ترجمة كتاب كيف ولماذا تمت فبركة ياسر عرفات؟ (1) / د. أفنان القاسم



إلى أولئك الذين ماتوا لا لشيء إلا للموت
إلى مايكل مور

المصراع الفلسطيني

عرفات: الرجل الآتي من حيث لا ندري

كان ذلك غداة حرب الستة أيام عندما سمعت لأول مرة بواحد اسمه "أبو عمار"، كنت في ذلك الوقت في الجزائر العاصمة، في زمن كانت الجزائر "الثورية" لم تزل تبحث فيه عن ذاتها، وفي دوامة الأحداث الشرق الأوسطية كانت تعيش من جديد حرب استقلالها، وكانت الحياة السياسية تتبلور حول رجل واحد قوي: بومدين.

كنت على وشك القول: ستالين. كان العصر الذي وصلت عبادة الشخصية فيه إلى ذروتها حيث كان رجل البلاد القوي يجسد وحده الثورة والأمة ومستقبل هذه الأمة، كان يمثل جزائر الغد، ودونه حتى وجود الجزائر لم يكن واردا: كان كل شيء يُرى عبر الديكتاتور. في هذا السياق، تجذرت الدعاية الدائرة حول أبي عمار، فقد كان اسم رجل قوي يكفي لتحديد بلد بأكمله، ولتحديد موقع الواحد والآخر بالنسبة له، وكذلك لتحديد موقعه على خارطة العالم. كان يلزم ديكتاتور، لا أهمية لكونه هذا أو ذاك، واحد أطلقت عليه وسائل الإعلام لقب "قائد المقاومة"، كما كانت حال ديكتاتور الجزائر، وكما هو حال كل القواد العرب في الوقت الراهن، كل واحد منهم "قائد" شيء ما.

بهذا الشكل استحوذ الجزائريون على هذا المجهول، أبي عمار، ليحددوا موقع فلسطين، ويفهموا قضيتها. في الواقع، "أبو عمار" ما هو سوى اسم حركي يعني للعَمَار أبا، وعلى الرغم من المفهوم الإيجابي لهذا الإسم وأثره المناسب في فلسطيني الدياسبورا –دون سقف منذ منفاه القسري- كان يلزم أكثر من اسم لنشر دعاية دَوْلية حقيقية ترمي إلى تحريف القضية الفلسطينية في صالح شخص بقضه وقضيضه، وإلى جعل هذه القضية قضية شخص واحد أحد. ولأجل أن تتركز كل السلطات فيه –أليسه الديكتاتور "الثوري"؟- كان يلزم ليس حدث فقط -الحرب بالطبع أو بالأحرى الهزيمة- ولكن اعترافا من قبل المهزومين. كان عبد الناصر أول قائد عربي قابل أبا عمار، وكان العالم قد عرف بعد هذا اللقاء الإسم الحقيقي "الزائف" لهذا الشخص: ياسر عرفات. أقول حقيقي "زائف" لأصلي من نابلس، مهد عائلة عرفات، أعلم تمام العلم أن هذه االعائلة لا تعرف أحدا يحمل هذا الإسم، سأتكلم عن هذا بالتفصيل فيما بعد. ومع ذلك، سمح هذا التضليل لوسائل الإعلام العربية منذ ستة وثلاثين عاما وكذلك لكل أبواق الأنظمة العربية بتحضير الحرب التي يقودها شارون حاليا.

اعتمادا مني على زمنية الحجج أي وضعها في سياقها الزمني وعدم النظر إليها من اللحظة الحالية وإلا بدت أقرب إلى البديهيات بعد أن تم الكشف عنها أقول وقد كنا نجهل ما نعلمه اليوم: لقد بدأ كل شيء مع الإشاعات التي دارت بشأن ياسر عرفات: أنه أطلق أول رصاصة على الجيش الإسرائيلي عام 1965 مفجرا الثورة، أنه عاد إلى القدس غداة حرب 1967 متخفيا ليصلي في المسجد الأقصى ويقبل حجارة المدينة التي ولد فيها، أنه اختبأ قبل وبعد ذلك من البوليس العربي هاربا من بيت إلى بيت. ولم تبن الحقيقة إلا فيما بعد: لم تنفجر الثورة إلا بفضل بعض الطوباويين المجهولين الذين دفعوا حياتهم ثمنا لفعلهم، وليس من شخصٍ هناك باسم عرفات ولد في القدس لأن عائلة عرفات، كما سبق وأشرت إليه، أصلها من نابلس. ربما ولد أحد أبنائها في القدس ، مثلي أنا، من نابلس ومولود في يافا، ولكن عائلتي كانت ولم تزل في برقة من قضاء نابلس. ولعائلة عرفات رأي قاطع: ياسر عرفات ليس فردا من أفرادها. كل شيء إذن ما هو سوى كذبة، كذبة خالصة، عنصر أساسي لفبركة أسطورة.
وهذا ما حاولته على التحديد وسائل الإعلام والأنظمة العربية، أن تجعل من ياسر عرفات أسطورة: ولد في القدس ولكن أصله من نابلس، وعائلته لا تعترف به، مما يبعث على الشك، في الوقت الذي تقترح فيه الفكرة شخصا يأتي من حيث لا يعلم أحد، وفي نفس الوقت ابن البلد، وبتحديد أكثر ابن المدينة المقدسة. لماذا لم يولد في جنين مثلا أو في رام الله؟ من أجل أن تكون الأسطورة كاملة يجب على ياسر عرفات أن يكون مولودا في القدس، على الرغم من أن أصله من نابلس! وترتكز المرحلة التالية من مراحل بناء الأسطورة على جعل ياسر عرفات بطلا نجا بأعجوبة من مطاردة الشرطة الدائمة له خلال سنوات بينما الكل يعلم أن عرفات كان يعمل كمهندس (معماري أم غيره هذا لا يهم ولكن يرتبط المهندس أول ما يرتبط في ذهن الرجل العادي بالعَمَار فلم تأت كنية أبي عمار عبثا) لحساب شيوخ الخليج وكخادم وفيّ لهم، وبالتالي كان محميا من طرف أولئك الطغاة.

بهذه الطريقة تمت فبركة هذا الشخص، شخص ليس كغيره، قطعة قطعة، من أجل الأسواق العربية، وسيكون من اللازم الانتظار قليلا ليرد هذا المنتَجُ على ما تنتظره الأسواق الغربية منه، تبعا لما سيفعله لخدمة إسرائيل. في العالم العربي المثقل بالهزيمة والبؤس، المكمم بأكف حكامه، يُتَعجل ما يراد عمله: لقد فُرشت السجادة الحمراء تحت قدمي ديكتاتور فلسطيني شبيه بكل الديكتاتوريين العرب، لم يعد يأتي من حيث لا يعلم أحد لأنه أُدخل في مسرح السياسة، وكان له دور يلعبه في إطار الهزيمة، وهذا حتى نهاية تصفية القضية الفلسطينية، ولكن على الخصوص لضمان انتصار الإسرائيليين ومد هيمنتهم على كل المنطقة.
قبل التقدم في هذا التحليل المذهل، لنعد إلى الوراء، إلى أبعد من حرب الأيام الستة، إلى مرحلة متقدمة في حياة وقدر هذا الرجل، ولنتكلم بالضبط عن هذا المعطى الأساسي في بقاء إسرائيل: انتصاراتها وهيمنتها المرتبطة ارتباطا وثيقا بدرب عرفات ومهماته إن لم يكن بوجوده ذاته، لأني أريد الكشف عن هذا الوجه الخفي.

إليكم أولا هذه الحكاية.

عمان 1994، نهاية الصيف. كانت الحرارة من الشدة بحيث كنا نشم رائحة الصحراء الملتهبة. في ظل شجرة زيتون في ريعان الشباب، كان دكتور في الفلسفة يحكي لي "قصته" مع عرفات. كان أحد مستشاريه المفضلين إلى يوم بدأ فيه هذا الجامعي الاهتمام أكثر مما يلزم بالأصل العائلي لقائد المقاومة. وبين ليلة وضحاها، أصبح شخصا غير مرغوب فيه لدى عرفات لأنه اكتشف أن ياسر عرفات ينتمي إلى عائلة مغربية، وأن اسمه بقي يُحفظ سرا في الأرشيف الملكي من المستحيل معرفته إلا أنه نجح في معرفة أن هذه العائلة أصلها من مراكش، وأنها عائلة يهودية. أهو تجلٍ آخر من تجليات تلك الأسطورة التي يُسعى إلى صيانتها حول ياسر عرفات؟ عند هذا الحد من بحثه، طُرد الرجل من منصبه. علّم بعض الوقت في جامعة خاصة في عمان ثم ترك الأردن إلى بلد من بلدان الخليج، وبعد ذلك لم أسمع عنه شيئا.

تذكرت عندئذ ما صرح به ياسر عرفات نفسه عندما كان في بيروت وذلك جوابا على سؤال طرحه إميل حبيبي ومحمو درويش في مقابلة نشرت على صفحات مجلة شؤون فلسطينية: "من أنت؟" تفاجأ عرفات، وتأتأ: "ليس من حقي الحديث عن نفسي، هذا عيب، ومعارض للتواضع." لم يكن الشاعر المعروف والروائي الممتاز يعنيان أن يتكلم قائد المقاومة عن حياته الشخصية ولكن بالأحرى عن الرجل السياسي الذي كانه. فهم عرفات السؤال، ومع ذلك قال: "لو حصل وكُشفت هوية عرفات في يوم ما لاهتز العالم كله!"

أهو مظهر آخر من أسطورته؟ على الإطلاق. يعترف عرفات هنا بما أراد مستشاره إثباته. ولكن هناك من اليهود الذين يقاتلون بقدر الفلسطينيين من أجل القضية الفلسطينية، وهناك من الفلسطينيين الذين يخونون وطنهم، وهم على استعداد لبيع أمهم للعدو. إذن ليس واقع أن يكون يهودي أو غير يهودي ما يهم، بالعلاقة مع الهدف الذي كان على عرفات إنجازه، لا وليس واقع أن يكون أصله من مراكش أو أثينا أو أية مدينة أخرى. في كل الأحوال، هناك مكيدة أقرب إلى مكائد الموساد والسي آي إيه، فسجل هذين الجهازين القويين يثبت دون أي غموض قدرتهما على كل شيء: زرع أحد عملائهم منذ نعومة أظافره شيء سائد سواء أكان المقصود موظفا صغيرا أم رئيس دولة. لا أحد يجهل أن زرع عائلة الأسد في سوريا من فعل السي آي إيه، وأن الملك حسين كان يستلم راتبا شهريا من الجهاز ذاته. الرؤساء والأمراء العملاء يصعب عدهم في العالم العربي: السادات كمبارك، بن علي كشيوخ الخليج. إنهم عملاء مستعدون لكل شيء حتى لهدم بلدانهم إذا ما أمرت السي آي إيه بذلك، وفرضت ذلك المصالح الأميركية.

إذن إنزال عرفات في سياقه الحياتي وخاصة إنزال أفعال عرفات في سياق فلسطين التاريخي يجعل منه عميلا للموساد مع تغطية للسي آي إيه وكل أجهزة المخابرات الأوروبية بما فيها جهاز الدي إس تي الفرنسي والكي جي بي في زمن الإتحاد السوفياتي، ولكن على الخصوص أجهزة مخابرات البلدان العربية، فالمدى العالمي لمهمة هذا الشخص يتطلب أن تساهم كل أجهزة جوسسة المعمورة مباشرة أو غير مباشرة في إعداد وإنجاح الخطة الرامية إلى تصفية المسألة الفلسطينية أو على الأقل الوصول إلى حل لا يرضي سوى إسرائيل. ياسر عرفات، هذا العميل، عميل ليس كغيره، كان مجهزا بأكثر الوسائل حسما ليجعل شعبنا يقبل بأكثر التسويات ريبة، تسويات لا تخدم سوى طرف واحد: الطرف الإسرائيلي. ولأجل هذه الغاية، كل الوسائل ملائمة، من الحرب الأهلية إلى التصفيات السياسية، من البؤس الأشد شناعة، بؤس يعاني منه شعب بأكمله، إلى العمليات الإنتحارية.

في البداية، عندما كان عميلا شابا، كان ياسر عرفات موجودا في مصر، وفي هذا البلد كبر، وزد على ذلك هو لا يتكلم إلا المصرية، اللهجة العربية الوحيدة التي يتكلمها. لا يمكن لفلسطيني أن ينسى أبدا لغته الأم، ولا يمكن لفلسطيني أن يجرؤ أبدا على التكلم بلهجة أخرى غير الفلسطينية بحضور فلسطينيين آخرين. ياسر عرفات لا يتكلم أبدا الفلسطينية، هو الذي شكله الفيزيائي لا يطابق أي شكل "عرقي" للشعب الفلسطيني. هو لا ينتسب لا لشعبنا ولا للغتنا، ومع هذا يقول عن نفسه "فلسطيني". إذن في مصر يدخل ياسر عرفات جامعة القاهرة حيث سيفرض نفسه قائدا لحركة الطلاب الفلسطينيين، وابتداء من هذه اللحظة، تفتح له الطريق نحو زعامة البلد. وكما قلت سابقا ياسر عرفات لم ينتسب أبدا إلى عائلة عرفات، وهو يعطي لنفسه اسما آخر مشكوكا فيه "رؤوف ياسر القدوة". ولكن الأخطر من هذا، كان الطلاب الفلسطينيون، منذ ذلك العهد البعيد وليس منذ اليوم، يشكون في ياسر عرفات ولا يصلون إلى فهم شخصيته. وبالمقابل، كان الكل يعلم أن هناك عددا كبيرا من الفلسطينيين عملاء للموساد. ومن المذهل أن بعضهم قد أصبح قائدا في هذا التنظيم أو ذاك، أو من وراء انشقاق هذا التنظيم أو ذاك أو مصرع هذا الشخص النظيف أو ذاك، فالقادة الفلسطينيون اثنان: من هم عملاء للموساد أو من هم لا يؤثرون في الأحداث. أما الآخرون، فهم الذين قُتلوا كأبي جهاد وأبي إياد وأبي الهول... الخ أو الذين أُبعدوا.

إذن منذ القاهرة بدأ عميل الموساد يظهر بمظهر القائد السياسي، ولكنه بعد أن أنهى الدراسة بدلا من الالتحاق "بشعبه" الموجود في الأردن، ذهب إلى بلاد النفط. كان عليه الانتظار بضع سنوات قبل أن يكرسه شن حرب 1967 قائدا للمقاومة. وبطبيعة الحال بعض الهجمات في الجهة الأخرى من الحدود ما كانت إلا لذر الرماد في العيون: "ها هو أبو الحرب ضد إسرائيل الوحيد من يستحق أن يتسلم قيادة هذا الشعب ليشن حربا حقيقية!" خلال ذلك، حققت إسرائيل حلمها القديم: إسرائيل الكبرى الممتدة من الفرات إلى النيل. لم يبق على عميلها سوى أن يجعله مقبولا من طرف أناس متعطشة للحقد والثأر. على "أبي عمار" أن يقنن كل هذه المشاعر ثم عليه أن يقلبها ضد هؤلاء الناس أنفسهم بدفعهم إلى التقاتل فيما بينهم، ولكن يجب البدء بتوطيد دعائم الأنظمة العربية.

ترجمة الدكتورة بريجيت بوردو – مونتريال


أفنان القاسم: دفاعا عن الشعب الفلسطيني، كيف ولماذا تمت فبركة ياسر عرفات؟، دار لارماطان، باريس 2004، ص ص 9 – 17.



CONVERSATION

0 comments: