آمال عوّاد رضوان تحاور الباحثة الفولكلورية نائلة لِبّس


نائلة لِبِّس حدّثينا عن البداياتِ، وكيف ومِن أين انطلقَ اهتمامُكِ بالتّراث؟

كان ياما كان .. عائلة صغيرة هادئة تتكوّن من أب وأم وطفلتهما، تسكنُ في حيفا تنتظرُ مولودُهما الثاني، عندما اندلعت حربُ الاغتصاب المعروفة بالنكبة، نكبة فلسطين التي عصفت وهزّت أركانَ البلادِ والعباد. وكان النزوح.. هجرة داخليّة وخارجيّة غيّرت خريطةَ الأرض ومواقعَ سكّانِها، مِن لاجئٍ هاربٍ عبْرَ الحدود، إلى طالبٍ لحمايةِ الأهل في الجوار.

ومن حيفا لفظتْ أمواجُ بحرِها تلكَ العائلةِ إلى النّاصرة التي بها استقرّت ولا تزال. النّاصرة مدينة البشارة التي استقبلتني جنينًا في شهرِهِ الخامس، مع أبٍ كان موظّفًا في شركةِ بترول العراق في حيفا، وأمٍّ ربّة منزل تربّي طفلتها وتنتظر مولودَها، حيث كان لهذهِ العائلةِ حقُّ الأولويّة في استئجارِ غرفةٍ في ديرِ المطران الأرثوذكسي، كوْنَ أمّي حفيدةَ كاهن الطّائفة في قرية يافا النّاصرة.

ولمّا خسرَ أبي وظيفتَهُ، أخذ يبحثُ عن عملٍ يكفلُ لهُ الحياةَ الكريمة، ولم يَطُلْ بحثُهُ، إذ كانَ قد تعلّمَ مهنةَ التّصويرِ الفوتوغرافي بنفسِه، وبها بدأ عملَهُ في تصويرِ كلّ مَن أرادَ استصدارَ بطاقةِ هُويّةٍ مع بدايةِ الاحتلال.

كانَ عملُهُ شاقًّا بل مُضنيًا، خصوصًا بعدَ ولادتي، وثمّ أخي الذي وُلدَ بعدي بسنة، وكان لوالدتي دورُها في معاونةِ زوجها المُصوّر الشّابّ، الّذي يعملُ بطريقةٍ بدائيّةٍ في إخراج الصّور.

نعودُ للغرفةِ الصّغيرةِ الّتي تحمّلتْ ضغطًا فوقَ إمكانيّاتِ مساحتِها، فهي غرفة نوم ومطبخ وحمّام وصالة استقبال ضيوفِنا القليلين مِن سكّانِ الحيّ الشّعبيّ، وهي فوقَ هذا وذاك استوديو للتّصوير، وفي اللّيلِ تتحوّلُ لمعملٍ لتحضيرِ الصّور...

لم أحتمل أنا الطفلة الوسطى كلّ هذا الضّغطِ الحياتيّ والعاطفيّ، وقد ملأتُ المكانَ بكاءً وصراخًا، جعلَ الحياةَ معي أمرًا لا يُطاق، حتى حضرت جدّتي لوالدتي في أحدِ الأيّام، وعرفت ما تعاني والدتي مِن مختلفِ أنواع الضّغوطِ الّتي أهمَّها أنا، فاقترحت أن تنتزعَني مِن وسطِ العائلة لتربيتي، ولتتركَ والدتي لمساعدةِ زوجِها وتربيةِ طفليْها، وهكذا كان.

لقد كانَ لحياتي في كنفِ جدّي وجدّتي الأثرَ الأهمَّ في توجّهي نحوَ كلّ ما هو متعلّقٌ بالمأثوراتِ الشّعبيّة، عِلمًا بأنّ قرية يافا النّاصرة قريةٌ زراعيّة، وسكّانُها بأغلبيّتِهم السّاحقةِ مِن الفلاّحين، علمًا بأنّ جدّي لوالدتي كان شرطيًّا في زمنِ الانتدابِ البريطانيّ، وقد استعفى مِن الخدمةِ قبلَ الحرب بأشهرٍ قليلة، لخوفِهِ مِن تدهورِ الأوضاع الأمنيّة، وهو المالكُ لمساحةٍ مِنَ الأرضِ لا يُستهانُ بها.

هناك، في يافا الناصرة عشتُ حياةَ الفلاّحين بحُلوِها ومُرّها، بمُكوّناتِها المادّيّةِ والفكريّة، بمواسمِها الزّراعيّةِ واحتفالاتِها الشّعبيّةِ، هناكَ قطفتُ الزّيتون، وجمعتُ البيضَ مِن قنّ الدّجاجاتِ، وشاركتُ في حلْبِ البقرة التي كنتُ أشربُ لبنَها مباشرةً مِن ضرعِها، وكذلك شاركتُ في أفراحِها وكلّ مناسباتِها. وكم شدّني ذاك الغناءُ الذي كانَ يَصدرُ مِن حناجرِ النّسوةِ المشاركاتِ في الأعراس، كم وكم حفظتُ مِن أبياتٍ مبعثرةٍ مِن أغانيهنّ، تلكَ الأغاني الّتي كانت "الخميرة" الّتي تكاثرتْ مع تقدّمي في العّمر.

بعدَ إنهائي فترة الدّراسةِ الثّانويّةِ، كنتُ قد عدتُ لكنفِ عائلتي النّواة، عُيّنتُ كمعلّمةٍ لموضوع الموسيقا في مدرسةِ قريةِ عين ماهل الابتدائيّة، ولم يكن بالقريةِ مدرسةٌ سواها، حيثُ التّراث يُزيّنُ أثيرَها بكلّ مُركّباتِه، فزادَني ذلك تعرّفًا على التّراثِ وتمسّكًا به، وكانَ أسبوعُ التّراثِ الذي أقمناهُ في المدرسة عام 1948، نقطة الانطلاق والشّرارة الأولى التي ألهبتْ مشاعري للعملِ الجادّ بالموضوع، ولم أستطع الخروجَ منه أو التّخلّي عنه، حتّى اليوم ولآخر أيّامي، إذ غرقت فيهِ بمتعةٍ لا تُدانيها متعة.



عناصرُ لا بدّ منها لتمكين أيّ هاوٍ لإنجازِ المُهمّة.. ما هي العناصر التي استندت عليها لتنفيذِ هذا العمل؟

مثلّث المحاور لا بدّ مِن وجودِهِ كي أقوم بما قمت، في ظلّ غيابِ التّشجيعِ المعنويّ والمعونيّاتِ المادّيّةِ مِن الألف حتى الياء.

المحورُ الأوّل هو المناخ الفلاّحيّ الزراعيّ، فهو الدّفيئة التي حضنت وأنتجت الفلكلور بكلّ نواحيهِ، القوْليّة والموسيقيّة والترفيهيّة وسواها.. إذ لا بدّ ممّن يتعاملُ معها مِن معايشةِ الفلكلور مِن خلال الحياة، في كنفِ المجتمع الّذي أنتجَهُ، كي نستطيعَ فهْمَ وهضمَ النّصوص والصّورِ التي تعبقُ بها الأغاني والحكايات، وهي الطُّعمُ المميّزُ للمادّة، مع غيابِ المُركّباتِ الاجتماعيّةِ الّتي أنتجت التراث، نتيجةَ تبدّل نمطِ الحياة، مِن الزّراعيّةِ المُنتِجةِ إلى الحديثةِ المُستهلِكة، بمعنى؛ أنّنا نغنّي مثلاً:

ذبحنا ذبايحنا على المرج الأخضر

واللّي ما يْصدّق ييجي اليوم ويحضر

فلماذا قمنا بذبح الذّبائح في المرج وليسَ في ساحاتِ البيوت؟

الجواب؛ أنّ بعضَ سهراتِ الأعراسِ كانت تُقامُ في خيامٍ يَنصبُها الأهلُ على أحفافِ البلد، كي تتّسعَ لأكبر عددٍ من المَدعوّين، وهذهِ إشارةٌ للعرسِ الكبيرِ الذي لا يُقيمُهُ عامّةُ الشّعب بل عُلّيّةِ القوْم.

المحورُ الثّاني هو مهارةُ الباحثِ في التّعبيرِ عمّا يختلجُ في صدرِهِ، وعمّا يملأ رأسَهُ مِن أفكارٍ وتحليلاتٍ، كي تصلَ الفكرةُ للقارئِ بشكلٍ سلسٍ بعيدّا عن الرّكاكة، وهذا ما حباني الله بهِ مِن قدرةٍ على التّعبير، كانت قد فاقت ميولي الموسيقيّة، وقد تميّزتُ منذ طفولتي بمواضيعي الإنشائيّة، ممّا أثارَ إعجابَ معلّمتي للّغةِ العربيّةِ السّيّدة مريم بقلي أمدّ الله في عمرِها.

وأهمّ المحاور هو الاطّلاعُ بموضوعِ الموسيقى، كوْني أتحدّثُ عنّي كباحثةٍ في "الأغنيةِ"، وتحديدًا الأغاني النّسائيّة في الفلكلور، ، والإلمامُ بأبسطِ أُسسِها ومعرفةِ الإيقاعاتِ الّتي تُبنى عليها الأغاني، مع قدْرٍ متواضعٍ مِن إتقان تأديةِ الغناء، إذ كنتُ أملكُ صوتًا جهوريًّا قويًّا.

تلكَ هي أهمُّ العناصرِ الّتي اتّكلتُ عليها، وكان لا بدّ منها لإخراجِ أبحاثي للنّور.



ما الذي دفعَكِ للاهتمامِ بالموْروثاتِ الشّعبيّةِ على اختلافِها؟

أوّلاً: أنا لا أدّعي بأنّي مهتمّة بمعنى باحثة بكلّ الموروثاتِ الشّعبيّة، لأنّ ذلكَ ضربٌ مِن المستحيل، عندها يتحوّلُ البحثُ إلى سرْدٍ ركيكٍ لمركّباتِ الفلكلور، وهذا ليس بحثًا.

أمّا عن اهتمامي بالموْروثاتِ الشّعبيّة، وتحديدًا بالأغاني النّسائيّة وما يدورُ حولَها مِن مواضيع، وهي كثيرة جدًّا، فقد جاءتْ لإيماني بكوْنِ هذهِ الموْروثاتِ ضرورةً مُلِحّةً لأيّ شعب، خاصّةً في غيابِ المُؤسّساتِ الحكوميّةِ التي تحفظُ وتُحافظُ على الموروثاتِ الشّعبيّة، كوْنَها مِن أهمّ مُركّباتِ الحياةِ النّفسيّةِ والعاطفيّةِ للمجتمع، وهي الشّاهدُ على تطوّرِ أيّةِ مجموعةٍ تعيشُ على بقعةٍ مِن الأرض تُسمّى "وطن"، وتُدحرجُ المُتغيّراتِ في مسارِ المجتمع مِن البدائيّةِ الأولى حتّى أقصى درجاتِ الازدهار، خاّصةً ونحنُ نتحدّثُ عن الأغاني النّسائيّة، الّتي لم تتركْ أيَّ جانبٍ مِن الجوانبِ إلاً وتحدّثتْ عنهُ بكلّ تفاصيلِهِ.

مِن هنا جاءَ إيماني بما عملت، وصبري الطّويلِ لإنجازِ ما أنجزت، وأنا سائرةٌ في الدّرب إلى ما شاءَ الله لي مِن عمر.



الفلاح.. هل لا زالَ فارسَ الأحلام؟ وأينَ هو اليوم؟

مِن المُتّبعِ والمعروف بأنّ الإنسانَ كثيرًا ما يهربُ مِن واقعِهِ، ويلوجُ في عبابِ أحلامِهِ بما يُسمّى "أحلام اليقظة"، وهو ما تمّ المتعارفُ عليه في ظلّ المُتغيّراتِ التّكنولوجيّةِ في لغةِ الحاسوب "بالعالم الافتراضيّ"، حينَ يصعبُ على الفردِ تحقيقَ ما حلمَ بهِ أو أرادَ تحقيقهُ في واقعِه.

ولا أُخفي هذهِ الحالةَ التي تُرافقُني في كلّ فترةٍ يخلو فيها عقلي مِن مشاكل أو أحداثٍ يوميّة أو انشغالاتٍ تحتاجُ لترتيب، ففي فترة الخلوّ تلك والخلوة، ألجأ لتحقيقِ أحلامي الفلاّحيّةِ في عالمي الافتراضيّ، فتريْنَني أزرعُ وأحصدُ وأتصدّى لتغييراتِ المناخ، وأجمعُ محصولي تمامًا كما أردتُ أن أكون، لكن بدونِ الفلاّح رفيق الدّرب/ الزّوج، لأنّ أحلاميَ "الفلاّحيّة" كانتْ تستندُ للعملِ الزّراعيّ لشديدِ حبّي وهُيامي بها.

أمّا عن الفلاّح اليوم، فكيف لنا أن نتحدّثَ عنهُ بغيابِ الأرض؟ ماذا بقيَ مِن مُركّباتِه؟

الفلاّحُ هو نمطُ حياة، يُفكّرُ بشكلٍ مُغايرٍ، يتفاعلُ معَ الأحداثِ بشكلٍ مغاير، يفهمُ الخبرَ الصّادرَ عبْرَ المذياع وينقلُهُ لصديقِهِ بشكلٍ مختلف.

الفلاّحُ هو الأبدُ والأزل.. هو الحياةُ المُشبَعةُ بالخيرِ والعطاء.. هو الجنديُّ المجهولُ الّذي يُقدّمُ لنا الكثيرَ مقابلَ القليل.. يُذيبُ عمرَهُ في خُضارِهِ الّتي يَزرعُ وفاكهتِهِ الّتي يغرسُ ويقطفُ، ولم يعُدْ للفلاّحِ في ناحيتِنا الفلسطينيّةِ الإسرائيليّةِ سوى اسمٍ على غيرِ مُسمّى، وعليه، فقد غابَ عن ذاكرتي كيانُ الفلاّح الّذي تمنّيتُ في شبابي أن أحيا في كنفِهِ، وبقيَت الممارسةُ والحياةُ الافتراضيّةُ الّلتانِ لا أستطيعُ التّخلّصَ مِن عِشقِهما.



العائلةُ الموسيقيّة أثرُها في بلورةِ مواهبِكِ حدّثينا عنها..

لعائلتي الموسيقيّةِ بدايةٌ تعودُ إلى ما قبل كوْنها أسْرة، فكانَ هناك حبٌّ وشغفٌ بالموسيقا لكلٍّ مِن أمّي وأبي – رحمهما الله – في شبابهما، وكانَ طموحُ والدي أن يُتقنَ العزفَ على آلةِ العودِ منذ كانَ في حيفا، يستمعُ للمرحوم حليم الرّومي في صالون الحلاقةِ الّذي كان يُديرُهُ فيلومون وهبة، حيثُ اشترى عودَهُ الأوّلَ ممّا ادّخرَ مِن دخلِهِ القليل، في ظلِّ عائلةٍ فقيرةٍ عديدةِ الأولاد، وجميعُهم مِن الذّكور. وبما أنّ والدي هو الابنُ البكر، كانَ عليهِ أن يُعينَ والدتَهُ في أعمالِ المنزلِ مِن مسْحٍ للأرضيّة والكنس والعجْن وغيره.. وعندَ الفراغِ كانَ يلجأ "للسّدّه"؛ المكان المُرتفع في البيتِ لتخزين المُؤن، كي يُمارسَ موهبتَهُ للعزف على عودِه. وفي إحدى المرّات، كانت والدتُهُ بحاجةٍ لمساعدتِهِ ولم يستجبْ لندائِها، فصعدت إلى حيث كان، وحملت العودَ وكسرَتْهُ على رأسِهِ، ولم يكن أمامَهُ إلاّ الانصياع لأمرِها، بينما حملَ شغفَهُ بالموسيقا حتّى آخرِ أيّامِه. وقبلَ الدّخولِ في تفاصيلِ المسيرةِ الموسيقيّةِ للعائلة، أعودُ لعلاقةِ والدتي بالموسيقا:

فكانت والدتي تملكُ صوتًا رخيمًا مِن فئةِ صوتِ القديرة فيروز، ومِن محاسنِ الصُّدفِ أنّها تحملُ نفسَ الاسم، وكانت في مطلع شبابِها تُرافقُ جدَّها المرحوم "الخوري خليل" كاهن طائفة الرّوم الأرثوذكس في يافا النّاصرة، في أداءِ القدّاس الإلهيّ، الّذي يتطلّبُ الترتيلَ والنّشيدَ والتّسبيحَ البيزنطيّ، مِن أوّلِ القدّاسِ حتّى نهايتِه، وكانَ المُصلّونَ يغمرونَها بكلماتِ التّشجيع، نتيجةً لِما كانَ ينتابُهم مِن مشاعرِ النّشوةِ لرخامةِ صوتِها.. وهكذا، التقى عازفُ عودٍ لم تُسعفْهُ ظروفُ الحياة لإتمام قواعد موهبتِه، مع صبيّةٍ يملؤُها حبُّ الفنون، خاصّةً الغناء. وكانت مغامرتُهما الأولى بعدَ الزّواج أن التحقا بفرقةٍ للتّمثيل في حيفا، ومثّلا معًا مسرحيّةً بعنوان "ليلى بنت الصّحراء"، وهنا حلّ الغضبُ وقامت الدّنيا ولم تقعد..

أرسلَ أحدُ أقرباءِ جدّي لوالدتي برسالةٍ مِن حيفا، حيث كان يسكنُ ذاكَ القريبُ معَ عائلتِهِ، يستعرضُ فيها "العار" الذي لحقَ بالعائلة، نتيجة اعتلاءِ "فيروز" خشبةَ المسرح، وأخذ يتلو عليهِ مِن خلالِ الرّسالةِ ما سيحلُّ بالعائلةِ نتيجةَ هذا العملِ الطّائش، واختتمَ الرّسالةَ بأن استحلفَهُ بالأنبياءِ والصّالحين، بأن "يمحو عنهم هذا العار"، ويَثني والدتي عن التمثيل.. وهكذا كان.

كانت هديّةُ والدي الأولى لوالدتي بمناسبةِ عيدِ زواجِهما الأوّل آلةَ "هارمونيكا"، وهي آلةٌ موسيقيّةٌ تشبهُ "الأكورديون"، وبدأت تتعلّمُ العزفَ عليها، أمّا هو فقد أعادَ تصليحَ عودِهِ الذي كُسرَ على رأسِه، وعاودَ التّمرينَ والتدريبَ عليه.

وكان ما كان مِن حربٍ وتهجير، حيثُ استقرّت العائلة في النّاصرة، وما هي إلاّ سنواتٍ قليلة، حتى استأجرَ والدي بيتًا في حيّ السّوق؛ أحدِ أكثر أحياءِ النّاصرةاكتظاظًا وحيويّة، وافتتحَ استوديو للتّصوير، وكان الاستوديو جزءًا مِن البيتِ الّذي سكنّاه، فاكتفى بشراءِ بعضِ متطلّباتِ المنزل مِن أثاثٍ متواضع، إذ أصبحَ عددُ الأولادِ خمسة، وآلة البيانو كانت أوّلَ القِطعِ التّرفيهيّة الّتي دخلت البيت، إذ كنّا قد بدأنا أنا وأختي وأخي نتعلّم الموسيقا والعزف لدى راهبات الفرنسيسكان في النّاصرة، في نفسِ المدرسةِ التي نتعلّمُ فيها، وكانت أعمارُنا بين 6-9 أعوام، وبعدَ سنتين تحوّلَ أخي نبيل؛ ولاحقا د. نبيل عزام في الموسيقا وقائد فرقة "ميستو" العالميّة في لوس أنجلس، بدأ التّعلّمَ على آلةِ الكمان في حيفا في معهدِ روبين، وكانَ يُسافرُ لوحدِهِ مرّتيْن في الأسبوع. أمّا أنا فقد تحوّلتُ للعزفِ على آلةِ الأكورديون، بينما بقيت شقيقتي الكبرى نبيلة تُتابعُ دراسة البيانو، وهي اليوم معلّمة للموسيقا في كليّةِ إعدادِ المعلّمين في حيفا، وكلّيّةِ القاسمي في باقة الغربية، وأمّا شقيقتي الأصغر فقد برزت في مجال التّمثيلِ لاحقًا، فقد اختارَ لها الوالدُ مجموعةَ الآلاتِ الإيقاعيّةِ كي تُشاركَنا العزف، إذ بدأت فكرةُ تكوين الفرقةِ العائليّةِ تتبلورُ لديه، وكانت وقتَها في العاشرة مِن عمرِها، وحاولَ أخي الأصغر أن يتولّى هذه المُهمّة، لكنّ الوالدَ رفضَ ذلك، لأنّهُ لم يتجاوز السّادسة مِن عمره. وفي أحدِ الأيّام سمعَ عزفًا متقنًا على الإيقاعات "درامز"، ولمّا تفحّصَ الأمرَ وجدَ أنّ العازفَ هو الأخ الأصغر "حليم"، وهو اليوم طبيبٌ متخصّصٌ بالأمراض الجلديّة، ومنذ تلكَ الواقعة أصبحَ "حليم" ضابطَ إيقاعِ الفرقةِ الموعودة، إذ برعَ بالعزفِ وضبطِ الإيقاع، ممّا أذهلَ كلَّ مَن سمعَنا لاحقًا، وفي أوّل يومِ أحدٍ بعدَ انتقالِ مهمّةِ العزف على الإيقاع لحليم، سافرنا إلى حيفا، وتمّ اختيار آلة "اكسولوفون"، لتبدأ ناهدة التّعلّم عليها.

بدأنا نعزفُ كلٌّ على آلتِهِ بشكلٍ منفرد، حتى شاءت الأقدارُ وزارَنا المرحوم الموسيقيّ مارون أشقر لغايةِ التّصوير، فشرحَ لهُ الوالد عن مشروعِهِ بإقامةِ فرقةٍ موسيقيّةٍ عائليّة، وأسمعَهُ عزفَنا الواحد تلوَ الآخر، ولم يتوانَ الوالدُ بأن عزَفَ هو نفسُهُ على عودِهِ، ومِن هنا كانت البداية. لم يفوّت الأستاذ مارون هذهِ الفرصة، فعرضّ على الوالدِ أن يقومَ بتدريبنا في فرقةٍ واحدة.

لكن والدي لم يسمحْ بأن تبقى والدتي خارجَ السّرب، فاستشارَ الأستاذ مارون في نوعيّةِ الآلة التي تتخصّصُ بها الوالدة، تكون مناسبةً لها وتسدُّ فراغًا في الفرقة، واستقرّ الرّأيُ على آلة "التّشلو" التي تُعطي الطّبقةَ المنخفضة في العزف، وتُشكّلُ الأرضيّة الّتي تحتضنُ أصواتَ الآلاتِ الموسيقيّة، وهي مِن الآلات الهامّةِ في أيّةِ فرقةٍ موسيقيّةٍ تؤدّي المعزوفاتِ بعيدًا عن أغاني الأعراس.

وانطلقت هذه الفرقة التي اختارَ لها والدي اسمَ "فرقة بيت الفن"، وأخذنا نجوبُ البلادَ في عروضٍ مميّزةٍ لمناسباتٍ خاصّةٍ أو خيريّة، أو استقبال شخصيّاتٍ رفيعة، ولم نتقاضَ أيّ مقابلٍ لعزفِنا سوى أجورِ وسائطِ النقل التي كانت تُقلُّنا حيثُ المناسبة.

مِن هنا بدأ يتحقّقُ حلمُ الوالدِ بمحاكاةِ عائلة "دار الخِلّ" النصراويّة، والّتي كانت رمزًا مميّزًا للموسيقا، إذ كانَ الوالدُ المرحوم جريس الخل يعزفُ على آلةِ "الهرمونيكا"، وولدُهُ الأستاذ يوسف الخل، أمدّ الله في عمرِهِ كانَ يعزفُ على آلةِ البيانو، والابنة ماري تعزفُ على النّاي، وباعتقادي أنّها كانت أوّلَ معلّمةٍ للموسيقا في البلاد، فهذه العائلة التي كانت المثلَ الأوّل، تأثرَ بها والدي عندما وضعَ خطّة إنشاءِ فرقتنا الموسيقيّة.

وفعاليات الفرقة طويلة وعريضة في الأحوالِ الموسيقيّةِ التي كانت تسودُ الناصرة والمنطقة، إذ كانَ بيتُ العائلة منتديًا للمواهبِ الموسيقيّةِ والمسرحيّةِ والأدبيّة، مع غياب وندرةِ المحاور التي تحتضنُ كلَّ ما ومَن ذكرت، ممّا أكسبَني العديدَ مِن المعارفِ التي يصعبُ الحصولُ عليها في الظّروفِ العاديّةِ بعدَ نكبةِ الشّعب الفلسطينيّ، إذ كان همُّ النّاسِ الأوّل تأمينَ لقمةِ العيش، والبحثَ عن مسارٍ اجتماعيٍّ بديلٍ ومُغايرٍ لِما اعتادتهُ معَ اختلافِ الحُكم والحاكم.

لقد تأثّرتُ بالغ الأثر بهذهِ الأجواء التي سادت البيت، ولملمتُ معارفَ وثقافاتٍ لم تُتحْ لسواي، ممّا تركَ بصماتِهِ على تكوين شخصيّتي، وساعدني في التّعرّفِ على مختلفِ الفنونِ الموسيقيّةِ والمسرحيّةِ والأدبيّة. واعتقادي بأنّ المثقّفَ هو الذي يعرفُ شيئًا عن كلّ شيء، كانَ بوّابةَ ثقافتي، ممّا ساعدَني كثيرًا بكتابةِ أبحاثي في مجالِ الفلكلور، علمًا بأنّي لم ألتحقْ بالجامعة، ولم يكن لي نصيبٌ في الدّراسة فيها، ممّا شكّلَ "كابوسًا" لاحقني في فترةٍ مِن عمري، ظننتُ فيها أنّ حياتي خاليةً خاويةً لا طعمَ لها ولا رائحة، لأنّ تربية أولادي قد استحوذت على كلّ قوتي وعزّ شبابي، لكنّي عدتُ وانتفضتُ على الظّروف، وبدأتُ مسيرتي المعرفيّة في زمنٍ متأخّر نوعًا ما، ووصلت لدرجةٍ أرضت بعضَ طموحي.



حدّثينا عن إنتاجِكِ في مجال الفلكلور، وما هي المراحل الّتي ابتدأتِها واجتزتِها..

لم أكنْ أتصوّرُ بعدما انفضَّ أسبوعُ التّراث في مدرستي، بأن أبحرَ في هذا العالم المُسمّى فلكلور، فتصفّحتُ ودرستُ المادّةَ الغنائيّة التي جمعتُها مِن قريةِ عين ماهل لإنجازِ الأسبوع، ووجدتُها ثروةً لغويّةً تراثيّةً اجتماعيّةً قد فاقت تصوّري، وتراكمت في ذهني مجموعةٌ مِن التّساؤلات: لماذا، كيف، أين، وما الهدف، والكثيرُ مِن الأسئلةِ التي لم أستطع الإجابةَ عليها، لكنّي أردتُ أن أجيب...

حملتُ تصوّري الأوّليّ لِما سوف يكونُ عليهِ التّعاملُ معَ الأغاني النّسائيّة، ورتّبتُها في بطاقاتٍ صغيرة، واتّصلتُ بد. منعم حدّاد، صاحب أوّل رسالة دكتوراة في التّراثِ الشّعبيّ، الذي كانَ مِن بين الحضورِ في أحدِ مهرجاناتِ أسبوع التّراث، واتّفقنا على اللّقاء الأوّلِ لأعرضَ عليهِ برنامجي، وكانَ لهُ الفضلُ الأكبرُ في تشجيعي للمضيّ في هذا الدّرب، وأهمُّ ما منحَني هو إمكانيّةُ الدّخولِ لمكتبةِ جامعةِ حيفا، واستعارة الكتب الّتي أريدُ على اسمِه. وبدأتُ في جمْعِ المزيدِ مِن الأغاني، وسِرتُ في خطوتي الأولى التي تدحرجت بعدَها، ولم أستطع التّوقّف، فكان عملاً مضنيًا في فترةٍ زمنيّةٍ كان أولادي بأمَسّ الحاجةِ لوقوفي إلى جانبهم، فترةِ دراستِهم الثّانويّة، ناهيك عن عملي في التّدريس، ومسؤوليّة الزّوج والبيت، إضافةً إلى أنّ مهمّتي هذهِ غيرُ مسبوقة، ولا مصادرَ مِن تجارب سابقة. إنّه الإيمانُ بالمهمّةِ والإصرار شدّاني للاستمرارِ والمواظبة.

وبعدَ أربع سنواتٍ مِن العمل الدؤوب من عام 1989، وتحت عنوان "الأغاني الفلكلوريّة النّسائيّة لمناسبةِ الخطبةِ والزّواج"، صدر بحثي الأوّل وعمّمتُهُ بين أبناء البلد، وضمّنتُهُ دراسةً مستفيضةً لمجموعةٍ مِن أغاني الأعراس النّسائيّةِ لمختلفِ طقوس العرس، وقد أعدتُ طباعةَ البحث عام 2006، نظرًا لتراكُمِ الموادّ الّتي واصلتُ جمْعَها على مدى سنوات، فأخذت تتعالى أصواتٌ تُطالبُني بجمْع أغانينا النّصراويّة بهدفِ تعميمِها على الجيل الجديد، خاصّةً وأنّ الشبابَ لا يجدون ما يغنّونَهُ معًا لدى إقامةِ المؤتمراتِ العالية، وكان بحثي الثاني تحت عنوان "أغانينا النّصراويّة، شاميّة وجاي مِن الشام" عام 1993.

ومِن الأغاني النّسائيّةِ في العرس وقفتُ على أهمّيّةِ بعضِ معتقداتِنا الشّعبيّة، وأخضعتُ إحداها للبحث، وكانت عن الحسد "صيبة العين"، وصدرَ كرّاس يحملُ ذاك البحث.

أمّا المهمّةُ الأصعب فكان بعنوان" الأمومة والطّفولة في الفلكلور الفلسطينيّ "يا ستّي ويا ستّي"، البحث الخاصّ بعالم الأطفالِ والطّفولة، وسبب التّسميةِ كان للفترة الزمنيّةِ التي جمعتُ فيها مضمونَ البحث، منذ كنتُ أقول لجدّتي "يا ستّي"، حتى أصبحَ لي أحفاد يُنادونني "يا ستي". وكانت مجازفةً كبيرة يومَ أن قرّرتُ إخراجَ هذا البحثِ للنّور، لِما يحملُهُ مِن توضيحٍ لحالِ المجتمعاتِ العربيّةِ التّعيسة، خاصّة الفلسطينيّ.

وآخرُ إنتاجي كتاب "قريمشِه يا قريمشة"، ومِن أكثرِ الأمور التي قرّبت موادّ الأبحاثِ لنا، كانت فكرةُ إصدارِ أسطواناتٍ مُدمجةٍ لمجموعةٍ مختارة مِن جميع الأبحاث التي أصدرْتُ، ولها حكاياتٌ لأسبابِ صدورها.



منهاجُ تعليم التّراثِ في مدارسِنا العربيّة، أين هو اليوم؟

في الحقيقةِ قمتُ بوضعِ تصوّرٍ لمنهاج تعليم التّراث الشعبيّ ليسَ للمدارس، إنّما لجيلِ الطّفولةِ المُبكّرة لمختلفِ فنون التّراثِ الشّعبيّ؛ أغنية، حكاية، أمثال، ألعاب، حزازير وسواها من موروثِنا الشّعبي، وقطعتُ بذلك شوطًا كبيرًا، لكن "النّصيب" قد حالَ دون ذلك، إذ تعطّلَ الحاسوب الذي وضعتُ بهِ برنامجي، وأُتلفت جميعُ الموادّ التي جمعت، وبعدَ فترةِ الصّدمةِ الّتي هزّتْني عدتُ لأراجعَ أفكاري، لاعتقادي أنّ ما حصلَ هو مؤشّرٌ لي لإعادةِ التفكيرِ بطريقةٍ أخرى لتنفيذِ ما خطّطت، وقد تعلّمتُ مِن تجاربي الكثيرة أن لا أعاندَ قدري، وما دامَ نتاجُ جهدي قد ضاعَ في بطن الحاسوب المُعطّل، فلا بدّ أنّ المنهاجَ أو طريقةَ وضعِ المنهاج بحاجةٍ لتعديل. فبدلَ مِن قولي "يجب أن." و"عليّ أن.." جاءت فكرةُ الكتابِ الأخيرِ الذي صدرَ لي بعنوان "قريمشه يا قريمشه"، والّذي ضمّنتُهُ مجموعةً مِنَ الأغاني الّتي قمتُ بتأليفِ مجموعةٍ منها على أُسُسِ تصوّري للمنهاج، إذ بنيتُ الأغاني على مجموعةٍ مِن موروثاتِنا الشّعبيّة، مِن أمثالٍ ونباتاتٍ وألعاب وسواها.. فمن "الأمثال" على سبيل المثال قلت:

أوّل مثل حلو كثير/ وتا الواحد يْصير كبير/ "نام بكير وقوم بكير وشوف الصّحة كيف بتصير"...

أمّا ثاني نصيحة/ للصّحّة كثير مليحة/ بيوصّونا نوكل زيت/ تنصير نناطح الحيط...

وفي مجال الألعاب الشّعبيّة: تعو نعمل دوريّة/ أوسع مِن الطبليّة/ ونقرمز سوا ونلعب/ "طاق طاق طقية".

وكذلك: إحنا في شهر تشرين/ بردو بيكتّ المصارين/ والحبوب أحسن مأكول/عدس وحمص وفول...

ولم يغِبْ عن بالي تفسيرُ معظم الكلمات والعبارات التي لها خصوصيّة شعبيّة قد غابت أو كادت تغيبُ عن فهْم الجيل الجديد، ولعلّ ذلك يُفيدُ في الإبقاءِ على تراثِنا حيًّا في أوساطِنا الشّعبيّة، ولا أبالغُ إذا قلت أنّ العديدَ مِن الأهل لا يفقهونَها. مثلاً: عندما كتبت أغنية "العجين" وعمليّة العجن، وورد ما يلي:

لمّا بتخلص العجنة منرَدّدْها/ نريِّحها ونقطِّعها ونْكَوْبِجها/ وبالشّوبك عّالطبليّة ومنِفْرِدُها/ بتصير كماجة بتخْمَر ومنخبزها...

فما معنى "منرددها" وكذلك "نكوبجها" و "شوبك" و "كماجه"، فهذه الكلمات قد غابت عن قاموسِنا البيتيّ مع انتشارِ المخابز والخبز الجاهز.

ومِن الجدير ذكرُهُ أنّ شقيقتي نبيلة قامت بتلحينِ جميع الأغاني، وكتابةِ النّوتة الموسيقيّة، والصّديقة سسيل كاحلي رسمت لوحاتِ الكتاب، وتألّقت الصّبيّة جيهان أبو آمنه في غناءِ جميع أغاني الكتاب، حيثُ أصدرت اسطوانة مدمجة ألحقتها بالكتاب، وأنا الآن بصددِ إصدار مجموعةٍ مِن الحكاياتِ الشّعبيّة التي قمت بحكايتِها لأطفالِ الرّوضات التي أشاركُ بالإشرافِ عليها متطوّعة، والتي هي ضمنَ مؤسّساتِ مجلس الطائفةِ الأرثوذكسي، الّذي أشغلُ فيه مقعدًا في هيأتهِ التمثيليّة، وكذلك أحاولُ إصدارَ كتابٍ آخر لمجموعة أخرى مِن الأغاني.



كونك (عضوة ومتطوّعة) في مجلس الطّائفة الأرثوذكسيّ في النّاصرة، حدّثينا عن نشاطِكِ الآخر معه!

أنا عضوةٌ في اللّجنةِ المُشرفةِ على مؤسّسةٍ تابعةٍ للمجلس، وهي "دارة الثقافة والفنون وبيتِ الكاتب"، فإلى جانبِ الدّوراتِ المتعدّدةِ لتعليم العزفِ على الآلاتِ الموسيقيّةِ المختلفة، نقومُ بتحضيرِ برنامجٍ شهريٍّ بعنوان "صالون الدارة"، نقدّمُ مِن خلالِهِ شخصيّاتٍ أدبيّةً وفنّيّةً لمختلفِ المجالات، وقد وضعنا هدفًا واضحًا للبرنامج الشّهريّ، أن يُرافقَ أيَّ ضيفٍ أدبيّ موهبةً مِن مواهبِنا الموسيقيّة المَحلّيّة، تشجيعًا لتلكَ المواهبِ للاستمرارِ في مسيرتِهم الفنّيّة. ولا يفوتُني في هذهِ المناسبةِ التنويه، بأنّنا أقمْنا أوّلَ وأهمَّ جاليري على درجةٍ عاليةٍ مِن المهنيّةِ في الدّارة، لعرْضِ لوحاتٍ لفنّانينَ تشكيليّينَ مِن جميعِ المناطق، وقد نجحْنا في ذلك نجاحًا باهرًا.



باعتقادِك، هل يستطيعُ فلسطينيّو الدّاخلِ الحفاظَ على موروثاتِهم الشّعبيّة؟ وما دوْرُ المؤسّساتِ في ذلك؟

باعتقادي أنّ موضوعَ التّراثِ الشّعبيّ مِن أكثرِ المواضيعِ تعقيدًا في ظلّ الظّروفِ الّتي نحياها في الدّاخل. فمِن جهةٍ هو الهُويّةُ والوجود، والشّاهدُ على كينونةِ الشّعب، وهو مِن أكثرِ المواضيع التي لها علاقةٌ "بالتاريخ والجغرافيا"، هذا مِن بابِ الحفاظِ على الموروثاتِ الشّعبيّةِ بكلّ فروعِها. فكيفَ تتصوّرين مصيرَ التّراثِ مع تطوّرِ الزّمنِ وغيابِ المناخ العامّ، كتحوّلِ المجتمعاتِ الزّراعيّةِ المُنتِجة، والدّفيئة لإنتاج الموروثاتِ الشّعبيّة والحفاظ عليها، وتحوُّلِ مجتمعِنا كما سوانا إلى مجتمعاتٍ مُستهلِكةٍ بامتياز!؟

الحفاظُ على موروثاتِنا الشّعبيّةِ بحاجةٍ إلى مؤسّساتٍ تقومُ بجمْعٍ مُمنهَجٍ للموادّ المبعثرةِ في عقولِ وشفاهِ وذاكرةِ أفرادٍ مِن فئةٍ عمريّةٍ معيّنة، وممّا يُؤسفُ له أنّ تلكَ المجموعة، أعني كبار السن، قد بدؤوا يتناقصون بشكلٍ كبير، وعليهِ، فإنّ الحفاظَ على موروثاتِنا هو مِنَ المُعضلاتِ الّتي نُواجهُها، ولا أدري كيف نستطيعُ حلّها، إلاّ ما قامَ ويقومُ بهِ بعضُ أفرادٍ مِن مجهودٍ شخصيّ وميزانيّاتٍ خاصّة، ومِن بينِهم أنا، حيث استطعنا التقاطَ الجزءِ اليسيرِ قبلَ فواتِ الأوان، وذلك لغيابِ المؤسّساتِ الّتي ترعى ذلك.

CONVERSATION

0 comments: