سرور والسمكة/ محمود شباط

اقتعد سرور صخرة تحت خيمته البدائية التي نصبها على شاطىء البحر منذ سنوات لتقيه حرارة الشمس بينما هو يصطاد السمك ليعيل زوجته وأطفاله. رمى الصنارة ومكث ينتظر اهتزاز خيطها ويتمتم بصلواته وأدعيته كي يُرْزقَ بكفاف يومه. وتمنى لو يتمكن من اصطياد صغير القرش الذي يجوب المنطقة فيخيف رواد البحر والصيادين على السواء.
في تلك الصبيحة الباكرة جداً كان بهير الضوء يزداد ذهبية إيذاناً بنهوض قرص الشمس من خلف الجبال. مياه البحر مائجة باعتدال أمـْيـَل إلى الهدوء تتلاعب مع ريح خفيفة عذبة.
لم يكن فقر سرور هو ما يوجع قلبه بل كيدية زوجته مرمرة وطلباتها التي تفوق إمكانياته ويردد في ذاته ما يسمعه عن "كيدهن العظيم". مرة أخرى خطر في باله أن يتصدى للقرش ويصيده ليثبت لمرمرة بأنه رجل ليس ككل الرجال ولتتحدث البلدة عن شجاعة سرور.
في غمرة عومه في بحر هواجسه أطلت من البحر فتاة جميلة جداً نصفها الأسفل سمكي. فاجأه المشهد فارتد إلى الخلف وكاد يصرخ . لقد رأى قبلاً معظم مخلوقات البحر ولكنه لم ير حورية بحر ظن بأنها من بنات أفكار من رواها له. ولكن في ذلك اليوم مرَّت الحورية من هناك. جاءت لتصطاد سرور الذي يحرمها من رزقها. يومها أطلت الحورية من أهازيج حفيف الموج وزبده الناعس، بيضاء صبوحة المحيا، راقبته باحتراس لبرهة ثم غاصت بخفة في البحر. غابت عن ناظريه ولكن طيفها ظل ماثلاً. وبقدر انصهاره بحضور سحرها كان انبهاره بمشهدية نصفها السمكي. لبث يحدق في المكان الذي كانت فيه وغاصت في الماء بحيرة ويتمتم متسائلاً : أكان ذلك مجرد خداع بصري ؟
روى سرور ما رأى. أو ما ظن بأنه رأى. ضحك السامعون، حتى أصغر أطفاله ابتسم بخبث. قرر سرور التزام الصمت وشعر بدبيب الشك يراود صحة الذات. سيما وأن محور اهتمام البلدة كان في حينه يتموضع حول ما أشيع عن ذلك القرش الشرس الذي قضم شبكة صياده ونفذ منها ثم ارتد نحو الصياد ليفترسه، وبأنه لا يزال يجوب منطقة الشاطىء الصخري.
في يوم آخر . كانت شمس الربيع تبث دفقاً من الدفء الحميم. والبحر يتألق بجلبابه الأزرق كعريس عشية زفافه. مضت ساعتان فقد سرور خلالها الكثير من الطعوم دون طائل. ثم فجأة ، وعلى بعد أمتار قليلة ظهر مخلوق مائي بحجم القرش. تأكد منه سرور وتابع الوحش البحري بهلع بينما القرش يمخر المياه بسرعة متعقباً طرائده. فزع سرور أنساه طلبه للمجد والشهرة. سحب الصنارة من الماء وانتظر إلى أن ابتعد القرش ولحق بطريدته وغطس بها صوب المنطقة العميقة.
بعيد دقائق عادت المياه إلى هدوءها ونبضات قلب سرور إلى طبيعتها. رمى الصنارة والطعم في الماء مجدداً ومكث ينتظر مقرراً تحدي القرش مُصِرّاً على نيله مفخرة اصطياده. تقوست القصبة وارتعش خيطها بشدة غير معهودة. جذبها سرور، بل حاول جذبها ولكنه لم يـُفلح . كانت ثقيلة كما لو كان خمسة رجال يشدون بها إلى الأسفل. ارتعدت فرائص سرور لافتراضه بأن القرش الشرس ينوي اصطياد صياده. تشبث بالقصبة بقوة الخائف بينما طريدته المفترضة تمور بقوة وعنف ثم شدته نحوها على حين غرة فانزلقت قدماه وكاد يهوي نحو فكي طريدته، توقف عن الإنزلاق حين انقطع الخيط وفرت الطريدة مبتعدة. قرر التحدي أكثر طلباً للشهرة والمجد والكبر بعين مرمرة والصيادين. استبدل خيط القصبة باثنين وجدل أحدهما حول الآخر ثم شبك في نهايتيهما الخطافين الكبيرين وتمترس خلف صخرة قوية . مكث ينتظر ويراقب. رصد ظلاً يقارب القرش حجماً وشكلاً على عمق عدة أمتار يجوب المياه فصار سرور يصرخ به مهدِّداً كي يقترب. بقي سرور يصرخ بالقرش ويعبىء شجاعته للمعركة الفاصلة معه. وما هي إلا لحظات حتى حانت ساعة الحسم حين انثنت القصبة بانحناء حاد. خمن سرور بأن الصيد ابتلع الطعم . ثبت في موقعه كي لا يجره القرش نحوه. شرع بمناورته ، الوحش البحري يقترب قليلاً ثم يبتعد فيشده سرور بقوة ثم يرخي الخيط حين يشعر بالخطر بأن القرش تغلب عليه في حركاته العنيفة السريعة وهو يدور ويغطس ويصعد بانعطافات حادة وعنيفة وشرسة أربكت سرور وأذهلته وكاد يـُفلت القصبة لو لم تهدأ الطريدة فافترض بأن طريدته في طور الإستسلام .
تنفس سرور بارتياح من مر بقطوع وظن بأنه نجا ثم بدأ الجذب باحتراس خوفاً من أن يغدر به القرش وينهش قدميه حين يصل إلى مقربة منه. تغيرت صورة طريدته الآن. الطريدة ليست سمكة قرش. إنها بشري .صار يشدها شبراً شبرا نحوه ويتبدل مشهدها مع اقترابها أكثر فأكثر. اتضحت ملامحها ، إنها الصبوحة التي ذكر بأنه رآها وشكك السامعون بروايته وشكك هو بنفسه حين رواها. هي الصبوحة بعينها. بل بعينيها الحلوتين جداً وشعرها الأسود الأملس المبلل. نظرت الحورية نحوه تستعطفه فطلب منها الإستسلام .رفعت يديها. في راحتها اليمنى علق الخطاف الأول وباليسرى الخطاف الثاني وبقية خيط مقطوع. ماجت بذراعيها الطويلتين المتناسقتين عبر سطح الماء مستسلمة ولكنها كانت تلتفت يمنة ويسرة متحينة فرصة الفرار. ولكنها لم تفر لأن الخطاف المنغرز في راحتها سيؤلمها إن حاولت. شدها سرور نحوه فتأوهت عيناها الساحرتين وملامح وجهها الحلوة ، أشفق عليها وقرر معاملتها برفق متأثراً بفتنة جمال تينك الذراعين كما لو كانتا جناحا فراشة كبيرة. اطمأن لإلفتها الظاهرة وشمت باستسلامها. ابتسم باشتهاء لسكر مقلتيها. ضعف أمام فتنتها وصار يقارن جمال هذه الحورية بدمامة مرمرة. لم تطاوعه يداه على جذبها بقوة بالخطاف. أومأ لها أن تقترب فبدا الخوف على وجهها الجميل. مع كل لحظة تمر وهو يتملى بحلاوتها كان يزداد ضعفاً حيالها. وهام بها حباً حين فاجأته بأنها تتقن لغته ولهجته فبادرته بعتابها :
- لماذا تطاردني ؟ هل غزونا بركم يوماً لنصيد إنسانا ؟
- ضحك بنشوة المنتصر : يا لمكرك ! أوتجرأين على السؤال ؟ ألست أنت أيضاً من كان يحاول اصطيادي وتشدين بالخطافين لجذبي نحو الماء لافتراسي؟ ولو تمكنت مني لكنت أنا في موقع المنهزم الآن.
تجاهلت سؤاله وألحت عليه أن يطلق سراحها .
عذوبة صوتها أنسته خوفه منها وضعفه حيالها في آن فأكمل مذكراً إياها بأنه المنتصر : ولكني وفقت بك وهزمتك.
شعت على وجهها الجميل جداً هالة ضوء . أو هذا ما رآه سرور ثم استفسرته : أنت تعتاش من مهنة صيد السمك وهذا يعني بأنك فقير .
هز رأسه فقالت أفلتني كي أجعلك ثرياً . لدي لؤلؤة كبيرة سأهديها لزوجتك.
اعترض بغضب : تهدينها لأولادي
سأجلبها لك وأنت تهديها لمن تشاء.
- سألها : من أين لك بها ؟
- من جوف سمكة كبيرة اصطدتها السنة الماضية.
- إذن أنت أيضاً تصطادين السمك ؟
- فقط ما هو أصغر مني وأضعف. وقد أكون يوماً ما فريسة سمكة أكبر وأقوى مني . كبيرنا يأكل صغيرنا كما يأكل كبيركم صغيركم . ثم ذكرته بالهدية : أطلق سراحي لأجعلك غنياً و قوياً .
- قولي لي أولاً كيف عرفت بأخبارنا طالما أنك لا تستطيعين العيش خارج الماء؟
- بل أستطيع العيش خارج الماء. لقد مضى على وجود رأسي مدة طويلة خارج الماء ولم أتضايق.كل أهلي وعشيرتي يستطيعون ذلك. أما كيف عرفت بأخباركم فإني استمع إلى الصيادين ورواد البحر. أسمعهم يتناقشون بما تسمونه ديموقراطية ويتحدثون بشيء عرفت بأن اسمه سياسة.
- دعينا من الديمقراطية والسياسة ؟ قلت ستجلبين لي لؤلؤة كبيرة أم أنك تخدعينني ؟ كيف لي أن أثق بك ؟
- لن أكذب عليك لأني لا أستطيع العيش في غير هذه المنطقة ، أخاف مغادرتها إلى حيث يعيش السمك الأكبر.
- ألا تخافين القرش الصغير الذي يجوب هذه المنطقة؟ لا تقولي لي بأنه غير موجود. لقد رأيته بأم عيني منذ أيام. و ظننت اليوم بأني قد اصطدته هو وليس أنت .
- لا تستهن بقوتي ! هذا القرش لا يجرؤ على مواجهتي. وسوف يرحل تلقائياً إلى المياه العميقة بعد أن ألتقيه وألقنه الدرس الذي لن ينساه. أطلق سراحي لأحضر لك اللؤلؤة !
- مرة أخرى سألها : كيف لي أن أثق بك ؟
- قلت لك بأن هذه منطقتي ولا أجرؤ على مغادرتها. وسوف أبقى أجول بها وقد تصيدني مرة أخرى إن كذبت عليك ولن ترحمني إن كذبت عليك. أتصدقني الآن ؟ .
- حسناً ! اقتربي !
اقتربت ببطء وحذر فانتزع الخطافين من لحم راحتيها وغسل الدماء عنهما وقبلهما وقبل ذراعيها فابتسمت الحورية له. شعر بحرارة أنفاسها تلفح وجهه فارتخت مفاصله. قال لها بأنه يرغب في الزواج منها : "هل تمانعين" ؟
- بمكر قالت له : أنا لا أمانع ولكن علي أن أسأل أهلي ثم صارت تدور في مكانها بحرية الواثق قراره القادر على المغادرة حين يشاء وفي أية لحظة ولكنها ظلت تسايره.
- أحضريهم إلى هنا ! قال لها.
- لن يقبلوا بالمجىء ولكني متأكدة بأنهم سيقبلون بك عريساً لي ثم سبحت مبتعدة ببطء.
وبينما هي تبتعد كان يراقبها باشتهاء فرأى ما يراه عند أناث البشر. سألها مرة أخرى وأخيرة ليتأكد من أنها ستعود بموافقة أهلها على زواجه منها وباللؤلؤة فسمعها تضحك قبيل غطسها: كيدهن العظيم في البر والبحر أيضاً . ألا تفهم ؟.

CONVERSATION

0 comments: