إلـْكـُومـَّانـْـدانـْـتـي/ محمود شباط

قصة قصيرة

كان مجرد ذكر اسم ميغيل غابرييلا رودريغيز دي كاستيلو يثير الرعب في نفس القرويين في الدولة الأفريقية الصغيرة . الكل يرتعب من الـ "كوماندانتي" الذي بنى سمعته النضالية على زعمه لمقاومته المستعمر الأبيض ، والحال أن الجميع يعرف بأن قوة الكوماندانتي مُسَخَّرة لقهر شعبه وليست ضد المستعمر إلا في وسائل الإعلام.
في ذلك اليوم أرسل الكوماندانتي ثلاثة عناصر من ثواره لطرد الفلاح مارسيلينو داياث من حقله كي يبني الكوماندانتي عليها خنادق واستحكامات عسكرية ومراكز لرصد تحركات العدو.
حاول الفلاح أن يقنع قائد المجموعة بأن تلك الحقل هي مصدر رزقه الوحيد، حرمانه منها يعني حرمان عائلته من الحياة. هدر الثائر بلهجة العارف الملم بالتفاصيل : لا تكذب ! لديك كرم عنب في تلك الناحية . ( وأشار الثائر بيده صوب الكرم بالضبط).
ملأت الدهشة عيني مارسيلينو وتساءل بصمت : كيف عرف هذا الغريب بأن ذلك الكرم لي ؟ لِـمَ لا يتفرَّغُـون لتقصِّي أخبار المستعمر الأبيض بدلاً من تقصيهم اليومي لدقائق أخبارنا.
وسط انعقاد لسان مارسيلينو وهلعه ودهشته كان يرنو بعينيه الوادعتين نحو وجه الثائر الصارم يستعطفه ويسترضيه ويلتمس عفوه والسماح بحراثة الحقل هدر زعيق الثائر:
قلت لك انصرف ! وعلى الفور ! ألم تفهم بعد ؟ ألا تعلم بأن الأولوية لتحرير الأرض.
تحرير الأرض ؟؟ !!
لم يجرؤ مارسيلينو على المجاهرة بما يسمعه من أبناء المنطقة بأن تحرير الأرض يستلزم حب الكوماندانتي لشعبه كي يحبه شعبه ويؤازره . وبينما مارسيلينو ينوء تحت وطأة الهواجس ويجمع حوائجه صدمته ركلة بَغْلِيـَّة شرسة من الخلف أوقعته أرضاً. خاف الفلاح أن يكون الثائر قد عرف بما كان يفكر به ماسيلينو ولكنه عرف السبب حين صرخ به الثائر : " أسرع أيها العجوز الحمق ! الوقت يدهمنا والكوماندانتي لن يرحمنا ولن يرحمك إن تأخرت في تنفيذ التعليمات" .
حين لفظ الثائر اسم الكوماندانتي ومضت عينا الفلاح بكل أطياف الرعب والحقد والكراهية . استشف الثائر نارية النظرة فصفع الفلاح صفعة مدوية خال الأخير بأن الوديان تردد رجع صداها مرات عديدة في أذنيه.
وبينما راحته ما زالت ملتصقة على أذنه ، أيقن مارسيلينو بأنه ممنوع عليه أن يكره الكوماندانتي حتى في سره . مسح الفلاح البائس وجهه من آثار كف المحرر العتيد ونهض بتثاقل المترنح ليعتق رقبتي ثوريه من نير الحراثة متمنياً مجيء اليوم الذي تعتق فيه رقبته من نير تجار المعارك مع المستعمر الأبيض.
حَمَّلَ مارسيلينو المحراث والنير وإناء المياه والزوادة على حماره، امتطاه وساق ثوريه أمامه عائداً نحو القرية، وفي طريقه إليها كان يرى قرص الشمس التي كانت منذ ساعات تملأ الفضاء بهيراً وحرارة تذوي وتوشك على المغيب. فكان في ذلك المشهد عزاء له بأن الشروق الأبدي لا يدوم لأحد.
في بيته سأله ابنه البكر كارلو: ما بك يا أبي ؟
لم يجرؤ مارسيلينو على البوح لولده بما جرى خشية أن يكون من مخابرات الكوماندانتي فقال له بأنه يعاني من مغص.
احترم الفتى رأي أبيه رغم عدم اقتناعه بالتبرير الذي ساقه له. ثم راح الفتى يشكو بدوره لأبيه معاناته من بطالته بعد التخرج وحاجته للمال. شكا له زيف ادعاءات رجال الكوماندانتي في صراعهم مع المستعمر الأبيض وعَدّدَ له أسماء من اغتنى من تهريب الماس عبر ممرات متفق عليها بين الكوماندانتي والمستعمر. لم يجرؤ مارسيلينو على التعليق وبدا على عينيه النعاس.
اتجه مارسيلينو في اليوم التالي لتفقد كرمه فرأى من بعيد خيمتين لثوار الكوماندانتي نـُـصِبَتا في وسطه وناراً مشتعلة عرف بأنها تتأجج بدوالي كرمه. بكى على رزقه ولكنه سوف يتظاهر بالسعادة وسوف يحاول التبسم فيما لو صادفه أي من رجال الكوماندانتي.
عاد مارسيلينو إلى المنزل كالعائد من جنازة. مرة أخرى سأله كارلو : ما لك يا أبي ؟
لم يرد مارسيلينو على السؤال الصعب. خشي على نفسه من ابنه إن اشتكى، وخشي على ابنه من التورط مع من صفع والده بما لا تحمد عقباه فيما لو كان الصبي لم تطله إغراءات الإنخراط في مخابرات الكوماندانتي بعد. بقي الفلاح البائس لائذاً بالصمت الثقيل وعلى وجهه إمارات القلق والشعور بالمهانة والإذلال والحرمان من أرضه وكرامته وخوفه من ابنه وعليه.
كرر كارلو سؤاله فترقرقت دمعتان من عيني أبيه . عرف الفتى القصة فهب واتجه نحو الحقل ووقف في وسطها يصيح : هذه الأرض لنا ... هذه الأرض لنا .. هذه أرضنا وليست الأرض المحتلة من قبل المستعمر الأبيض.. نريد حريتنا .. خلقنا أحراراً و ... "
لم يستطع إكمال الكلمة الأخيرة إذ أمسك به من الخلف ثائر وكمم فمه ، ثم ظهر آخر وآخر واقتادوه إلى مغارة حيث قـيَّدوا معصميه وغـَلـُّـوا قدميه وقدموا له "وجبة" صفع وركل كدفعة تحت الحساب وتركوه.
في اليوم التالي حضر ثائر مع آخر . تقدم من بدا بأنه الرئيس وعاين وضع السجين ثم أمر مرؤوسه : أعـْطِ ضيفنا رغيف الخبز !
- حررني أولاً ! أريد حريتي قبل الرغيف . نبرها الفتى بعزم وإباء .
لم يباليا بطلبه . قـَرَّبَ المرؤوسُ الرغيفَ من فم كارلو فأطبق الأخير فـَكـَّيهِ وشفتيه بإحكام . أمره الثائر : كـُـلْ أيها العميل الخائن ! هيا ! كل!
عـَزّ على كارلو وصمه بالعمالة والخيانة لمجرد مطالبته بأبسط حقوقه. كره حاكمه أكثر الذي يفرض عليه أن يكون نسخة عنه وإلا فالتهمة جاهزة أبداً . قرر الفتى انتهاج درب المقاومة الصادقة الحقة . تـَمـَنـَّعَ كارلو عن الأكل أو الرد فصفعه الثائر وركله ثم استشار سيده عن الخطوة التالية .
- هو حُرّ أن يأكل أو لا يأكل ، هو من طالب بحريته وها نحن نمنحه إياها. همهمها الرئيس بلامبالاة ولوح بيده : أتركه ينعم بحريته واتبعني !
في اليوم التالي عاود الثائران الكرة : "أطـْـلـِـقْ يديه وقل له أن يتناول رغيفه، وإن رفض أطعمه غصباً عنه " قال الرئيس لمرؤوسه. اقترب المرؤوس وحاول حشر الرغيف في فم كارلو فقال له الصبي : فك وثاقي أولاً. أريد حريتي قبل الرغيف.
انفلتت غرائز البهيمية من عقالها حين سمع الثائر عبارة الحرية التي يكرهها ويكره سماعها فكال عشرات الركلات وانحنى ليزج الرغيف في فم سجينه فبصق الصبي دماً على يد المرؤوس. حينها جن جنون الثائر وأكمل بما استطاع من الركل والصفع واللكم على جسد كارلو المقيد الرجلين.
-هل أغل يديه ثانية ؟ سأل المرؤوس وهو يلهث ويمسح عرقه.
بعد نظرة طويلة متفحصة لوضع الفتى المقيد الرجلين استنتج الرئيس بأن أسيرهما بالكاد يتنفس، وبالكاد يفتح عينيه ، وبالكاد يحرك شفتيه ، فما بالك بقدرته على الحركة والفرار : " لا " نبرها الرئيس وأشار على مرؤوسه أن يتبعه وبارحا الكهف.
في حفلة تعذيب وتأديب أخرى لكارلو في عتمة الكهف. أضحى الصبي شبه جثة متكورة على الأرض. يتمتم بكلام لا يسمعه هو نفسه. الكلام ينم عن كرهه لذينك العنصرين وشفقته عليهما في آن. ولو استطاع النهوض والكلام لقال لهما بأنهما مجرد عبدين يتوهمان نفسيهما بأنهما أحرارا. وبأن يرعويا ويقفا إلى جانب شعبهما وإلا فإن يومهما الأسود آت لا محالة يوم لن يكون هناك كوماندانتي ولا من يحزنون.
اقترب الرئيس ووضع يده على صدر الفتى فتيقن بأنه لازال على قيد الحياة فقال للمرؤوس : "اسرع بتزويده بجرعة ماء واطعمه" .
لم يعد الفتى بقادر على فتح فمه فظن المرؤوس بأنه يعانده مرة أخرى فكال له دفعة أخرى من الركل على الرأس والصدر والبطن.
في تلك اللحظات الوامضة بين الحياة والموت فتح كارلو إحدى عينيه ورفرف بيديه كما يرفرف الطائر بجناحيه فرفسه المرؤوس رفسة قوية على صدره حطمت قفصه الصدري وكانت بمثابة رصاصة الرحمة . فأنَّ الصبي آخر أنـَّـاته ... وســَكَنت حركته.
- صرخ الرئيس بمرؤوسه : أمرتك أن تطعمه وتسقيه وتخضعه بلطف لا أن تقتله أيها الأبله ! .
- لم أستطع تَحَمّله وهو يرفرف بيديه ويطالب بحريته.
عند غروب شمس ذلك اليوم غربت شمس ضحية أخرى. مات كارلو بينما الدم يسيل من فمه ومنخريه ليمهد الطريق نحو أفق الحرية ويُعـَبـِّـده بالإسفلت الأحمر.

CONVERSATION

0 comments: