مذكرات زَيـْنـُو (1)/ محمود شباط


نمت تلك الليلة وأنا أحلم بالسفر للعمل في بيروت، تضج مخيلتي الطفلية بانبهاري بصور تلك المدينة الجميلة التي لم أرها قبلاً، لا هي و لا بحرها ولامطارها ولا ميناءها ولا مبانيها الضخمة التي قالت عنها جدتي بأن الواحدة منها تستوعب الضيعة ببشرها وبقرها وماعزها وغنمها.
أيقظتني أمي قبيل الفجر كي لا يفوتني موعد السيارة. تناومت وتغطيت باللحاف إلى ما فوق رأسي متلذذا بدفء الفراش ونوم الصباح، دخان الحطب المتسلل من الفسحة الصغيرة أمام الدار يلفع أنفي، وقرقعة العيدان اليابسة المتأججة تحت إناء نحاسي كبير مليء بالحليب نسميه "دست" يصلني وميضها المتلألىء متماهياً بدغشة ما بعد الفجر، كانت أمي حينها تغلي الحليب "ليفور" كي تصنع منه لبناً وجبنة وقريشة، وبعضه تحوله كشكاً لتسلمه إلى عمي جادالله فيسوقه لحسابنا إلى زبائنه في زحلة وشتورة، تمغطت في فراشي وقلبت إلى الجهة الأخرى أتلذذ بسرقة غفوة قصيرة أعلم بأن أمي ستتغاضى عنها مـُقـَدّرَة ًتعلقي بالنوم في سويعات الصباح، مضت لحظات قبل أن أنغمس في غفوتي كنت خلالها أسمع تبرم أمي لخالتي سعدى من أعباء الحياة بعد وفاة أبي مبكراً لتربية أربعة أطفال أكبرهم أنا، و تشكو لها من إصرار أهلها على تزويجها لم أعلم ممن. ولا أعرف كم مر من الوقت قبل أن تعود خالتي إلى بيتها، و قبل أن يأتيني صوت أمي الحنون بطبيعته. سمعته ولكني تناومت في حضن لحظات تكاسل تتمطى، ثم تسللت غفوة قصيرة أخرى أنهتها أمي بصوت أعلى إنما رخيم محبب كما تحلله أذناي دائماً:
- يـَلــَّا يا زَيـْنـُو !
- بـَكـِّيـْرْ يـَمـِّي.
- لأ مْشْ بكير يا تقبرني . طـْلـْعْ لـْضَوّ وصار يـْنـْعَرَفْ لـْـكـَلـْبْ مْنْ لـْذِيبْ.
ببرود همة وفتور انبهاري ببيروت أزحت اللحاف عني ببطء. داهمتني موجة التعلق "بمسقط الرأس" وبـُعـْدي عن أمي وفراق أخوتي، تناهت لسماعي أصوات الحطابين ينهرون بغالهم ، وصياح الرعاة على كراريز تجلجل موسيقى الأجراس المعلقة بأحزمة جلدية في رقابها تتقدم القطعان صوب المراعي كما يتقدم حادي العيس القوافل في الصحراء. تثاءبت. نهضت بتثاقل وجررت قدمي نصف الخدرين نحو مطرة تنك مثبتة في الجدار الخارجي للدار نسميها مغسلة، في أسفلها سدة خشبية مخروطية الشكل نسميها حنفية، فتحت الحنفية ربع فتحة، قـَرَّبـْتُ يدي بحذر صوب الماء ونفرت من برودتها كممسوس بتيار كهربائي حين لامست أطراف أصابعي : أح ّحّ حّ حّ حـُوْ ! ، نظرت صوب الزقاق واطمأنيت إلى خـُلـُوّهِ من عابر محتمل يتفرج ويضحك، حـَمَّسْتُ نفسي وشحذت مروءتي كما أفعل كل يوم وغسلت وجهي ويَدَيَّ بسرعة "كغسيل لـْبـِسَسْ" كما تقول أمي ساخرة وأنا "أتأحأح" من سيبيرية تلك المياه اللعينة . أنهيت المعركة خلال ثوان وعدت إلى الداخل ركضاً. وقفت في الغرفة التي ننام ونأكل ونستقبل الضيوف فيها أجفف وجهي ويدي، بل أفركهم بقسوة لبعث إعادة الحرارة فيهم بقدر ما أستطيع، وبالتزامن أتملى بوجوه أحمد وحمزة وعمر النيام كزغاليل حمام رؤوسهم الجميلة على وسادة واحدة، أغبطهم لعدم بلوغهم سن العاشرة بعد، ولأنهم سوف يبقون ينعمون بتلك الغفوة الصبحية الحلوة ولن توقظهم أمي للعمل إلى أن "يبلغ" كل منهم كما "بـَلـَغـْتُ" أنا في العاشرة من عمري. ناولتني أمي صرة فيها حوائجي وزوادتي وهي تشرح لي بكلام كثير عن مبررات إرسالي للعمل في بيروت، فـَهـِمْتُ منها بأنها ما كانت لتطلب مني مساعدتها أو لتتحمل فراقي لو كان والدي لا زال حياً، ولو وُفـِّقـَتْ هي بالعمل في وظيفة مياومة لتنظيف المدرسة، ولكن قلة حظها وقلة الواسطة لدينا طـَيـَّرَتْ الوظيفة إلى من عندها واسطة. في تلك اللحظات تهدج صوتها فاعتقدت بأن حاقدة على من توسط لمنافستها في الوظيفة، ولكن أمي كانت ترمي باتجاه آخر فاخبرتني بأن امراة عمي نصحتها بعدم إرسالي إلى بيروت لأني " نـَيّ و مش شـِلـِشْ " كون بيروت "بـَدْهـَا رْجَالْ". وأنهت أمي توصيتها بأن أكون قـَدّ حَالـِيْ وأن لاأشَمِّت الناس فيها .
كنت أصغي إلى أمي وأتأمل وجوه أخوتي، ولكم تاقت الروح للبقاء معهم. كنت أتملى بعيونهم الملائكية المغمضة وألج هواجس افتقادي لهم في غربتي الأولى، قـَبـَّلـْتهم الواحد تلو الآخر. استوقفتني ملياً جبهة عمر، شقيقي الأصغر، مَرّرْتُ راحتي على وجنتيه المكتنزتين وعلى جبهته، أزحت شعره الأسود الفاحم الغزيرعن عينيه الواسعتين وقبلته وقبلته، لثمت يد أمي بتأثر، حـَمَلـْتُ صرة حوائجي وعدوت نحو الساحة حيث كان الشيخ يحيى يحمي محرك السيارة استعداداً للسفر إلى بيروت.
اثنان من الركاب سوف يترجلان في شتورة، عمي يوسف لتصريف منتجات قطيعه من الحليب والجبنة والقريشة في مطاعم شتورة ومنازلها، أما عمي جادالله فسوف يكمل إلى زبائنه في زحلة. كان بين رجلي عمي جادالله الجالس بجانبي في المقعد الخلفي نصف تنكة حليب غير محكمة السد يسعى جاهداً لتثبيتها بقدميه ولكنه يفشل في كل مرة فيتناثر منها رذاذ الحليب حين تتموج السيارة أو تعثر عجلتها في حفرة فأمسح ما يلحقني منها عن بنطالي بمنديلي، يضحك عمي جادالله : خايف ع َ لـْسْمُوكـِي يا زَيـْنـُو ؟ وعرفت لاحقاً بأنه يقصد بذلة السموكن . ترجل العمان وجاء راكبان آخران.
بعيد ساعة على انطلاقتنا، وحين بلغت السيارة شعاف ضهر البيدر في القمم الغربية من حيث تنحدر بعدها صوب بيروت، اجتاحني حنين غامر لرشف نظرة من السفوح الشرقية ولكني لم أرَ إلا جحافل غيم وضباب وطيف عمر ومرئيات أفول صور لقمم أحببتها.
عـَبـَرْنـَا مناطق جميلة عرفت من هرج الركاب بأنها صوفر وبحمدون اللتين قرأت عنهما في كتاب الجغرافيا، ورأيت سيارات فارهة لم أر بفخامتها وطولها قبلاً تحمل لوحات سعودية وكويتية وقطرية، وأدهشني كبر مساحة هذا "اللبنان" الذي يزعمون بأنه صغير، و بقيت أتمتع بالمشاهد الجديدة كلياً بالنسبة لي : عاليه ، الكحاله ، الجمهور إلى أن ولج الشيخ يحيى بطريق تزين جانبيه أشجار الكينا والصفصاف ، أوقف السيارة على يمين الطريق في الحازمية وأشار لي أن أبقى في مقعدي وألا أفتح الباب. ترجل وأحضر سطل حليب من صندوق السيارة، ثم جاء صوبي وأمسك بيدي ليساعدني في عبور الطريق خوفاً علي من أن تدهسني سيارة عابرة، همس لي وهو يضحك ناصحاً إياي بأن لا أطيل النظر في عيني المعلم سليم لأنه سوف يعتقد بأني أهزأ من حـَوَلِ عينيه فهززت رأسي كتلميذ مطيع. بعد وقوفنا للحظات وانتظارنا شـَدّ على يدي ونهرني : رْكـُوضْ ! عـَجـِّـلْ! ركضنا معاً وعبرنا الطريق نحو محل المعلم سليم. سلمه سطل الحليب واستلم منه الفارغ و سلمني إليه وعـَرَّفـَـهُ عـَنـِّي وغادر.
علمني المعلم سليم كيف أغسل الصحون والملاعق والأقداح وأواني اللبن الفخارية، وكيف أعجن وأخبز اللحم بعجين ومناقيش الزعتر، كما علمني ركوب الدراجة الهوائية لأوصل أغراضاً من محله إلى زبائنه من المصطافين وغيرهم في منطقتي الحازمية ومار تقلا، كما إلى "العصفورية" عبر الطريق، ومحطة التلفزيون القريبة. كنت أنام في غرفة صغيرة على سطح المحل أمامها عريشة عنب، تطل شرفتها على جزء من بيروت وقسم من بحرها كما صوب منطقتي المتن والساحل الجنوبي. أعمل أسبوعين وأقضي إجازة يومين في الضيعة وبذلك اعتبرت نفسي من قلة الصبيان والشبان المحظوظين الذين يعملون في بيروت، وفي ذلك امتياز لا يشعر بالزهو به إلا أبناء القرى الذين جذبهم قبس تلك المدينة الساحرة الجميلة.
سارت الأمور على ما يرام إلى أن أتى ذلك الصباح المشؤوم، حين عدت من مشوار توصيل طلبية لزبون وكان المعلم منشغلاً بزحمة لف السندويشات وخبز اللحم بعجين والمناقيش، لاأدري ما الذي أوقفني قريباً من باب المحل وشدني لتأمله بحركته السريعة المبالغ في مسرحيتها المهنية بهز كتفيه وردفيه، يفتح البراد ويناول زبوناً قنينة بيبسي أو كولا أو سفن آب أو ميرندا أو ويليامس او بيرة ثم يعود لحركته الآلية بمئزره الأبيض الملطخ بآثار زيت المناقيش والطحين، كنت أراه عبر زجاج البراد العريض الذي يفصل بيني وبينه والذي يعرض فيه ما لديه من لبنة وانواع المرتديلا والجبنة والمرطبات والبيرة، وجـَّهَ عينيه نحوي وقال : " شو ؟ شـَرَّفْتْ ؟" اعتقدت بأنه يخاطب شخصاَ آخر خلفي فالتفت إلى الوراء ولم أر احداً فابتسمت، لم تكن تلك هي المرة الأولى، أدرك سبب ابتسامتي فعبس وبربر بكلام كثير فهمت منه بأن علي أن ألم حوائجي "وانقبر إلى ضيعتي" لأن ليس لديه وقتاً لتربية سعادين. واستمر في العمل عابساً مكفهراً .
لـُمْتُ نفسي على تسرعي بتكرار ارتكاب تلك الغلطة رغم ملاحظتي سابقاً بأن المعلم لايستسيغ التفرس بوجهه والتبسم، ورغم نصيحة الشيخ يحيى لي بألا أنظر في عيني معلمي. لم أتجرأ على طلب السماح منه لأنه كان غاضباً جداً لا يطيق حتى النظر نحوي.
بقي المعلم حرداً مني فأسقط في يدي. ماذا لو أصر على طردي من العمل ؟ ليس لدي ما يكفي من المال لشراء الطعام، ولا أعرف أحداً في بيروت، ولا أين سأنام ؟ سيما وأن ملاحظة زوجة عمي عني بأني لست "رجال" لازالت تكوي بسياطها كرامتي المتبرعمة. آليت على نفسي أن أتحمل وألا أخذل أمي، سأبـْقـِيَ رأسها شامخاً معتزة "بزلمة البيت" الذي يعمل في بيروت ويساعدها، أجل ! سوف أبادلها جميلها وتضحياتها من أجلي وأجل أخوتي حين أبقت هي رؤوسنا شامخة بعد وفاة والدي ولم تقبل بالزواج وبتركنا وشأننا مع جدي وجدتي كما نصحها أهلها. شعرت بأني بدأت أقابل الدهر وجهاً لوجه منذ تلك اللحظة، وبأن علي أن أصبر، وبأني بدأت أعالج ما يعترضني من مشاكل بالتسويات والتنازلات وإحناء الرأس دون أن أسمع قبلاً عن أي منها. انسحبت بغيظ تسللاً إلى الخارج ، إنما بهدوء أزجي الوقت بالتفرج على السيارات والمارة إلى أن تنفرج غيوم عاصفة غضب معلمي ، جلست أتفيأ ظل شجرة كينا أم صفصاف هي لا أدري، لم أكن عطشاً ولكني كنت أعب من وقت لآخر من ساقية ماء تنساب ماؤها في قناة خرسانية كسا حافتيها طبقة طحلبية خضراء غامقة. بعيد ساعتين من الزمن ظننت بأن الوقت قد حان لأذكـِّرَ المعلمَ بي فعدت أدراجي نحوه، وما إن لمحني حتى صرخ بي: لـَيْـش بـَعْدَكْ هـَوْنْ؟ شـُو بـَدَّكْ ؟
- بـَدّي اشتغل . ثأثأتها بتفاجؤ من انفعاله المفرط ومن ثورته التي لم تبرد بعد.
- ما في شغل ، يْـلـْعـَنْ لـِّي رَبـَّاكْ ! صرخ بي وأشاح بوجهه عني .
ضاقت حنجرتي بغصة كبيرة كادت تخنقني و لـُمْتُ نفسي لأني تسببت في شتم روح أبي. لم أكرر سؤالي، غافلته وانسحبت بانكسار وقهر إلى غرفتي. جمعت حوائجي في الصرة إياها وعدت إلى القرية مُخـْفـِيـَاً أصلَ الحدثِ عن أمي وهي بدورها افترضت بأني في إجازة روتينية كالعادة.
عـَرَفـْتُ لاحقاً بأن المعلم سليم لم يكن يقصد طردي حقاً، وإنما لوضع حد لابتساماتي الخبيثة الساخرة. فوجىء بتركي العمل وبرحيلي بتلك السرعة فانشغل باله علي واتصل هاتفياً بمنزل مختار الضيعة الذي أبلغ أمي، وأكد لها الشيخ يحيى الخبر إذ قال لها بأن المعلم سليم طلب منه أن يطمئنه عني وفيما إذا كنت قد عدت إلى الضيعة أم لا. لامتني أمي برفق على ترك ذلك "الإبن الحلال" ورجتني أن أعود إلى عملي في بيروت لأساعدها في إعالة أخوتي فوعدتها ... وأوفيت بوعدي ... إنما على طريقتي.

في الحلقة القادمة سوف يتعرف زينو على ساحة البرج والأسواق المحيطة بها.
الخبر في :27/07/2010


CONVERSATION

0 comments: