أمي..../ محمود شباط

كتبت هذه الخاطرة منذ سنوات. وأود إهداءها إلى روح أمي بمناسبة عيد الأم.
بعد مرور عشرة أيام على رحيل أمي إلى مثواها الأخير ، كنت على موعد قاس، موعد صعب آخر يكاد يوازي الأول إيلاما، استحقاق مرير تجسد باضطراري للعودة إلى عملي، مغادراً دياري قسراً إلى غربتي، ولكن دون أن تودعني أمي هذه المرة كما اعتدته حين أبارح الدار.

في ذلك الصباح الموشى بغيوم الفراق ووجوب السفر . في تلك السويعات المخضبة بألم انخلاع الجذر من مهد تربته ، تـَسمـَّرْتُ قبالةَ بابِ و نوافذِ و حيطانِ البيتِ الذي خلا من حركة و بركة أمي لأيام قلائل خلت كانت كلها كأنها البارحة . لـُذتُ إلى مصطبة الدار ، تلك الفسحة الخرسانية الفاصلة بين مدخل البيت و الطريق العام ، اقتعدتُ حافة حوض الورد الذابل الرابط بين الصنوبرة والتينة ، لم يكن أحد هناك ، كان الصمت و السكينة فقط و أنين نسيم خفيف يزن كنحلة عابرة عبر أسلاك الكهرباء و غصون و أوراق التينة و أغصان الصنوبرة.

لبثتُ هناك زائغاً حزيناً كتلك العصافير التي افترضتُ بأنها تزقو باسم أمي ، امي التي خلتها ستطل من الدار ببسمة أنيسة عودتنا عليها، تجول على مهلها على المصطبة ، مثقلة باعوام الترمل و القهر و الفقر، مرتدية كالعادة مئزرها الأسود المقلم بخطوط بيضاء نقية بنقاء سريرتها ، استحضرت طيفها صابرة متفانية طوال عقود الترمل ، تضطلع بمفردها بمسؤوليات الأب والأم معاً ، تختزن همومنا و آلامنا في قلبها الكبير ، تراكمها في قلب متألم ما شكت رغم تكرار شكواه ، و ما قالت بأنها تعبة رغم تعب خافقها الذي استسلم في النهاية ، و لكنها لم تتذمر و لم تشكو .

مكثتُ جالساً هناك مـُتـَحَـرِّقاً لوميضها في أية لحظة ، مشرقة بملامحها الوديعة الهادئة الحنونة الـمُـطـَمـْـئـنـَة . ولكنها لم تطل ، و لن تطل .

وحين خذلت قدرية الواقع و سـنـّة الحياة تمنيات و أحاسيس لا بد من مراودتها للبشر عند فراق الأحبة الأبدي ، ماج السكونُ على غدير الروح والعينين المغرورقتين بدمع الحسرة ، و أجـَّجَ لواعجَ الحنينِ في مهجتي بصورة رثاء لذكرى أمي .

ناجيتها باكياً من خلال جدران المنزل والتينة و الصنوبرة و ساحة الدار و حوض الورد الذابل . ناجيتها متنهنهاً كطفل ابتلاه اليتم للتو ، مدركاً بغصة خانقة استحالة إطلالة "أم محمود" كالعادة لوداعي ، و بأني لن أحظى بنعمة تقبيل يديها السمراوين النحيلتين المعروقتين خلال ذلك اليوم و ما بعده .
في غمرة رجوعي من نعيم اللاوعي إلى صخرية و قساوة وعي راهن ، طفا على شاشة عبراتي طيفها الساجي أثناء غيبوبتها في المستشفى ، ممددة على السرير الأبيض بين أسطوانة الأوكسيجين و جهاز يرسم على شاشته الخط البياني لنبضات قلبها الكبير ، بينما وجهها حيادي نقي صاف بنقاء و حيادية نجمة ليلية صيف، اتحرق لملامسة يديها فيحول بيني وبينها زجاج حجرة العناية الفائقة ، زجاج خلت ملليمتراته الرقيقة أميالاً و سنوات ضوئية ، و لم يتبق لدي في تلك اللحظات القاسية المريرة ما رجوت أن يسعف أمي و يشفيها سوى الدعاء بالرحمة و الإبتهال و الدموع.

وبينما جمر اللوعة يحرق ثنايا مهجتي لسفري هذه المرة دون التزود بدعائها و رضاها علي ، لأنها لم تكن هناك ، و لأنها لن تعود بعد الآن ، كنت أعاهد النفس على استبقاء ذكراها ملتصقة بسويداء القلب و شغاف شغافه ، و بأنها لن تبرحهما إلى أن يختلط الرميم بالرميم .

مع اشتداد ضغط قبضة الشجن على عنق كيان المفتقد ، انبثقت المشاعر منبجسة من ينابيع الموروث بصورة أبيات شعر كانت أمي تحب مثله ، فناجيتها من خلال الدار متحسراً :

بْخَاطـْركْ يا دار رَحْ سَافـِرْ الـْيَومْ
مْنْ دْيَار مَا بـْفـَضِّـلْ عَلـَيْها دْيَار
مْنْ رْبُوع خـِلـْيـِتْ مْنْ أعَزّ الـْقـَومْ
 مْنْ أم كـانت خـِيـرْة الأخـْيَــار
يـا دار أبكي !! ما عـْـليكِي لـَوْم
لـْكـْلّ فـْتـَقـَدْ يا دار... سْـتّ الدار
أمِّي لـَمَحْتـَا بـْنـَوم ما هو بـْـنـَوم تأخرت تا شوفا بـ ْهـَلمشوار
يــا دار حـَقـِّـك تـذكـريهـا دوم
ما بتنتسى !!! أمي من الأبرار
حتى حيطانك صار فيها كـْلـُومْ
و جـْدَار عم يهمس بإذن جـْدار:
شوف غصن التين كيف مهموم
شوف الصنوبر سَرْبـَلـُو الغبار
شوف السكون فراش عم بيحوم
شوف السطيحة بدونها بحيرة أسى
الـْكـْلّ افـْتـَقـَدْ يا دار سْـتّ الـدّار

الخبر في 28/08/ 2005

CONVERSATION

0 comments: