سرعان ما ذبل الورد/ محمود شباط

يعيدني الحنين إلى بدايات البداية، إلى الطور الباكر لتفتق براعم الطفولة ، أرتحلت يومها عبر شراع التوق صوب أعوامي الأول فأنصهرت وجداً لرشف قطرة من أطياف أحبة رحلوا منذ زمن، أعزهم وأقربهم إلى القلب علي ،ابن عمي الأصغر و رفيق فجر العمر، لم أكن أعرف في حينه بأن الموت يحطم النفس إلى ذلك الحد، ولم أعلم بأن فراق ذلك الطفل سيكتنفني ثقل رحيله الأبدي طالما حييت، وبأن لا عزاء لي حياله سوى حتمية اللقاء يوم يختلط الرميم بالرميم .
ليست هي المرة الأولى التي تستيقظ بي ذكراه بعد كل تلك السنين. ولكنها كانت الأشد أيلاما. يومها رجعت بالخاطر إلى فسحة صغيرة أمام بيتنا الطيني في ضيعتنا الجبلية ، الفسحة عبارة عن نصف دائرة ضئيلة تسميها أمي مصطبة الدار، يؤطرها جدار حجري بارتفاع قامة طفل في الخامسة وما دون، تظلل تربتها المدموكة شجرة توت معمرة. هناك كنت ألعب مع رفيقي طفولتي سالم وشقيقه علي. لم أكن أعرف يومها بأن سالم يكبرنا بحدود السنتين وبأن علياً بعمري، ولكني أذكر تماماً بأن زمام قيادتنا، أنا وعلي ، كان دائماً بيد سالم الشرس النزق السريع الغضب الذي كنا نخافه،نتضايق منه ولكن دون أن نغامر بالتذمر أو الرد خشية انتقامه منا، ولأنه كان يحمينا من الأولاد الآخرين، ولأنه هو "القائد" القاسي الصارم الذي يقرر ماذا نقول ومتى نسرق بيض الدجاج من قن جدتي عفيفة، ومتى نرشق الحجارة على بيت عمي محمد ومتى نعبث بثوب جدتي فاطمة الضريرة و نسرق عكازها، ومتى نشتم المارة ومتى نلعب ومتى نقعد وأين نقف. يعاقبنا بقضيب رمان يتسلح به على الدوام، وإلا فبصفعة أو ركلة على المؤخرة، وبعد معاقبتنا ينطق بقرار محكمته المبجلة: "حكمت عليك المحكمة بالإعدام ألف سنة".
عدت في عصر يوم فوجدت أمي جالسة على المصطبة تجهز العشاء ، تركت ما بيدها وصارت تنظر نحو قدمي فأدركت بأني منتعل صندلي "بالمقلوب" . وحين وصلت طلبت مني الجلوس على الإفريز، خلعت فردتي الصندل وطلبت مني أن أمد قدمي اليمنى، ترددت لجهلي بالفرق بين اليمين واليسار فمددت إحدى قدمي، صفعتني عليها و صرخت بي: "قلت لك الإجر اليمين".
ذات صباح جاء سالم إلى بيتنا مصطحباً علياً كالعادة ، وبعد أن غبنا عن نظر أمي شدني من شعري بعنف وجرني خلفه إلى أن وصلنا أسفل الزقاق المفضي إلى منزل أهله ، تطلع نحو الجبل المحاذي للضيعة من جهة الشرق ثم صرخ بي : " أنت لا تعرف ما وراء الجبل ، ولا علي يعرف " . ثم أصدر أمر المهمة وركض فركضنا خلفه.
بلغنا منتصف المسافة صعوداً نحو التلة عدواً. كان يصر على إبقاء مسافة بيننا وبينه فيجري أمامنا بزهو الأقوى، سبقنا ثم انتظرنا ونهرنا لحثنا على الإسراع في الركض، نظر إليه علي بتذلل يتوسله كي يسمح لنا بإكمال المشوار مشياً لأنه تعب. تواضع سالم وقبل التماس علي، سار سالم بيننا ممسكا بأيدينا وراح يروي لنا عن قتله لضباع وثعابين وذئاب، وأخبرنا بأن خلف الجبل حافة صخرية هي نهاية الكون، أو "الدنيي" كما كان يلفظها، وعتمة أين منها عتمة ليل قريتنا التي لم تكن شبكة الكهرباء قد وصلتها بعد في حينه.
مل سالم وتيرة مشينا البطيء فأفلت أيدينا وانطلق عدواً صوب الذروة وأمرنا أن نركض خلفه، وبينما كنا نجري بدا الإنهاك على علي واقتعد الأرض يبكي فوقفت بجانبه. رجع سالم ركضاً وهو يهدد ويتوعد وانهال بالصفع والركل على أخيه الذي كان يتوسله ويحاول الإحتماء بي ولكني خذلته خشية أن ينالني ما يناله فابتعدت عنهما رغم تعاطفي الشديد مع علي وإشفاقي عليه. بعد هدوء عاصفة سالم و تعبه من ضرب أخيه تحامل علي على نفسه ووقف متنهنهاً بصمت فأمسكت بيده وتابعنا رحلتنا نحو "حافة الكون" .
بلغنا القمة حيث الريح يصهل بجموح في عز الصيف، لم نر أثراً لحافة الكون ولا للعتمة، بل تراءت لنا في البعيد قمم أخرى عالية مبقعة بالأبيض فتبرع سالم بالتوضيح : "هذا ثلج" ثم أكمل دون أن يرف له جفن عن كذبته الطازجة : " أرأيتما كم هي كبيرة "الدنيي"؟ لقد قلت لكما بأنها كبيرة أليس كذلك ؟ " هزينا أنا وعلي برأسينا تأكيداً لصدق فم سالم .
في طريق عودتنا من الجبل كانت حالة علي تزداد تفاقماً، خذلته رجلاه فحمله سالم على ظهره متذمراً، حين يتعب بحمله يطرحه أرضاً ويعنف ضعفه ويلومه على تكرار اقترافه لخطيئة المرض والسعال والتعب ووجع البطن والصدر. وبينما سالم يلهث ويستريح جالساً على حجر كان يحدجني ، أزم جسدي الصغير خوفاً من أن يطلب مني حمل علي، كنت أنكمش أكثر حين يثابر على رمقي بعينين شرستين أحسهما تخترقان قلبي. ثابر في إرسال نظراته وثابرت على اختبائي خلف انكماش جسدي إلى أن زعق بي : أحمل ابن عمك !
نقزت وامتثلت ، وما إن صار علي على ظهري حتى وقعنا معاً فركـَلـَنا "القائد" وشتـَمـَنا مستخفاً كالعادة بضعفنا وأنهى جزاءه لنا بإصدار فرمان مهمة الغد ليعاقبنا بتعليمنا السباحة في المياه الباردة في بركة الضيعة، ثم حمل عليا على ظهره ومشى به مترنحاً فتبعته صاغراً.
بُعـَيدَ المغرب بقليل جاءت زوجة عمي دامعة العينين تحمل علياً النائم على كتفها، رجت جدتي أن تعالج الصبي بتدليك صدره وبطنه بزيت الزيتون الفاتر "المقروء عليه" . اقتربتُ داساً رأسي بين جدتي وزوجة عمي فرأيت وجه علي هادىء محايد وعينيه مغمضتين. لم تدلكه جدتي بل صارت تفرك راحتيها وتهمهم بكلام لم أفهمه، حملته أمه وغادرت باكية فتبعتها جدتي وأمي تبكيان.
صبيحة اليوم التالي كانت أمي ترتب أغراض البيت على عجل بينما هي مرتدية فستانها الأسود. عرفت بأنها بصدد مشوار أو مناسبة، سألتها فلم ترد وأعطتني رغيفاً فيه لبنة لأتناول فطوري .
لبثت على الإفريز الطيني أمضغ الرغيف وأنتظر سالماً وعلياً كي يصطحباني معهما كي يعلمنا سالم السباحة في بركة الضيعة. أنهيت فطوري وطال انتظاري لهما ولكنهما لم يأتيا، خفت أن يعاقبني سالم فرحت صوب بيت عمي ، رايت سالماً يبكي ولم أتجرأ على استفساره عن السبب، سمعت نواحاً شجياً وندباً نسائياً بأصوات عذبة. بعد قليل تحرك جمع من الرجال وعلى أكتاف أربعة منهم ما يشبه سرير خشبي بقوائم ضخمة ، عليه ما ظننته وسادة ملفوفة بملاءة بيضاء لم أدرك بأنها جثمان علي. عدت إلى الإفريز الطيني أنتظر سالماً وعليا ولكنهما لم يأتيا ، ولم أر علياً بعد ذلك اليوم.

CONVERSATION

0 comments: