء الآخر، وما إلى ذلك مِن خصوصيّاتِ الإنسان العاشق والمعشوق، ولعلّ القضيّة الرّئيسيّة التي تُثري قصائدَ المجموعة سيطرةُ ضميرِ الأنا، وبالتّالي، القصيدة الغنائيّة في مُجملِ المشهدِ الشّعريّ عندَ آمال إنّما يتمثّلُ في تضخيمِ أنا الشّاعر، لتصيرَ هي المرجعُ الرّئيسيّ لكلّ شيءٍ وهي الحَكَمُ والحالة، وبالتالي، دورانُ ثيمات النّصّ حولَ ذاتِ الشّاعرة، ممّا يُقلّلُ مِن إمكانيّةِ التقاطٍ جمعيّ، لأن الذات لا ترى إلاّ خصوصيّتها وخصوصيّة وعيِها وموقفِها، باعتبار هذا الوعي وهذا الموقف هما الحقيقة الوحيدة المقبولة، وتظلُّ عندَها مهارةُ الشاعرة في البناءِ، وفي التقاطِ اليوميّ وإعادةِ توظيفِهِ وبناءِ التّفاصيلِ عبْرَ انزياحاتِ اللغة، وعن طريق الصّورةِ الشعريّة ما يُميّز شاعرتنا في هذا الإطار، فالكلمة الشعريّة نابضة بالعذوبةِ والحيويّة.

ص 21 – كم موجعٌ ألاّ تكوني أنا":

أنوثةً طاغيةً / راقصتُكِ على هفيفِ قُبلةٍ/ وفي رحابِ جنّتِكِ المُترَفةِ باعتكافِكِ الأثيريِّ/ غزلتُ ملامحَ أصدائِكِ بحرائرِ الغوايةِ/ أيا ساحرةَ أشجاني/ كيفَ تلاشيتُ.. قبلَ أنْ تندهني ملائكةُ الرّوحِ؟

إنّ الأنا في هذا النّصّ الشّعريّ تفرضُ حضورَها على مُجملِ المشهدِ الشّعريّ لدى شاعرتِنا آمال رضوان،

ولو حاولنا التوسّعَ فإنّنا نُشيرُ إلى الاقتباس مِن قصيدة "وحدكِ تُجيدينَ قراءة حرائقي" ص 27:

منْ إِبطِ القمرِ/ تسلّلتُ أتأبّطُ هلالاً/ أطوي أحشاءَ المُزنِ ببطنِ السّحُبِ/ وعيني الوعرةُ تطوفُ بفراغٍ نيِّءٍ/ تتلمّسُ ظلَّ حوريّةٍ أمتطيهِ إلى سُلّمِ العُذريّةِ!/ أيا مالكةَ وحشي المُجَنّحِ/ إلى جزيرةِ عفّتِكِ خذي بيدِ ولهي/ ذاك حجلي المشبوبُ/ منذُ الأزلِ .. حطَّ على فننِ زماني الصّدئِ!

إنّ حضورَ الأنا يأخذ دورَهُ الفاعلُ والمباشر هنا، دون أيّ ايهامٍ بوجودِ امتدادٍ أو بديلٍ للحضورِ الطاغي للأنا، كما تشهدُ قصيدة "طعمُكِ مفعمٌ بعطرِ الآلهة" ص 31 حيث جاءَ في مستهلّها:

كؤوسُ ذكراكِ/ حطّمتني على شفاهِ فرحٍ/ لمْ ينسَ طعمَكِ المفعمَ بعطرِ الآلهة/ وأنا/ ما فتئتُ خيطًا معلّقًا بفضاءِ عينيكِ/ ما نضُبتْ علائقي الورديّةُ منكِ/ ولا/ مِن نضرةِ سماواتٍ مرصّعةٍ بانثيالاتِكِ اللاّزورديّة!

فنحن نجدُ في الأسطر الأخيرة مِن هذا النّصّ إحالاتٍ إلى الأنا في مواجهةِ ذاتِها.

قضيّة أخرى تُثيرُها القصائدُ الغنائيّة في هذه المجموعة الشّعريّة، تتمثّلُ نتاجًا لتمركز النّصّ الشّعريّ حولَ الذات، بالتالي تصيرُ الذات بديلاً للموضوع الآخر، هنا يحدث تغييبٌ للموضوعيّ على حساب الذات، ممّا يتسبّبُ في حدوثِ انغلاقٍ للنّصّ على ذاتِه، حيث توظّفُ شاعرتنا هنا العام في همّها الخاصّ، في تركّزها حولَ ذاتِها بلسان الرّجل المُتكلّم، ومِن هنا تبرز قضيّةٌ مهمّة في قصائدِ هذه المجموعةِ الغنائيّة، والمتمثّلُ في غياب "الثيمات" العامّة، ممّا يستتبع بالضرورة استحالة قراءة العامّ مِن خلال الخاصّ، أي أنّ الخاصّ بتمركزِهِ الشّديد حول ذاتِهِ يفقدُ تواصلَهُ مع العامّ.

إنّ الغيابَ الجزئيّ للموضوعيّ العامّ في قصائدِ المجموعة، قد دفعَ شاعرتنا بمهارةٍ وانسيابيّةٍ دافقة إلى تعويض النّصّ في ثيماتها القيميّة العامّة، إلى البحث عن تعويضٍ جماليّ أو فنيّ تمثّلُ في حِرصِها الشّديدِ على إبرازِ الصّورةِ الشّعريّة، والمبالغة في الاعتناءِ بها والتعامل معها باعتبارها هدفًا وليس وسيلة، وكذلك التركيز على الانزياحات اللّغويّة، باعتبارِها لعبة شكليّة أكثر ممّا هي معاناة، علاوة على أنّ الكثيرَ مِن الأنساق اللّغويّة المستخدمة لدى شاعرتنا تتميّز بكثرةِ النعوت أو توالي الصّفات، حيث أنّ مُجمَلَ هذه الصّفاتِ تجيءُ باعتبارِها ضرورةً بنائيّة داخلَ الجملةِ الشّعريّة، يتأثّرُ بها المعنى والمبنى.

ومِن أمثلة هذه الصّفاتِ أو النعوت الواردة في قصائد المجموعة، نسيمُكِ الضّوئيّ، كوخي النّاعس، فضاءاتي الجدريّة، مطرًا عاصفًا ص71، دمعة ملجومة، إبائِكِ الوضّاء ص 75، طيني الباكي، رعودك الذابلة ص 80، فضائِكِ المائيّ، تقشّفي الوثنيّ ص 105، وغير ذلك مِن الأمثلة التي يضيقُ بها المكان لذكرها.

إنّ ما تكتبُهُ آمال عوّاد رضوان في هذه المجموعة قصائدَ عاطفيّة رومنسيّة مباشرة وعالية، بلغةٍ شفّافة رقيقة يحتلّ فيها الخطاب البؤرة، حيث يظلُّ التركيز على ما نقول وليس كيف نقول، وص 71- 73 مِن قصيدة "للوعةِ العتماتِ نذرتُك":

أيا مائيّةَ ابتهالاتي/ يا مَن انبجسَ نسيمُكِ الضّوئيّ/ واطئًا مُنحدراتِ كوخي النّاعسِ/ وهفهفتِ بفضاءاتي الجداريّةِ/ تنقشين فراغيَ الوثيرَ بمخالبِ أجنحتِكِ!

يا أنتِ التتّقدينَ مطرًا عاصفًا/ وتنداحينَ ريحَ خيالاتٍ على ضفافِ جناني الخوالي!

أنا مَن تأهّبتُ لمصابيحِ روحِكِ/ تُشعّني أعراسَ فرحٍ/ وفي دُروبِ الولادةِ / تتهجّاني ظلالَ حُلمٍ نافرٍ/ لكَمْ وكم وكَم نذرتُكِ للوعةِ العتماتِ!

تعتمدُ الشّاعرة في هذه النّصوص أسلوبَ التقاطِ المَشاهدِ الجزئيّة، عبْرَ تصويرٍ مُباشرٍ في الغالبِ لحدَث، واستخدام الاستعاراتِ الآسرة والمجاز اللّغويّ الواضح، وهنا تبرز مهارة شاعرتنا في اختيارِ وتوزيع المشاهدِ الجزئيّة داخلَ العمل.

إنّ قصائدَ آمال عوّاد رضوان في هذه المجموعة تعتمدُ أفكارًا تصويريّة، فيها كثير مِن الإحساسِ تجري صياغتها بلغةٍ شعريّة، تعتمدُ الصّورة الجزئيّة التي تتكاملُ معًا، لتُشكّلُ مع نهايةِ القصيدة صورة كلّيّة هي القصيدة ذاتها، بحيث تصبحُ الفكرة الرّئيسيّة في القصيدة هي عنوان القصيدة في الغالب.

تمتاز قصائدُ شاعرتنا بالرّغبة في الانطلاق والمغامرة والبحث عن جديد، فهي أقربُ إلى النوستالجيا العاطفيّة الثقافيّة، ويظلّ الشّعرُ في هذه المجموعة أمينًا على جوّ الغنائيّة، بمفهوم بوْح الذات ورؤية الذات، فالآخر في المشهدِ الشّعريّ ما هو إلاّ صورة الذات نفسها، أو ذات الشاعرة تُحاورُ ظلّها الآخر، حتى ولو كان هذا الآخر هو الحبيبة التي تمتزح أو تتداخل دلالتها في قصائد آمال، بين الحبيبة الأنثى والحبيب الرّجل، في مزاوجةٍ لا يكادُ يمكن الفصل بينهما أو تحديدهما.

ص 104 قصيدة (عين إبرتي تتثاءبُكِ)

صوتُكِ الممشوقُ بربريٌّ/ تربّعَ على عرشِ سهري في ا مْ تِ دَ ا دِ ي/ وتوالدَ حريرَ فقدٍ في كفوفِ لوعتي! كيفَ التفّتْ خيوطُ شقاوتِكِ طوقَ ريحٍ شجيّةٍ تُلملمُني؟/ كيفَ جعلتِ أطرافَ ليلِكِ الموصَدِ ملاذَ حُلمٍ؟/ صوتُكِ الذّهبِيُّ/ بغفلةٍ مِن عينِ قدرٍ تنفّستُ روحَهُ وامتثلْتُ غِيًّا/ تريّشْتُ.. وما تريّثت!/ خلجاتُكِ أنثويّةُ الصّخبِ مسّتْ شفتيّ بشهدِ الآلهةِ/ صاغتْ دمي تِرياقَ مُتيّمٍ/ وما صحوتُ من حُمّى سُكْري النّكتاريِّ / إنّما.. طوتني بركةً سماويّةً في مراتعِ قلبٍ لانَ/ وما هانَ ربُّ المكان!

وأخيرًا يتّضحُ لنا ممّا تقدّمَ أنّ شاعرتَنا قد أكثرت من استخدام الصّور والأخيلة والاستعارات، التي طغت بشكلٍ بارزٍ على قصائدِ المجموعة، ممّا يضيفُ إلى الرّصيدِ الفنّيّ لشاعرتنا، وذلك انطلاقا لذكرى تجربة عاطفيّةٍ أو إدراكيّة غابرة، ليست بالضّرورة بصريّة، وكما عرّفها عزرا باوند:

إنّ الصّورة هي "تلك التي تقدّمُ عقدة فكريّة وعاطفيّة في برهةٍ مِن الزمن، وهي توحيدٌ لأفكارٍ متفاوتة".

أمّا فيما يتعلّق بالاستخدام الطاغي للاستعاراتِ عند شاعرتنا، فإنّ ذلك يُضفي جماليّة على شِعرِها، لا سيّما وأنّ الاستعارة هي بنية مجازيّة أساسًا، والمجازُ يُشكّلُ ركنًا أساسيًّا في الشّعرِ الحديث، هذا المجازُ الذي يُخرجُ "الواقع مِن سياقِهِ الأليف، فيما يُخرج الكلمات التي تتحدّث عنه مِن سياقها الأليف، ويُغيّر معناه فيما يُغير معناها، مقيما في ذلك علاقات جديدة بين الكلمة والكلمة، وبين الكلمة والواقع، مُغيّرًا صورة الكلام وصورة الواقع معّا"، على حدّ تعبير أدونيس.

ورُبّ قائل يقولُ في نهايةِ مداخلتي هذه، إنّني لم أتناولْ شِعر آمال عوّاد رضوان بالتفسيرِ في مجموعتِها الشّعريّة هذه "رحلة إلى عنوان مفقود"، فأجيبُهُ بما قاله الشاعر اللبناني هنري زغيب:

"كما الحرّيّة لا تُلمَس والعطرُ لا يُلتقط، هكذا الشعر لا يُفسّر بل يُمارَسُ ويُعاش، تَلقّيهِ في الإحساس به، هو هو تفسيرُهُ بكلّ وضوحِهِ، إنّه انفعال وهنا مزاجيّتُه، ولكلّ انفعالٍ إيقاع، غرابة ونضارة تضمّان كلّ المعرفة وكلّ الكون في مزيج عجيب لا يمكن تفسيرُه".

وهكذا كانت شاعرتنا آمال عوّاد رضوان في مجموعتِها الشّعريّة "رحلة إلى عنوان مفقود" ذاتَ مزاجيّة انفعاليّة إيقاعيّة هادئة، مِن خلال حرّيّة لا تُلمَس وعطر لا يُلتقط، فلها منّا أجمل التهاني وأطيبَ التمنيات بالتوفيق والعطاء والإبداع.

وجاء في مداخلة الشاعرة هيام قبلان "قراءةٌ نقديّة في قصيدةِ "مُزنّرٌ بمئزرِ ملاكي" للشّاعرة آمال عوّاد رضوان:

في المجموعةِ الشّعريّةِ "رحلةٌ إلى عنوانٍ مفقود" للشّاعرة آمال عوّاد رضوان، تنهضُ طفلةُ الرّمادِ لتُلملمَ حلمًا سُفِكَ على أعتابِ وطنٍ صعقَهُ النّزفُ، وتثاءبَ على دمعِهِ الانتظار، تحمِلُ نايَ الحزن لتصنعَ مِن المستحيلِ إشراقاتِها المجنّحة، فتتصاعدُ بها إلى لغةِ الجنون والحُلم، تُمارسُ هناكَ طقوسُ التّطهيرِ مِن أجل ولادةٍ نقيّة، تطلُّ ببهجتِها مِن نافذتيْن تهشّمَ على زجاجِهما الممنوع والمغيّب، باعتبار أنّ الجنونَ والحُلمَ يُشخّصانِ عالميْنِ مِنَ المُحرّم والمحظور، قد تعتبرُهما الشاعرة مُحفّزيْن للتمرّدِ والتّعبيرِ عن الفقدِ والغياب.

الجنونُ في رحلةِ آمال هو التّحرّرُ مِن النّمطيّةِ، والانطلاقُ في الإيقاع الذي شكّلَ في قصائدِها لغةً إبداعيّة مغايرة، تجاوزت المألوفَ عليه مِن أبعادٍ وانزياحات، وصورٍ شعريّة، ومِن تغريبٍ للذات المتكلّمةِ التي استبدلتْها بصوتٍ ذكوريٍّ في قصائدِها.

وعلى حدِّ تعبير ميشال فوكو:"إنّ الجنونَ يُعدُّ أحدُ أشكالِ العقل، حين يندمجُ فيهِ صانعًا إحدى قواهُ الخفيّة، أو لحظةً مِن لحظاتِ التّجلّي وبشكلٍ متناقض".

ولا ننسى أنّ الكتابةَ بلغةِ الجنون والحُلم تُثري مِن الدّلالاتِ والرّمز، لتعديلِ المُنكسِر والمُهشّم الذي تراهُ الشاعرة، فالحُلمُ يأخذنا إلى البحثِ عن الذاتِ الحقيقيّة، كي نستطيعَ أن نُشيرَ إلى أماكنِ الضّعفِ فينا مِن خيبةٍ وفقدان وخسارة، فيتّحدُ الحُلمُ بالجنون رغبةً في المغامرةِ في لحظاتِ رحيلِ الرّوح مِن الجسدِ أثناءَ النّوم، فإنّهُ أشبهُ بتعويضٍ عن الواقع المُعاش في الحُلم الكتابيّ الإبداعيّ وحلم اليقظة، ومِن هنا تحاولُ آمال خلْقَ توازنٍ نفسيٍّ للذّاتِ لتنقيتِها، مِن خلالِ التّخيّلِ الأفضلِ واللّجوءِ إلى حضنٍ ومكانٍ تُحقّقُ فيهما رغبتَها المتمرّدة.

أعودُ إلى مقولةِ ماكسيم جوركي: "جئتُ للعالم لكي أختلفَ معه"، وذلك يقودُنا إلى اللّغةِ المتمرّدةِ بشهوةِ الكلام المتزنّرةِ بمفرداتٍ تجاوزت الجُملة العاديّة، ومِن هذا المنطلق فضّلتُ أن أتناولَ قصيدةً مِن المجموعة، قد تتوافقُ بصورةٍ أو بأخرى معَ الرّغبةِ بالخروج عن المألوفِ لتحقيقِ المستحيلِ عندَ الشاعرة، مُزّنَّرٌ بِمِئْزَرِ مَلاَكِي ص 91:

مفتونٌ بليلِكِ العاري يَلبسُني عَهدًا/ يَتأبّطُني على حافّةِ الأفق/ أنا المسكونُ بِملامحِ براءتِكِ!

لكِن/ وَحْيَكِ الأرعنَ راعٍ وَحشِيٌّ ثائر/ يَ تَ وَ ا ثَ بُ/ من مرعًى إلى مرمى/ يُطاردُ قطعانَ تَراتيلي/ في معابرِ معابدي/ يُثيرُ غُبارَ أنفاسِك/ على مَرمى خُطى القرنفلِ؛

لغةٌ ساخنة تلتقطُ تمزّقاتٍ جريحةٍ بضميرِ المتكلّم الرّجل في القصيدة، وبتوجّهِ الدّالّ للمدلول بكتابةٍ تدهشُ بمتناقضاتِها، حين يكون الفاعلُ المتكلّمُ هو المفتونُ بليلِها العاري، ليتحوّلَ اللّيلُ إلى فاعلٍ آخرَ يُرخي على المتكلّمِ رداءً يلبسُهُ كما وثيقةُ التّعهّدِ إلى الأبد، بالرّغم مِن أنّهُ مفتونٌ بالعُري، إلاّ أنّهُ يقودُنا إلى اللّذةِ حين يتأبّطُ اللّيلَ صديقًا له ليصلَ إلى حافّةِ الأفق، لتبدُوَ اللّذةَ هنا وليدةَ الرّغبة بتفادي لحظاتٍ قادمةٍ تُراودُ المسكونُ بملامحِها البريئة، و"لكن"؛ المَفصَلَ بينَ الشّعورِ باللّذةِ وبين وحْيِها الأرعن، إذ تتغيّرُ لهجةُ الخطابِ في النّصّ، حيث لحظة الكشْفِ تُثيرُ في القارىءِ الخوْفَ مِن هذهِ اللّغةِ الحَرونِ المُتمرّدةِ للشّاعرة، فالوحيُ ما هو إلاّ "راعٍ وحشيٌّ ثائر"، أمّا ملامحُها البريئة التي سكنت العاشقَ، فتتحوّلُ إلى ملامحَ ثائرةٍ هائجةٍ تتواثبُ لمطاردةٍ وحشيّةٍ، مِن المرعى الوديع إلى المرمى، حيثُ يُطاردُ الرّاعي قطعانَ تراتيلِهِ في معبدٍ يتحوّلُ إلى ساحةِ معركةٍ شبيهةٍ بمطاردةِ الثيران يعلوها الغبار، وما الغبارُ الاّ أنفاسها الثائرة، فيناديها: "يا البريّة الشّهيّة"، التي ليست على مرمى حجر، بل على بُعدِ خطوةٍ مِن القرنفل، بينَ لحظةِ الحُلم وتحقيقِهِ تنفلتُ "الشّهقة مِن رئةٍ مفتونةٍ حُبّا بها "، وهي "تزفرُهُ هزيمةً مُحرّمة":

يا البرّيّةُ الشّهيّةُ/ بِرئةٍ مفتونةٍ شهقتُكِ حُبّا / لِمَ زفرْتِني هزيمةً مُحَرّمةً في أزقّتِكِ الزّهراءِ/ تُطَوّقينني بأزيزِ الرُموزِ؟

وكأنّ الرّموزَ في لغةِ الجنون والحُلم تُطلقُ رصاصاتِها، مُعلنةً عن الحدّ الفاصلِ بين المُحرّمِ والمرغوب. وهنا لا بدّ أن أتوقّفَ للتنويهِ، بأنّ آمال أكثرتْ مِن استخدام حرف الزّاي، الذي يُعدُّ مِن الحروفِ الأسليّة، ومصدرُها مِن "أسلة" اللّسان، أي طرفهُ الآخَر إذا كانَ يابسًا على النطقِ بحروفِ الصّفير، مثل "السّين والصّاد والزّاي"، وهي الحروفُ الأسليّة.

وفي بحثِ الصّوتيّاتِ لابن جني في كتابه "سرّ صناعةِ الإعراب" عرض، ذكرَ أحوالَ الحروفِ منفردةً، أو منتزعة مِن أبنيةِ الكلمةِ التي هي مصوغة فيها، ودراسةُ الحروفِ يَعتبرُها ابنُ جني علمًا قائمًا بحدّ ذاتِه، لا يقلُّ أهمّيّة عن الصّرفِ والنّحو، واكتفى ابنُ جني بذِكر الأعضاءِ التي تؤلفُ الجهازَ الصّوتيّ على حدّ قوله: "الصّدر والحلق والفم والأنف".

وكانَ العربُ قد خصَّوْا كلَّ قسمٍ مِن أقسام اللّسانِ باسمٍ خاصّ فقالوا:"عكدة اللسان" أيّ أصله، "أسلة اللسان" أيّ طرفُه الآخر اليابس عن النطق بحروف الصّفير، وهذا ما نحن بصددِهِ هنا.

هكذا بتكرارِ حرفِ الزّاي في الأبيات التي أمامَنا دلالةٌ، على أنّ الحلمَ والأملَ كالفرحِ المكبوتِ المبحوحِ اليابس تحت اللسان، فحرفُ الزاي كالصّاد والسّين، حيثُ يلتقي طرفُ اللّسان بالأسنان، بغضّ النّظرِ من التقاءِ مقدم اللّسان باللّثة، وهذا الالتقاءُ هو الذي يُحدِثُ احتكاكًا يُؤدّي إلى النّطق بالزّاي والصّاد والسّين، حيثُ أنّ حرفَ الزاي المتكرّرَ حرفٌ مجهور، أي في حالِ النّطقِ بالصّوتِ المجهور تقتربُ الأوتارُ الصّوتيّة أثناءَ مرورِ الهواء، فيضيقُ الفراغ ولا يَمرُّ النّفَسُ إلاّ باهتزازِ الأوتار، فتحدثُ عندَها ظاهرة "الجهر، sonorite "، والتي يُرافقها ما يُشبه "النفخ" دونَ أن يكون لها الضّغطُ نفسُه، كحرف الزاي والظاء والذال والضاد، وجميعُها حروفٌ مجهورة كالتي وردت في الأبياتِ الشّعريّة وأقتبس:

"زفرْتِني، أزقّتُكِ الزّهراء، بأزيز الرّموز".. وهي طبعًا عكسُ الصّوتِ المهموس الذي لا تهتزّ له الأوتارُ الصّوتيّة في حالةِ النطق، وهنا النّشيجُ والتشنّجُ الوتريُّ أدّى إلى ضيقٍ في النّفس، يكادُ يصلُ إلى الاختناق والتقطّع، دلالةً على الصّوتِ الأخرس نطقا.

كذلك أكثرتْ مِن الأوصافِ والانزياحاتِ لخرْقِ جدارِ الرّموز، وتذويتِ اللّغة ببصمةٍ تُحيلُنا إلى مُعجمٍ خاصّ بالشّاعرة، مِن نحْتٍ في الجَمال والأنين والحزن والألم.

أمّا الزّمنُ فمُتحوِّل، نرى المتكلّمَ يعودُ إلى الماضي، فيأخذنا إلى عالمٍ تقاطرَ فيهِ الحُلمُ الورديّ برغم الحزن، بتوظيفِ رموزٍ تزحفُ بنا إلى تصويرٍ لانفعالٍ داخليّ، منحَ الضّميرَ المتكلّمَ رؤيةً أخرى، تلاقحت فيها المجازاتُ والأبعادُ لحدِّ السّعادةِ الوهميّة، وبجُنوحٍ وصْفيٍّ لمشهدٍ يُصوّرُ تلكَ المُتخيّلة.

للشّاعرة مفرداتٌ مثل: "القوقعة، الغشاء، الشذرات، العوسج، المغزل"، فترسمُ مشهدًا رائعًا لعمليّةِ ألمٍ لذيذٍ بكلّ مُعاناتِه، استحضرت فيهِ "الحلزونة" كرافدٍ مُحرِّكٍ لتعريةِ النّداءاتِ الموشومةِ بالفقدِ والحرمانِ وانزلاق المشاعر فتقول:

كنتُ حلزَوْنَةً تغُطُّ بِسُباتِكِ/ بابَ قوقعةٍ.. قرعتِ/ غِشاءَ دَهشةٍ.. شققتِ/ تُنْبينها بِشذَراتِ رِهامِكِ الأوّل، وَهادرةً/ سَرَتْ بِعَوْسجي حرارةُ رذاذِكِ المُترنّم.

لماذا اختارت آمال الحلزونة؟ مِن المعروفِ أنّ القواقعَ تعيشُ داخلَ أصداف، وأصدافُ القواقع تماثلُ في التركيب أصدافَ المَحارِ واللّزيق، ويوجد داخل القوقعة قلبُها ورئاتها وجميعُ أعضائِها الهامّة، ويستطيعُ القوقع عادة إصلاحَ الصّدفة إذا كُسرت، ولكن إذا كان الكسْرُ خطيرًا ولم يستطع القوقع إصلاحَهُ، فانّه عادةً يموت.

لقد وظّفت شاعرتُنا في هذه الأبياتِ أفعالاً لاءمت الإيقاعَ الرّاقصَ السّريعَ، في وصفِ صورةٍ شعريّةٍ لانزلاق الحبيبة إلى عالم العاشق الذي اخترقتْ بابَ قوقعتِهِ، بعدَ أن كان في سباتٍ عميق، وشقّتْ غشاءَ دهشتِه، والغشاءُ في الحلزونة متواجدٌ على فتحةِ القوقعة، ليحمي الحلزونة مِن الجفافِ عند سباتِها، لذا فقد كانت الحبيبةُ بالنّسبةِ له رذاذَ المطرِ الأوّل الهادر الذي شقّ غشاءَ قوقعته برذاذِهِا المترنّم، لتُرطّبَ جفافَ عمْرِهِ، وانزلقتْ بهدوءٍ إلى "محبرتِهِ البيضاء النقيّة:

أَعْرَى مِنْ مِغْزَلٍ انْزَلَقْتِ/ إِلى مَحْبَرَتِي الْبَيْضَاء/ حُروفًا رَثَّةً/ ا نْ تَ ثَ رْ تِ/ تَتَدَحْرَجِينَ/ عَلى أَشْواكِ النِّدَاءَاتِ الْمَوْشُومَةِ بِالْفَقْد./ بِأَقْلامِ تَمَرُّغِكِ الْوَدِيعِ / قَ لَّ مْ تُ/ أَمْواهَ خُطاكِ/ و ا قْ تَ فَ يْ تُ / سُلاَلَةَ خَوْفِي الْمَخْبُوءِ بِزَهْرِ الزَّعْرُور!ِ

إذن؛ كانَ لها المخلّصَ مِن سيْرِها على الأشواك، حينَ انزلقتْ إلى محبرتِهِ النّاصعةِ النّقيّةِ بحروفِها الرّثّةِ، وبأقلام تمرُّغِها الوديعِ الجميلِ السّاكن، قلّمَ مياهَ خطواتِها واقتفى أثرَها.

هنا في هذه الصّورة؛ "قلّمتُ أمواهَ خطاك"، تناصٌ من عجائب السّيّد المسيح حين مشى على سطح الماء، فالسفينة التي كان تلاميذه في داخلها قد صارت في وسط البحر، ويظهر أن الريح كانت مضادة، فكانت تعاكس السفينة وتلعب بها حتى كادت تنقلب، فخاف التلاميذ خوفًا عظيمًا، وظنّوا أنّ نهايتهم قد اقتربت،
وعندما رأى المسيح تلاميذه في خوفهم أراد أن يهدّئ من روعهم، فذُهل إليهم ماشيًا على الماء، "فلما أبصره التلاميذ ماشيًا على البحر اضطربوا قائلين: إنه خيال.. ومن الخوف صرخوا، فللوقت كلمهم يسوع قائلاً: تشجعوا أنا هو.. لا تخافوا (متى 14: 26-33).

وتضيفُ الشّاعرة: و ا قْ تَ فَ يْ تُ / سُلاَلَةَ خَوْفِي الْمَخْبُوءِ بِزَهْرِ الزَّعْرُور!ِ

وكأنّه الأبُ المُخلّصُ الذي جاءَ إلى الكينونةِ ليقتفيَ أثرَ سلالةِ خوفِهِ مِن المخبوءِ له "بزهر الزعرور"! الزّعرورُ نبتة كانت تُعرَفُ في القرون الوسطى كرمزٍ "للأمل" وتأخيرِ العِلل، وتستخدمُ اليومَ أيضًا لاضطراباتِ القلب ودورانِ الدّم وبخاصّةٍ الذّبحةِ الصّدريّة، وتزيدُ مِن تدفّقِ الدّم إلى عضلاتِ القلبِ، وتُعيدُ الخفقان السّويّ إليه.

الزّعرورُ مِن فصيلةِ الورديّاتِ، وهي أشجارٌ حُرجيّةٌ متوسّطةُ الحجم فروعُها تنتهي بشوك، وأوراقُها مُجنّحةٌ صلبة كالجلد، تزهرُ أزهارًا بيضاء، وأوراقُ الطّلع فيها ورديّةٌ أو حمراء، وأثمارُها كرويّةٌ حمراء، تنبتُ في أسيجةِ الأشجارِ والغاباتِ الصّغيرة، وهناك خبّأ العاشقُ خوفَهُ، وبحثَ عن الأملِ داخلَ زهرةِ الزّعرور، ويُقالُ أيضًا أنّ للزعرورِ فائدةٌ تداوي مرضَ الشّرج والشّفاء منه، وفي الحالتيْن؛ فانّ هذه الصّورةَ بمثابةِ تأكيدٍ على حبِّهِ وتضحيتِهِ في سبيلِ إنقاذِها، هو الذي كانَ يُؤمنُ بها وقد تابَ على يديْها، بعدَ أن غرفَ مِن مآسي الحياة أشقاها:

أَنَا الطَّاعِنُ بِالْمَآسِي/ بِأَسْفارِ صُفْصُفِ الْفِراخِ/ هَ رَّ بْ تُ كِ/ زَقْزَقَةَ إيمَانٍ/ وَبِرَحيقِ تَوْبَةٍ رَقَّيْتُكِ/ لِتُمَوْسقِينِي بِغَيْبوبَتي/ غَدِيرًا يُنَاهِدُ غَدِيرَكِ

هذا هو المفتونُ بليلِها العاري قاسى المصاعبَ والمآسي بأسفارِهِ، منذ أن كانَ فرخًا يرفرفُ ولم ينبتْ زغبُهُ بعد، وهي تأتي تخترقُ حياتَهُ لتعلّمَهُ كيفَ يتوبُ على يديْها هي القدّيسة التي رقّاها مِن العين، لتتموسقَ في داخلِهِ في لحظاتٍ مِن غيبوبةِ الحلم، فيُناهدُ غديرُها غديرَه، ويُردّد:

لكِنَّكِ/ مَضَيْتِ بِطَبَاشِيرِي الْحَزِينَةِ تَتَرَصَّدِينَنِي/ تَرْسُمِينَ أَنِينَ أَحْلاَمِي الزَّرْقَاءَ/ سَيْفًا

يُغَازِلُ صَيْفًا مَاضِيًا فِي قَلَقِي!

كالفرسِ الحرون تمضي تترصّدُهُ ، ترسُمُ لهُ أحلامَهُ التي تئنّ، وكأنّها السّيفَ الحادّ القاطعَ الذي يغازلُ صيفًا يَمرّ في قلق.

يا الْمُعْجِزَةُ الْمُزْدَهِرَةُ فِي ثَنَايَا بَعْثِي!/ بِتُؤْدَةِ الشُّمُوسِ الْمُبْتَلَّةِ بِالضِّيَاءِ/ امْتَشَقْتِ شَقاوَةَ طَاؤُوسِ/ لتَغْزِلَ عُيونُ أَرْياشِكِ قَصَائِدِي الْمَخْرُوطِيّةَ/ أَنْجُمًا مَسْحُورَةً؛/ تُ عَ لِّ قُ نِي/ فِي رِقْعَةِ سَمَائِكِ/ سَرِيرًا مَثــْ ــقُوبًا/ تَغْفُو فِيهِ حَسَرَاتِي!

كالمعجزةِ هي.. ستزهرُ أيّامَهُ، هي البعثُ الذي سيُعيدُهُ للحياةِ مِن جديد، وببطءٍ تتحرّكُ الشّموسُ التي تبلّلت بالضّياء، هكذا وبكلِّ مراوغةٍ وبشقاوةِ الطاؤوس الذي بعيونِ أرياشِهِ أثّرت على قصائدِهِ، لتغزلَها وتجعلَها أنجمًا مسحورة.

وقد وظّفت الشّاعرةُ الطاؤوسَ رمزًا للشّقاوةِ بعرْضِهِ المُخادع، وهو ينشُرُ ذيلَهُ على شكلِ مروحةٍ، كأنّهُ يُقابلُ أنثاهُ ويُحاولُ أن يُريَها وسامتَه حتى تُغرَم به، وقد اختارت الشاعرةُ ذكرَ الطاؤوس، لأنّهُ حين ينشرُ ذيلَهُ تظهرُ العيونُ الكثيرة ببريقِها السّاحرِ على ذيلِهِ، فالألوانُ الزّاهية التي نراها هي نتيجة انعكاس الضّوء، وانكسارِهِ على السّطوح المختلفةِ للرّيش، ممّا يمنعُ لونُهُ الحقيقيّ البنيّ مِن الظّهور، وهذا دلالة على العرض السّحريّ المُخادِع منها، والذي رفعَهُ كالأنجم، وعلّقَهُ في رِقعة سمائِها، وألقاه على سريرٍ مثقوبٍ مهترىءٍ تغفو عليه حسراتُهُ، بات يهدّدُهُ بالسّقوطِ مِن عليائِها والموت، فيتساءلُ متحنّنًا:

أَلاَ يَبْزُغُ لَحْدِي الْمَاكِرُ مُكَلَّلاً/ بِقُزَحِكِ التَّوْأَمِ!؟

حتّى وهو على فِراشِ الموت يَحملُ الأملَ بأن يبزغَ قوسُ قزحِها ثانية، ليُكلّلَ بهِ لحدَهُ!صورةٌ مدهشةٌ لانكسارِ الحُلم واحتقانِ الأملِ داخلَ روحٍ تتزنّرُ بمئزرِ ملاك.

وبعودةِ إلى عنوانِ القصيدة "مُزنّرٌ بمئزرِ ملاكي" أتساءل: هل يمكنُ للعنوانِ أن يتنبّأ بحقلٍ دلاليٍّ للنّصّ؟ هنا أعتقد أنّ العنوانَ يَدرجُ في بابِ العناوينِ التّأويليّةِ، والّتي هي أكثرُ الأنواع قدرةً في تنبّؤِ الحقلِ الدّلاليّ، وقد نجحت الشّاعرة آمال عوّاد رضوان في اختيارِ العنوان، الذي شكّلَ محورًا أساسيًّا في مبنى القصيدة التأويليّ، وبرسْمِ مساحةٍ شاسعةٍ مِن الرّموزِ والإيحاءاتِ والأبعادِ الدّلاليّة.

وجاء في مداخلة د. محمّد خليل "رحلةٌ إلى عنوانٍ مفقودٍ بينَ المُتخيَّل والواقع:
نحيّي، بدايةً، الأخت آمال على إبداعِها الموسوم "رحلةٌ إلى عنوان مفقود" تحيةً مقرونةً بأسمى آياتِ التّهاني وأرقِّ الأماني لهذه المناسبة السّعيدة، متمنّين لها استمرارَ العطاءِ والتألق، ونقول لها: قدُمًا إلى أمام مِن إبداع إلى إبداع، ومِن إنجاز إلى إنجاز وبعد..

لقد أتحفتنا شاعرتُنا بلوحاتٍ فنيّةٍ رائعةٍ، في غالبيّتِها العظمى لوحاتٌ تترجمُ عن إحساسٍ مرهف، ووجدان عميق، وأفق فسيح رحب، لا تحدُّهُا حدود، في لغةٍ رومانسيّة تذوبُ رقة وعاطفة، وصلت حدّ الغموض حينًا والإبهام أحيانًا، وإن كانت كما يبدو، قد لامست واقتربت في بعضها مِن ضفافِ النرجسيّة. لكنها، والحقّ يُقال: نرجسيّة معتدلة ولهذا السّبب فهي مقبولة، على أنّها تبقى مِن سِماتِ الكتابة الحداثيّة، لدى معظم الشعراءِ الحداثيّين تقريبًا.

كأنّي بلسان حالها يقول: الحداثة بالنسبة لي، كمبدعة، هي أن أكتبَ ما أريد وبالشكل الذي أريد، وأن أتجاوز المألوفَ والمعروفَ والقوالبَ النمطيّة المعهودة إلى ما هو مُدهِشٌ ومثيرٌ، وأحيانًا حتى إلى ما هو مستفِزّ. هكذا نجدُها تدخلُ الحداثة إلى ما بعدَ الحداثة مِن أوسع أبوابها. فهي مسكونةٌ بهما بكلّ جوارحِها ومشاعرِها. لذلك نراها لا ترضى بالتقليد أبدًا. فالتجديد في الشكل والمضمون دينُها وديدنها. وهي حين تكتب، نجدُها تكتبُ مِن وراءِ غيرِ قناع، ما يعني أهمّيّةَ المتحوِّل لا الثابت بالنسبة لها، كما هو واقع الحال في قاموس الحداثة الذي يسكنها وتسكنه.

الشاعرة تبدو في تجلّياتٍ ساحرة متعدّدة، مثال ذلك: الإنسانة الناضجة والمُحبّة، والمرأة العاشقة، والشاعرة المختلفة، والفراشة الطائرة ذات الألوان الجميلة، والطفلة الحالمة، وهو ما نقرأؤُه في عينيْها وفي قسَماتِ وجهِها التي تُزيّنُ غلافَي الكتاب، لكنها في مختلف الأحوال: مفكّرةٌ وذاتُ خيالٍ وقلقة وحائرة وربّما تائهة أيضًا، الأمر الذي يتناغم كثيرًا مع العنوان "رحلة إلى عُنوان مفقود"!

أمّا بالنسبة للمعنى أو الفحوى، فأقول: النّصّ الجيّد لا ينغلق على قراءةٍ واحدةٍ دونَ سواها، إنّما هو المنفتحُ على قراءاتٍ متعدّدة، وهو ما نلمسُهُ في أشعارِها. مِن جهة أخرى، تلك إشكاليّة لا تعني بعضُهم كثيرًا، لأنّ تصنيفَ المعنى عندَهم لا يأتي في المرتبة الأولى، وهي ستظلّ مسألة خلافيّة فيها نظر. لذلك، لن أطيلَ الوقوف عندَها كثيرًا، ولكنّي أريدُ أن أتساءلَ: متى يغادرُ النقاد مِن معنى القصيدة إلى مبناها؟

وهنا يحضرُني قولٌ للشاعر العربيّ المعروف محمد الماغوط، وهو يعلنُ في آخِرِ لقاءٍ صحافيّ معه:

أنا لستُ شاعرَ الفكرةِ، أنا شاعرُ الصورة.

وأمّا الجاحظ فقد سبق أن قال: إنّ المعاني مطروحةٌ في الطريق، يعرفُها العجميّ والعربيّ والقرويّ والبدويّ... وإنّما الشّعر صياغةٌ وضربٌ مِن النّسج وجنسٌ مِن التصوير.

بكلماتٍ أخرى: إنّما الشأن

CONVERSATION

0 comments: