عودة إلى ( نفحات رحلة )/ نبيه سلامة

 مع مفيد محفوض
هما شابان أديبان يدرسان الآداب في كلية حلب ،وكلاهما من بلدة محردة ، وعندما قرأا في مجلة اليقظة قصيدتي عن ((محردة )) التي أقول فيها :
سبحان من جمع الجمال ونضده
ورمى به عقدا ً بجيد ((محرده ))
بلد ٌ يعيش مع العصور ولم يزل
بين البلاد الفاتنات زمرده .
أخذا يبحثان عن قائل القصيدة ، وطال معهما البحث وهما يحاولان معرفة الشاعر الذي مدح بلدتهما ولا يعرفانه . وبعد جهد اتصلا بنعمان حرب أديب السويداء ودلهما على عنواني ، وأهداهما كتابه عني ((الشاعر نبيه سلامة )) وكتبا لي فورا ً وأجبتهما ، وابتدأت بيننا مراسلة أدبية تدل على مقدرة الأديبين في تناول كل بحث جديد ، وعلما بعودتي للوطن فجاءا للسلام وقضينا ساعات معا ً حدثتهما عن السنين التي قضيتها في محردة وكنت معجبا ً بها وبأهلها كأحب أبنائها .
 دخول محردة
في أوائل تشرين الأول 1927 طلعت سيارة من حمص تحمل : سيادة المطران ابيفانيوس زائد .. قدس الأب الخوري عيسى أسعد محرر جريدة حمص .. الأستاذ محرز سلامة ونبيه سلامة الذي عينته الحكومة معلما ً ومديرا ًلمدرسة محردة ، وفي حماة انضم إلينا صاحب السيادة اغناطيوس حريكة مطران حماة لأن محردة من أبرشيته . ونزلنا في بيت زعيم الضيعة عبود بيطار والتف حولنا عدد كبير جاؤوا لاستمداد البركة والتعارف . كنت أول معلم من قبل الحكومة وكانت الكتاتيب الخاصة في بيوت كثيرة . فأقنعت الأهلين لإرسال أولادهم إلى المدرسة فالتعليم مجانا ً ، ويتناول كل المواد لمن يحب أن يتابع الدراسة .
فبعد إلغاء أو إغلاق جميع الكتاتيب ، أخذت بترتيب الصفوف حسب معرفة كل منهم ((وكتبت لوزارة المعارف بالحاجة إلى مدرستين فلبت الطلب )) . ولا يجب أن ننسى فضل سيادة المطران على مدرسة محردة ، فكان بتوصية منه نحصل على مطاليبنا .
وكانت المدرسة في غرفة في باحة الكنيسة ، ولكن حماسة المواطنين بنت خارج المدينة مدرسة صحية وفيها أربع غرف . وعندما أتممت ترتيب الصفوف وعلمت وزارة المعارف بذلك أخذت ترسل المعلمين :
1- الأستاذ محمد الشققي من حماة
2 – الأستاذ يوسف الخوري من البيضا
3 – الأستاذ جورج غشاش من دمشق .
واحتفظت بالأستاذ أسعد هزيم والد غبطة البطريرك الحالي للعناية بالصغار وتهيئتهم للصف الأول . وسارت المدرسة سيرا ً حسنا ً وحملت لأول مرة طلابها إلى حماة ، وقدموا فحص الشهادة الابتدائية (( سيرتيفيكا )) وفاز البعض ، وواصلوا دروسهم وأكثرهم يحتلون مراكز سامية ، ومنهم اختصاصيون بالعلوم العصرية ، وعندما زرتهم عام 1971 وجدتهم مقيمين على العهد يعترفون بالماضي ، ودعوني : ((المربي الأول )) وأعجبني هذا اللقب ، لأنه مكافأة على جهاد وجهود السنوات الأولى ، وفي زيارتي الأخيرة عام 1985 فقد رأيت مدينة جديدة ، وفيها كل ما تتطلبه الحياة العصرية .. مدارس .. مستشفيات ..شوارع مزفتة .. بيوت عصرية .. جنائن حول البيوت .. كهرباء .. هاتف .. راديو .. تلفزيون ..وكل ما يتولد عن الكهرباء والاختراعات العصرية ، ورأيت حملة الشهادات العالية في جميع المهن الحرة كثيرين . وودعت وذكرت ما قاله بعضهم (( المربي الأول )) وصادق على أقواله الكثيرون .
مدرسة الإناث
لم تكن في محردة مدرسة خاصة بالبنات ، وكانت الفتيات بصفة عامة أميات ، وبعضهن يدرسن مع الذكور . ودخل عليَّ مرة مفتش معارف حمص وحماة وشاهد فتاة تدرس مع الذكور فاعترض ، وعبثا ً حاولت إقناعه في فضائل التعليم المشترك لأنه يثير المنافسة بين الجنسين ، ويكون أقرب الطرق للاجتهاد والتفوق . ولم تسفر فلسفتي عن النتيجة المرغوبة ، فنحينا الفتاة حينا ً ، وذهبت لعند سيادة المطران في حماة فدلني على الطريق الصحيح للمراجعة . والفتاة تدعى أجوج وشقيقها يدعى عازار وكان مهاجرا ًفي الأرجنتين ، وكان على اطلاع على الحياة وعمل سائق سيارة بالأجرة ، ودوما ً كان معنا ، وجاءنا يلح بإيجاد حل لقضية شقيقته ، وقمت بما يتطلبه الواقع . وكان لطلبنا وقعه المستحب ، وجاءتنا الآنسة نور عازار من حماة مدرسة للإناث وشكلنا المدرسة الإناثية ، وسارت في سبيل النجاح ، وكنت أنا المربي الأول للذكور والإناث .
بعد اجتماع طويل وذكريات حلوة ودع الشابان وانصرفا ، وبقيت شاخصا ً بعد رحيلهما ، أرى فيهما التاريخ يبرز حيا ً ، وأرى عهد محردة ماثلاً ً أمامي يدفعني لأقول :
ما كان أجملها ذكرى تعيد لنا
عهد الشباب وعهد الدرس والعمل
وكنت أحيا مع الطلاب مجتهداً
وكل ما أرتجي تحقيقه أملي
أمنية أصبحت كالنور ساطعة
والناس بالعلم والعرفان تشهد لي .
*مفيد ومحفوض : مفيد نبزو ومحفوض جروج .
جريدة حمص العدد 1684 الجمعة 13\ حزيران \
سنة 1986- جريدة أسبوعية تأسست عام 1909 .

CONVERSATION

0 comments: