جِنِّيٌّ مِن الإنْسْ/ محمود شباط

كانت مجيدة في التاسعة حين توفي والدها ولم يبق لها ولأمها وشقيقيها الأكبر منها قليلاً من معين أو مصدر رزق. عرضت عليها جدتها التي تعمل خادمة في منزل آل البسكويتي في المدينة أن تحل محلها لأن الجدة كبرت ولم يعد وضعها الصحي يسعفها. ترددت والدة مجيدة في البداية خشية ضياع ابنتها في لجة المدينة في ذلك السن المبكر، ولكن الجدة طمأنتها وأقنعتها.
بعد سنوات من الخدمة في بيروت تفتحت براعم الملاحة في قوام وعيني الفتاة الناضجة قبل أوانها ما زادها سحراً وجمالا وألقا. شكت لسيدتها همساً بأن بكر العائلة زاهر يتحرش بها فزجرته السيدة ولكن زاهر لم يرتدع إلى أن أوقع بالفتاة رغماً عنها في غياب أهله عن المنزل، واستغل جهلها بالقراءة والكتابة لـتبصم له على ورقة تبين بأن ما حل بها كان برضاها وقبولها. وزاد في الطين بلة استيلاؤه على بطاقة هويتها ورميها في مكب النفايات.
حين بدت بوادر الحمل على مجيدة هربت من منزل مخدومها . التقتها في الشارع سيدة أربعينية تسير برفقة زوجها الخمسيني الذي عرفت عنه مجيدة لاحقاً بأنه من ألمع المحامين في البلد. استوقف الزوجين مشهد الفتاة المنكمشة على نفسها التي كانت تنتحب بصمت على رصيف الشارع. سألتها السيدة عما بها وهل تحتاج لمساعدة ؟ لم ترد الفتاة. ألحت عليها السيدة، نظرت مجيدة إلى وجه السيدة فاطمأنت لها وأخبرتها بقصتها. عرضت عليها المجىء معهما إلى منزلهما وبأنهما سوف يساعدانها في حل لمشكلتها.
في تلك الأمسية كانت مجيدة تتناول عشاءها في المطبخ القريب من الصالة حيث كان الزوجان يتسامران. سمعت السيد والسيدة يتباحثان خلال سهرتهما بخصوص حل لقضية تلك المظلومة الحامل التي يرغبان في مساعدتها دون أن تشكل عليهما عبءاً مادياً وقانونياً . أكد السيد لزوجته بأنه كان من الممكن مساعدة الفتاة لولا ذلك الإقرار الذي مهرته ببصمتها لمغتصبها، ولو لم يكن لدى المغتصب أقارب بمناصب نافذة في الدولة، وبأنه سوف يتوسط لدى أحد أصدقائه لوضع الفتاة في أحد المراكز الخيرية المخصصة لفتيات في مثل وضع مجيدة .
قالت له زوجته : أليس من الأفضل أن تبحث لها عن عمل في إحدى الشركات أو أحد الفنادق.
رد بجدية: من الذي سيقبل باستخدامها دون بطاقة هوية ؟ إلا إذا تدبرت أمر الحصول على هوية مزورة بطريقتها وعلى مسؤوليتها . أردف : وهذا ما لن أفعله كرجل حقوقي. تصوري ذهابي إلى المختار وطلبي منه أن يساعدني في الحصول على هوية مزورة لغريبة لا أعرفها . رغم أن مختارنا العتيد يستطيع وهو يفعلها بالتقسيط حسبما سمعت.
في اليوم التالي كانت مجيدة تبحث عن دار المختار في ذلك الحي. دخلت مكتبه ودخلت في الموضوع مباشرة . استنكر المختار سؤال غريبة لا يعرفها وتظاهر بالعفة والنظامية وحاول طردها. حينها رأت بأنه لا بد من الكذب فقالت له بأن المحامي أرسلها إليه وهو يعرف "الأستاذ" جيداً. تفرس بوجهها ملياً ثم سألها عن منطقتها واسمها الأصلي فأخبرته. مد يده وطلب دفعة على الحساب على أن يتم تقسيط الباقي لمدة سنة بفائدة فاحشة، على أن لا يسلمها الهوية إلا بعد أن تسدد كامل المبلغ.
في الأسبوع التالي كان المحامي قد أدخل مجيدة إلى المركز الخيري وظل يرسل لها بمبلغ من المال كل آخر شهر كانت تسدده كقسط شهري للمختار.
بعد سنة من وجودها في المركز الخيري صار لديها هوية وولد. أنجبت صبياً سمته ماجد دون أن تسجله في دوائر النفوس. غصة أخرى اقتحمت حياتها حين تبين لها بأن طفلها أصم أبكم. أغدقت عليه بحنانها ما استطاعت وأحضرت له الألعاب. لاحظت بأنه كان يفضل اللهو بقفلي حقيبتها السمسونايت. وحين صار في الثالثة أدخلته مدرسة للصم والبكم بمساعدة من مديرة المركز الخيري.
بحثت عن عمل كعاملة تنظيف في الفنادق فوُفِّـقـَتْ بوظيفة في فندق " المرجان الأزرق" . الذي كان يعلم الجميع بأنه ملك السيدة الثرية وفاء المقدوني، ولكن لا أحد يعرف بأنها الزوجة الثانية سراً للسيد زاهر البسكويتي الذي هو في الحقيقة المالك الفعلي .
مرت سنون على مجيدة خلال عملها في الفندق. لم تزر أمها وأخوتها رغم شوقها إليهم. تقضي كل أوقاتها مع طفلها ماجد. همهم الصبي الأبكم يوماً وأشار لها باصبعه إلى قفلي الحقيبة . فهمت منه بأن تضع رقماً سرياً آخر وبأنه سوف يفتح الحقيبة خلال لحظات. لبت طلبه ففعل . استغربت موهبته وسعدت لذكائه ولكنها زجرته ألا يفعل ذلك أبداً .
دارت الأيام والسنون إلى أن جاء يوم أسود آخر في حياتها ، يوم لَمَحَها صدفة زاهر البسكويتي في أحد ممرات الفندق . فوجىء بها وفوجئت به. عرفها على الفور وأشاح بوجهه بسرعة عن الأربعينية الحلوة بينما كانت عيناها ترشقه بسهام الكراهية والبغض والحيرة والدهشة، إذ حسب علمها فإنه قد سافر إلى أميركا اللاتينية بعد فعلته الشنيعة معها، ولن يعود. هكذا قال لها أهله حين ذهبت يومها لتخبره بأنها حامل ولكي يتدبر أمر تسجيل المولود. بقيت تلاحقه بنظراتها إلى أن انعطف يميناً في آخر الممر . لحقت به فكان قد سبقها ودخل المصعد، ركضت نحو باب المصعد كي تدرك زاهر ولكنه كان أسرع منها فدخل المصعد الذي انطلق به. وقفت عند باب المصعد وتابعت أرقام الطوابق التي يمر بها المصعد إلى أن استقر في الطابق الواحد والعشرين حيث مكتب زاهر. قررت مطاردته. تابعته. حاولت دخول المكتب فحالت السكرتيرة الأولى دون دخولها. توسلتها مجيدة بأنها بحاجة ماسة لرؤية "الأستاذ" فرقَّتْ لها السكرتيرة ودخلت مجيدة إلى السكرتيرة الثانية التي رفضت سماع أي كلمة وطردتها.
بعد مشاهدته مجيدة في ممر الدور الأرضي من الفندق وفراره منها وصل زاهر إلى مكتبه. دخله وصفق الباب خلفه بغضب لاعناً ذلك اليوم النحس وجلس يتفكر في كيفية التخلص منها كي لا ينفضح ماضيه الأسود معها وتعكر صفو حاضره ومستقبله.
يريد زاهر أن يتأكد أولاً بأن التي رآها هي مجيدة وليس إمرأة تشبهها . استدعى مدير شؤون الموظفين وطلب منه كشفاً بأسماء موظفي قسم التنظيفات. لم يجد أثراً لاسم مجيدة. احتار في الأمر، هو متأكد بأن تلك التي رآها للتو هي مجيدة التي اعتدى عليها منذ عشرين سنة وأكثر وظن بأن تلك القصة طواها النسيان والسنون. أصر على حل اللغز فطلب ملفات موظفي ذلك القسم وبحث بنفسه في الملفات واحداً واحداً . وجد في أحدها صورة لمجيدة ملصقة على استمارة توظيف ولكن باسم آخر . دقق أكثر فعرف بأنها تحمل هوية مزورة. تنهد الشرير بارتياح لاكتشافه ذلك "السلاح" وأضافه إلى سلاحه السابق "إقرار مجيدة الممهور ببصمتها" . شكر مدير شؤون الموظفين ولكنه لم يفصح له عن سبب اهتمامه بالملفات. وبعد انصراف مدير شؤون الموظفين استدعى مجيدة وهددها بأنه سيشكوها للسلطات المختصة بتهمة حيازة هوية مزورة إن لم تتقدم باستقالتها ثم لوح لها بتشف بالإقرار وحذرها : إياك والتلاعب معي ! أتذكرين هذا الإقرار ؟
قالت لنفسها في ذاتها كيف لي أن أنساه ؟ . هزت برأسها ورجته بانكسار أن يتركها وشأنها لتعمل كي تعيل نفسها وابنها الذي هو ابنه وبأنها ستتكتم على الأمر. صرخ بها بغطرسة ولؤم: عن أي سفاح تتكلمين ؟ ألا تخجلين ؟ اذهبي وابحثي عن أبيه الحقيقي.
أكدت له بأن الصبي ماجد هو ابنه من لحمه ودمه. تهمته الظالمة لها أغضبتها فذكَّرَتْهُ بأنه هو نفسه الجاني عليها وعلى ابنها.
- حسناً ! إن كان إبني فأنا أولى به ولن ترينه بعد الآن .
ارتجفت كلها رعباً من احتمال هبوط ذلك الكابوس على رأسها حين تفقد أعز ما لديها . رجته ثانية ولكنه أصر على طلبه منها لتقديم استقالتها فبكت وتوسلته ولكنه لم يلن. تجاهل توسلاتها بينما كان يطوي الإقرار ويضعه بحرص وأناة في ملف ووضع الملف في خزنة خاصة به بجانب مكتبه.
لم تعد تخشى الأسوأ ، لقد سلبها ذلك النذل شرفها والآن سيسلبها ابنها . قالت لنفسها بأن الروح ليست أغلى منهما فأمسكت بأداة حادة لفتح المغلفات وهجمت عليه فتفادى طعنتها وردها عنه وكبل يديها خلف ظهرها بقبضته. وبدلاً من ضربها دفاعاً عن نفسه صار يراضيها ويهدئها وهو يتساءل عن السر الذي حَوَّلَ تلك الذليلة البائسة إلى نمرة جريحة . صرخت به : إن أصريت على إلحاق الضرر بي سوف أضرك أكثر ولم أعد أبالي بابتزازك لي. ليس لدي ما أخسره بعد الآن . لن أخسر أكثر مما خسرت .
مال حينها إلى تسوية، هو الآن زوج لامرأة تزوجها بالسر وسجل باسمها فندقه. هو رجل محترم بعين المجتمع وزوج لأبناء كبار وسمعته في الميزان وأي خدش لصورته البراقة سوف يحرمه من الترشح للإنتخابات النيابية القريبة جداً. راح يسترضيها على مضض وطلب منها أن تخفض صوتها قليلا. أغلق باب المكتب ودعاها للهدوء كي يتفاهما. قالت له ما من سبيل للتفاهم مع غادر ماكر مثله، وأفهمته بأنها ستبقى في العمل رغماً عن أنفه، وليس ذلك فقط ، بل على الوالد أن يسجل للولد نصيبه من الفندق.
وقف من مقعده بغضب راسماً على فمه ابتسامة سخرية وامتعاض ونفاد صبر ونهرها : هل جننت ؟ اطلبي المعقول وسوف أفكر في تلبية طلبك.
أدركت بحدسها بأنه، ولسبب تجهله، في طريقه إلى التسليم بتلبية طلباتها . ولكنها لم تعرف الحدود بعد. نهرته بلهجة الآمر : أريد توظيف الصبي في الفندق ، وفي مكتبك أنت بالذات لأن الغريب لن يقبل بأصم أبكم.
- حسناً ! لا تزعلين ! أحضريه غداً. هل يرضيك ذلك ؟
- إنه أصم أبكم ، يجب أن تتذكر ذلك وتعرفه منذ الآن .
ضغط صدغيه براحتيه و لبث يشد عليهما فعرفت بأنه صار في قمة ضيقه وغضبه ولكنه لن يجرؤ على مواجهتها بهجوم مضاد. كَزَّ على أسنانه وقال لها : لا بأس . سوف أستخدم الصبي في مكتبي لتصوير المستندات والعقود وبراتب جيد. هل يكفيك ذلك؟
- أريد أن تضع باسمه مبلغاً من المال لتعليمه.
- كم تريدين ؟
- ما يُمَكِّن الصبي من شراء بناية كبيرة .
- ما الذي حل بعقلك ؟ قولي لي ؟ ما بك تهلوسين وتتكلمين بملايين الدولارات مرة واحدة. نبرها بعصبية وبصوت عال ثم خفض نبرة صوته وابتسم : لنبدأ خطوة خطوة وامنحيني الوقت الكافي للتفكير في كيفية حل الموضوع .
- قالت له : الموضوع هو موضوعنا ، موضوعنا نحن الإثنان . إن فكرت في إغراقي سنغرق معاً . تذكر ذلك جيداً .
هز برأسه وقال لها : دع الصبي يحضر غداً إلى مكتبي كي يبدأ عمله ، واتركي لي مسألة حل القضايا الأخرى.
غادرت غاضبة مستخفة كما لو كانت هي السيدة وهو الخادم دون أن تشكره أو تستأذنه.
بدأ الفتى في العمل. أخبرته أمه بأن في خزنة زاهر مستنداً مهماً بل مصيرياً بالنسبة لها، أخبرته عن طبيعة المستند وخطورته بقدر ما تستطيع الأم إخبار ابنها في تلك الحالات. وطلبت منه أن يفكر في طريقة للحصول على أصل ذلك المستند مهما كلف الأمر. أفلح الفتى في فتح الخزنة وسلم المستند إلى أمه . دسته في حقيبة يدها وقصدت مكتب زاهر. عبرت مكتب السكرتيرة الأولى والثانية دون أن تتوقف عندهما وأكملت دون الإكتراث بهما. دخلت المكتب وأشهرت بوجهه سلاحها : صورة الإقرار . وأفهمته بأنها تحتفظ بالأصل لتدينه به وبأنه يستطيع أن يُزَوِّرَ كل مستندات العالم ولكنه لن يتمكن من تزوير قطرة من دم ابنه : أريد سيارة جديدة للصبي. نبرتها بلهجة الآمر الناهي .
جحظت عينا زاهر ليس لطلبها السيارة بل لرؤيته صورة الإقرار المسروق من خزنة ظن بأن فتح قفلها عصي على الخبراء. فتح الخزنة بسرعة كالمجنون وأخرج الملف منها .بحث في الملف فلم يجد الإقرار. صرخ بها : أين هو ذلك الجني ؟
- إنه جني من الإنس وأنت سبب آلامه وآلامي . ردت عليه بصوت عميق متهدج مترع باللوعة والنصر في آن.
- صرخ بهستيرية : سأذبح ذلك المسخ بيدي .
- المسخ يخلف مسخاً ولكنه مسخ شريف وليس نذلاً كأبيه. ولئن تجرأت على مس شعرة من رأس ماجد سوف أشرب دمك حتى آخر قطرة منه .
عاد زاهر إلى رشده يهدىء نفسه وفي باله هواجس انفضاح أمر زواجه السري ومستقبله السياسي وسمعته فاعتذر منها وقال لها بأن العبارة انفلتت من فمه غصباً عنه وبأنه كان سيرمي بذلك الإقرار على أي حال ووعدها بأنها ستحصل على السيارة خلال أسبوع.
- وماذا عن ضمان مستقبلي ومستقبل الصبي ؟ وعن ثمن معاناتنا لعشرين سنة ولما سيأتي من السنين؟.
عند ذلك الحد فكر بأنه لا مجال للمناورة والتهرب من دفع الثمن ، وبأنه عليه أن يعوضها خسارتها ويقفل ملف مشكلته معها كي يريح ويرتاح . تساءل : ولكن ما الذي سيضمن له عدم استمرارها بابتزازه بعد أن يدفع لها ما تريده. اتصل بمحاميه فحضر الأستاذ بعد ساعة . لم يكن المحامي سوى ذلك السيد الذي أحسن إلى مجيدة منذ سنوات عديدة. تقابلت عينا مجيدة بعيني المحامي فعرفها وعرفته. تظاهر المحامي بعدم معرفتها، حياها بابتسامة وغمز لها بعينه فعرفت مقصده بأنه سوف يساعدها ولكن دون أن يشعر زاهر بالعلاقة بينهما. وبعد تباحث ونقاش صريح واعتراف زاهر بفعلته اقترح المحامي أن يدفع زاهر لمجيدة خمسمئة ألف دولار ومخصصا شهرياً للصبي بقيمة ألف دولار مقابل تنازلها عن حقها وتوقيعها للإتفاقية بحضور المحامي . اعترض زاهر وحاول المساومة ثم اتفقا في النهاية على مئتي ألف دولار.
- حسنا ! هل انتهينا الآن ؟ سألها زاهر
- أنت من سينتهي وأنا سأبدأ وعليك أن تعلم بأن ما سلبته مني لا يعوض بمال ولكني أعدك و أؤكد لك بأني أصيلة تلتزم بوعدها وعهدها وبأني اكتفيت بما رددت لي ، لا تخف ! لن أطالب بأكثر رغم ما سأتحمله أنا وإبني من وصمة الإبن المجهول الأب.
بعد شهرين من إقرار الصفقة بين زاهر ومجيدة كانت قد تركت العمل وتعلمت قيادة السيارة وعادت بها إلى أهلها لتخبرهم بتفاصيل محنتها.

CONVERSATION

0 comments: