كلمة افتتاح التأبين الأدبي الخاصّ بالأب الرَّاحل يوسف سعيد مع مساهمات من خارج السويد


افتتح الشاعر صبري يوسف مدير حفل التأبين الأدبي الخاصّ بالشاعر الراحل الأب يوسف سعيد بالوقوف دقيقة صمت على روحهِ الخلاقة. ثم قدّم المشاركين والمشاركات وقرأ بعض المشاركات الخارجية.
فيما يلي ننشر كلمة الافتتاح مع المشاركات الخارجية
أيّها الأحبّة
احتفاءً بالأب الرَّاحل الشَّاعر المبدع الدكتور يوسف سعيد نقف دقيقة صمت على روحه الخلاقة.
*****
أيّتها السيدات والسادة،
بإسمي وبإسم أعضاء لجنة التأبين (الشَّاعر صبري يوسف، الفنّان التشكيلي كابي سارة، الفنّان المسرحي وديع عمسيح، الشاعر د. كبرئيل أوسي، الشاعر ألياس عنتر والشاعر جوزيف قسطن)، نرحِّب بكم أجمل ترحيب بإحياء هذا الحفل التأبيني الأدبي الخاصّ بالأب المبدع الرَّاحل يوسف سعيد، تقديراً لهذه القامة الإبداعيّة الخلاقة والتي أعطَتْ للشعر العراقي والعربي والسرياني الشيء الكثير، من خلال تفاعلها العميق مع جماعة كركوك الأدبية، حيث رفدَ شعراء جماعة كركوك أرقى أنواع الشعر المعاصر والحداثة الشعرية الرائدة على الساحة العربيّة والعالمية، ومن خلال شهادات مجموعة من شعراء جماعة كركوك الأحياء، وبعض الكتاب والأدباء والنقَّاد، سنجد تأكيدهم على أهمية وفرادة التجربة الأدبية للأب الرَّاحل، حيث تميَّزَ بخياله الجامح، يأخذ القارئ إلى فضاءات فسيحة وخلاقة، يخطُّ جملته الشعرية وكأنّه يلتقطها من خاصرةِ السَّماءِ الصَّافية، ومن أهدابِ النجوم، ليقدِّم للقارئ خطاً شعرياً متفرّداً ومتدفقاً بالإبداع.
هناك توق شديد لدى الشَّاعر للارتقاء والسُّموّ نحو أحضانِ السَّماء، حيثُ تلوَّنت شفافية روحه بهذا النُّزوع نحوَ عالم السُّموّ والارتقاء، ربّما لكونه أبّاً روحيَّاً، عمل أكثر من نصف قرن من الزَّمن في عالم الكهنوت، جنباً إلى جنب مع عالم الشِّعر، المتعطِّش إلى سماء القصيدة، سماء الرًّوح، سماء الإبداع، سماء الأب يوسف سعيد، وسماؤه لها نكهة خاصّة، نراها مطرّزة برحيق الكلمة، المتطايرة من تعاريج الحلم!.. مستمدّاً من رحاب رؤاه الحلميّة بناءً مختمراً في ذاكرة الشَّاعر التواّقة إلى مزج الواقع بالحلم والخيال فتأتي القصيدة متفرِّدة في بنائها وأسلوبها، حيث يقول:
" انّي أستيقظُ في ظهيرة النَّخيل، أبحث عن مدنٍ متعرِّجة القلب، ...
انّي أحلم برائعِ نسكي، وتصوُّفي أرجوزة خالدة" ".. وحدها الفراشات تستريح على أجنحةِ البرق" ..
من قصيدة الطفولة، المنشورة في ديوان: السفر داخل المنافي البعيدة، ، الصادر عن دار الجمل.

تضمَّن برنامج حفل التأبين قراءة نصوص شعريَّة وكلمات تأبينية من قبلِ مجموعة من الأدباء والشعراء والنقّاد:
1. الأديب والشَّاعر والمترجم د. فاضل العزاوي، برلين.
2. الأديب والشاعر والمترجم د. يوسف متّى اسحق، ستوكهولم.
3. الأديب والشَّاعر والباحث اسحق قومي، ألمانيا.
4. الشَّاعر عدنان الصائغ، لندن.
5. الشَّاعر ميخائيل ممّو، السويد ـ يونشوبينغ.
6. الشاعر يعقوب برصوم الفراتي، ستوكهولم/ سودرتالية.
7. الأديب والشاعر صلاح فائق، الفلبين.
8. الشَّاعر ألياس عنتر، ستوكهولم/ سودرتالية.
9.الفنّان التشكيلي والشاعر كابي سارة، ستوكهولم.
10. الكاتب والباحث والناقد د. حاتم الصكر، أميريكا.
11. الشَّاعرة سعاد اسطيفان، ستوكهولم.
12. الشَّاعر فارس ابراهيم، ستوكهولم.
13. الشاعر يعقوب صومي، ستوكهولم.
14 . الكاتب د. متّي مقادسي ـ السويد

استراحة

14. الفنَّان المسرحي وديع عمسيح (قدِّم قراءات شعرية من شعر الأب يوسف سعيد)، رافقه على العود الفنَّان الموسيقي موسى ألياس، وقدَّم أغنية من ألحانه ومن كلمات الأب يوسف سعيد، ستوكهولم.
15. الأديب والشاعر والمترجم د. هاتف جنّابي، بولونيا.
16. الشَّاعر المهندس ألياس قومي، كندا.
17. الشَّاعر د. كبرئيل أوسي، ستوكهولم/ سودرتالية.
18. الشَّاعر جوزيف قسطن، ستوكهولم/ سودرتالية.
19. الأديب والشاعر شربل بعيني، استراليا.
20. الشَّاعر واصف عزّو، ستوكهولم.
21. الشَّاعرة السويديّة ليزبيت يوهانسون اسحق، ستوكهولم.
22. الشَّاعر هشام القيسي، العراق/ كركوك.
23. الدكتور المهندس جبرائيل شيعا، ألمانيا.
24. الأب أيوب اسطيفان، ستوكهولم/ سودرتالية.
25. الشَّاعر وليد هرمز السويد/ يوتوبوري.
26 . الكاتب د. متّي مقادسي ـ السويد


استراحة
ـ كلمة الاختتام، ثم تخصيص وقت للتصوير مع لجنة التأبين والمشاركين ومع أهلِ الفقيد والجمهور.

فيما يلي المشاركات التي وردتنا من عدة دول من العالم من خارج السويد:
كلمة عن الشَّاعر الأب يوسف سعيد
د. فاضل العزاوي
أعزائي أسرة الفقيد الشَّاعر، الأب يوسف سعيد
سيداتي وسادتي
يصعب عليَّ هنا أنْ أودِّع صديقاً عزيزاً تعرَّفتُ عليه وأنا لا أزال تلميذاً في المدرسة، مثلما يصعب عليَّ أن أفتقدَ شاعراً مبدعاً تابعتُ أعماله طيلة أكثر من نصف قرن من الزَّمان. فرغم كلَّ المسافات التي كانت تبعدنا عن بعضنا، مرَّة حين انتقلتُ الى بغدادَ وظلَّ هو في كركوكَ وأخرى حين شدَّ رحاله الى بيروتَ ومن ثمَّ الى السُّويد فيما انتقلتُ أنا الى ألمانيا، حيث ظل يتّصل بي أو يكتب لي أو يزوِّدني بدواوينه الجديدة.
أتذكَّر، إن لم تخنّي الذَّاكرة، أنه طلب مني أن أكتب له مقدِّمة أحد دواوينه التي نشرها أثناء وجوده في السويد، مثلما تلقَّى هو الآخر كتابي "الرُّوح الحيَّة" الذي تحدَّثت فيه عنه حين كنَّا لا نزال في كركوك، ببهجة طاغية وحماسة شديدة فكتب مقالة مطوَّلة عن الكتاب، نُشِرَتْ في مجلّة المدى التي كانت تصدر في دمشق.
كان الأب الشاعر يوسف سعيد، أو "أبونا" كما اعتدنا على مناداته منذ أيام صبانا الأولى، قد دعاني أكثر من مرة لأكون ضيفاً عليه في السويد، متعهِّداً بأن يذبح لي بقرة على حدِّ قوله، ولكن كان ثمَّة دائماً ما يشغلني عن تلبية رغبته الكريمة، حتى تلقَّيت دعوة قبل عدّة أعوام الى مهرجان شعري يعقد في مدينة مالمو السويدية، كان الأب الصديق الشَّاعر يوسف سعيد قد دُعيَ إليه هو أيضاً، فاتصل بي ليتأكَّد من حضوري، فقلت له: لن أفوِّتَ هذه الفرصة، ينبغي أن نلتقي ثانية لنستعيدَ بعضاً من ذكرياتنا الجميلة في كركوك ونغتاب الشعراء السيئين على الأقل، كما كنَّا نفعل في الماضي الفالت من أيدينا. وهكذا أمضينا بضعةَ أيام سويَّة في الفندق الذي جمعنا، حيث تألَّق الأب يوسف سعيد كعادته رغم التَّعب الذي كان واضحاً على وجهه.
إلتقيتُ الأب يوسف سعيد لأوِّل مرَّة حين كنتُ لا أزال تلميذاً في المدرسة المتوسِّطة في كركوك. كنت قد نشرت قصيدة لا أزال أتذكَّر عنوانها حتى اليوم "رماد العودة" في مجلّة "المجلّة" البيروتية التي كان يشرف على القسم الثقافي فيها الشاعران يوسف الخال وأدونيس، والتي كان "أبونا" نفسه قد نشر فيها أيضاً بعضاً من شعره، فراح يبحث عنِّي ويسأل كلّ من يعرفه ليدلَّه إلي ويتعرَّفَ علي. ولكم أن تتصوَّروا تعابيرَ وجهه حينما اكتشف أن الشَّاعر الذي يبحث عنه لا يزال صبياً لم ينبُتْ شاربه، في الرابعة عشرة أو الخامسة عشرة من عمره، ولكنَّه لم يشعرْني قط بذلك، بل والأدهى من كلّ ذلك أنه لم يكن يجد غضاضة في الجلوس معنا، نحن جماعة أصدقاء كركوك الشبان، في مقاهينا أو حتَّى زيارة بيوت بعضنا القريبة من وسط المدينة، وهو بردائه الكهنوتي الأسود دائماً، أو دعوتنا لزيارته في كنيسته التي كانت تقع على طريق محطَّة القطار والتي أراد لها أن تكون ما يشبه المركز الثقافي، فضلاً عن كونها بيتاً من بيوت الله.
يعترف أبونا الكبير بكلِّ وفاءٍ، كدليل على عظمة روحه، أنه تعلَّم منا، نحن الشُّبان الصغار، الكثير ليس في الشعر فحسب وانَّما في النظرِ الى الحياة أيضاً، مثلما تعلَّمنا نحن أيضاً منه الكثير الَّذي عمَّقَ رؤيتنا الإنسانية في الشِّعر والحياةِ أيضاً.
لقد كسرَ الأب يوسف سعيد، وكسرْنا نحن أيضاً معه كلَّ الحواجز التي تفصل ما بين البشر، باسم المذهب أو الدِّين أو السياسة، مؤكِّدين أخوتنا الإنسانيّة في الإبداع قبل أيِّ شيءٍ آخر. ولا أعتقد أنّه جعلنا في يومٍ ما نشعر بأنَّنا مختلفون أو أنَّه أقرب الى الله منَّا، بل أنَّه لم يكن يخطر حتى في بالنا أننا ننتمي الى قوميات وطوائف ومذاهب وأديان مختلفة، ولم يحدث قط أن أشارَ أحدٌ ما الى ذلك. وفي النهاية: الا يعبِّر هذا عن الرسالة الحقيقية التي أراد السيد المسيح ايصالها الى البشر جميعاً في كلِّ زمان ومكان، تلك الرِّسالة القائمة على المحبَّة قبل أيِّ شيءٍ آخر؟
لم يكن ارتباط الأب الكبير يوسف سعيد بالشِّعر والأدب مجرد ممارسة لهواية ما، وإنََّما طريقه في الوصول الى الحقيقة التي كرَّس كلّ حياته من أجلها. كلّ قصائده وكلماته هي إشارات تدلُّنا على هذه الطريق التي أرادَ لنا أن نسيرَ عليها.
لقد انضمَّ أبونا وصديقنا الكبير يوسف سعيد الآن في العالم الآخر الى أجمل أصدقائه الذين سبقوه في الرَّحيل: جان دمو وسركون بولص وجليل القيسي وأنور الغساني، تاركاً وراءه أعظم الأثر في حياة جميع الذين عرفوه عن كثب، وهو أثرٌ سيظلُّ قائماً فترة طويلة من الزَّمن من خلال عمله الإبداعي الكبير. وإذا كان ثمَّة عزاء لنا، نحن الأحياء، في فقدانه فهو انه سيظلُّ حيَّاً في قلوبنا الى الأبد.
برلين: 20 . 2 . 2012
د. فاضل العزاوي
شاعر وأديب ومترجم عراقي مقيم في برلين، من روَّاد جماعة كركوك الأدبية
*****
المزمورالأول

اسحق قومي

1
تُنادي القصيدَ، وأنتَ الأميرُ!!!
فمهلاً،
إذا ما احتوتكَ الهطولُ.
ومهلاً إذا ما يمرُّ نِداكَ
وصبراً إذا ما هجتكَ
النغولُ...
وأنتَ النشيدُ،
خلودٌ بقاءٌ
ونجمٌ وفجرٌ
وأنتَ الحلولُ...
كمزن ٍ
إذا ما رويتَ الفيافي
وشدوٌ تعافى يُطلُّ الرحيلُ.
وأنتَ الشموسُ
إذا لو تغيبُ
يغيبُ الوجودُ
وأنتَ الفصولُ.
فمهلاً إذا ما
صَبِرتَ تراها
تجيءُ إليكَ وحمل ٌ ثقيلُ
مناف ٍ تعجُ بزهو لقاها
ويحلو المساءُ
وأنتَ العليلُ
كفاكَ تقولُ:
ستأتي (خلودٌ وريمُ ويأتي الربيعُ ويأتي الهطولُ)
وطيفُ هواها محتهُ الطلولُ...
سقتكَ الكؤوسُ وخمرُ الدوالي،
فسُقياً لتلكَ
الليالي تطولُ
تراكَ كوهج ِ الحبيب ِ إذا ما تثنّى
وتسهو بعيداً
كومض ِ البروق،
وحيناً كأنَّ الوجودَ لديكَ
فعولُ.
فعولنٌ فعولنٌ فعولنٌ فعولُ
يغرُّ سناها كثيرُ الرجال ِ
وأنتَ بصبر ٍ
تُطيلُ
ونجمٌ بعيدٌ يرومُ الإياب
ونجمٌ معاكَ
وهمسٌ جميلُ.
***
المزمور السابع
رحيلُ شيخ ِ المرابد ِ في بلاد ِ الصقيعْ

اسحق قومي
7/2/2012م.

تَعِبَ النوى وتنهدتْ هيفاءُ/// وتناغمتْ في خلقه ِ الأشياءُ
وتوردتْ في الخافقينِ عفة ٌ /// وتجملّتْ من حُسنِه ِ الحسناءُ
حملَ الأسى واليتمُ فيه صنعة ٌ/// ولحزنه ِ تتفتتُ الصمّاءُ
وتعانقتْ في خافقيه ِ ومضة ٌ/// فكأنها دُررُ الشموس ِ،بهاءُ
وتهادنتْ في ناظريه ِ لجة ٌ/// وتموسقَ نغم ُ الضنى، سيماءُ
وتصارعتْ فوقَ النجوم ِ مراكبٌ/// فضجيجهُا نقعُ الوغى ، الهيجاءُ
وتولّعتْ بغدادُ يومَ زارها /// كصبية ٍ من آزخ ٍ ، نجلاءُ
هامَ بأشكال ِ الفنون ِ عاشقاً/// وحداثة ٌ حارتْ لها الشعراءُ
ونشيدهُ لحنُ المأسي إنْ هو /// سيجسدُ عِشقَ الندى، السمراءُ
لكنيسة ِ السريان ِ وهجٌ زانها/// وتسامقتْ من همسه ِ العلياءُ
رَحَلَ الذي أفتى لكركوكَ هوىً/// ومرابدُ الشعر ِ به ِ فيحاءُ
ومنابعُ الإلهام ِ جفتْ دونه ُ/// وربيعُها لو تنطقُ الصحراءُ
فرثيتُ نجماً والمجرات ِ به ِ /// وقوافل ُ الشعرِ سنى ً وسناءُ
و(جماعة ُ كركوكَ )تشهدُ أنهُ /// وهجُ الحشا والحكمة ُ البيضاءُ
و(مؤيدٌ) قالَ شهادةُ (فاضل ٍ)/// ورأيتُها دمعاً به ِ حرّاءُ
(أَأميرة ُ ) القصر ِ الخلود ِ ما بكِ///ودموعُك ِ مجبولة ٌ حنّاءُ
فرحيلُكَ ( يا يوسفُ) أنشودة ٌ/// وجنانُكَ في حلمنا خضراءُ
رَحلَ الذي كانَ صديقَ غربتي /// ونثاريَّ معزوفة ٌ ورثاءُ
ولسوفَ تبقى والمجالسُ تذكرُ /// وحديثُكَ عندَ الإله ِ قضاءُ

***

عواصفٌ وأهازيجٌ والبحرُ لا يعرفُ كيفَ يحتضنُ موانىء العابرين رجوعاً.
قناديلٌ تتوهجُ في آخر الدروبِ
تُعلنُ عن رغبتها للبُكاء...
لأحلامٍ خجولة ٍ تتوارى خلفَ قلاع الملوكْ تباعا...
قصائدٌ مبعثرة ٌ على هوامش ِ المدنِ النائية في بلاد ِ الصقيعْ.
شاعرٌ ترهبَ من أجل القصيدة عاشقاً...
لونتهُ مواسمُ البؤس على خرائط الزمن العتيق.
يعرفُ كيفَ يتهجى أبجدية العِشق ِ
لأمه ِ تلكَ التي خاطرتْ بروحها على دروب أزخَ ودجلة والموصل رحيلا ً وتغربا...بقايا دموع ٍ لشيخ ٍ قارب على الثمانين حولاً.
دمعٌ ورطوبة ٌ لأقبية ِ في الموصل أم الربيعين ِ وعمتهِ.
لأخويه ِ (بهنان وسعيد) توأما البؤس والجوع والحرمان والرحيل..
قصيدتَه ُ حنجرتي
ولزوجته الأميرة أمان ٍ معربشة ٍ على جدران الصدى
لخلوده الرائعة ولخمائله العبقة ولغيثه عربون مصاهرته للحياة لريم ٍ كانت آخر العناقيد لكلّ من عرفه صديقاً وأخاً وأباً وشاعراً لكلّ هؤلاء قصائدَ ستبقى رغم عناوين التغرب...
اسحق قومي آخر فارس ٍ يزورني في آخر المنعطفات.

الأب يوسف سعيد
الشاعر والأديب المجنح والبحرُ الذي لم نكتشفْ شُطآنَهُ بعدُ
الشاعر الراحل كتابٌ لأبجدية سريانية تعانقُ فضاءات العالمية والإنسانية والوجود.
الأب الشاعر يوسف سعيد أسطورة ٌ في عالم الإبداع ِ وصوتٌ شعريٌّ حداثيٌّ سبقَ زمنه ُ وسيبقى.
الشاعر الراحل أهزوجة ُ حزن ٍ مطرزة ٍ بإيقونات ٍ في معابد ِ القصيدة البكر.
الأب الشاعر الراحل يوسف سعيد أراه يُعانق صورة الله في قصائده.
سيبقى رغم كلّ العواصف كتاباً لعاشق ٍ من أزخ..
الشاعر الراحل راهبٌ وقصيدة ُعِشق ستبقى

اسحق قومي
مدير موقع اللوتس المهاجر
كاتب وشاعر وباحث سوري مقيم في ألمانيا
*****

الشاعر الأب د. يوسف سعيد؛ فراشةُ القصيدة
عدنان الصائغ
أعرفُ أنك تجلسُ الآن يا صديقي السعيد، في الركنِ الأهدأ من الفردوس، (كما كنتَ في الحياةِ) غيرَ معنيٍّ بالكؤوسِ والحورِ والأضواء، مفكراً بقصيدتك التي لمْ تكملْها وتركتَها في الأرضِ، قربَ سريرِكَ، قبل أنْ تصعدَ بروحِكَ الأشف من قصيدةٍ إلى من أحببتَ..
أعرفُ أنك ستستيقظُ صباحاً كعادتك وتروح تكلّمُ الطيور والأشجار، غير ملتفت لابتهالات المصلّين في كنائسِهم أو مساجدِهم. ذلك لأنك عرفتَ بحنكةِ العاشقِ سرَّ الطريق الأقصر والأبهى للوصول إلى قلبِ محبوبِكَ..
لقد أدركتَ وخَبِرتَ يا صديقي ومُعلّمي، ان لا لغةَ أبهى وأبلغ من الشعر، وأنكَ لا تصلحُ لأيِّ مهنةٍ في الأرضِ أو السماءِ سوى الجمال..
هكذا مررتَ بنا، كقصيدة حب
لهذا لمْ تتركْ على رصيفِ الحياةِ والأصدقاءِ سوى ما تتركه الفراشةُ من أثر.. كأن صديقنا محمود دروريش الذي سبقك إلى هناك، كان يعنيك أنتَ..
"أثرُ الفراشةِ لا يُرَى
أَثر الفراشة لا يزولُ
هو جاذبيّةُ غامضٍ
يستدرجُ المعنى، ويرحلُ
حين يتَّضحُ السبيلُ
هو خفَّةُ الأبديِّ في اليوميّ
أشواقٌ إلى أَعلى
وإشراقٌ جميلُ
هو شامَةٌ في الضوء تومئ
حين يرشدنا الى الكلماتِ
باطننا الدليل هو مثل أُغنيةٍ تحاولُ
أن تقولَ، وتكتفي
بالاقتباسِ من الظلالِ
ولا تقولُ...
أَثرُ الفراشة لا يُرَى
أُثرُ الفراشة لا يزولُ!"..

عدنان الصائغ
شاعر عراقي مقيم في لندن، حصل على جائزة الشعر العالمية من هولندة.
*****
كانَ وسيبقى حيَّاً في حياتي

صلاح فائق

أقدِّم تعازيَّ القلبيَّة إلى أسرةِ صديقي الشَّاعر الأب يوسف سعيد، الذي بالنسبة لي لن يموتَ إنما انتقلَ الى مكانٍ آخر. ذلك لأنَّه كان وسيبقى حيَّاً في حياتي، فهو معلمِّي الأوَّل. والغريب أنه كان صديق أبي قبل أن يصير صديقي. أتذكَّر جيداً التقينا في العام 1960 في كنيسته على طريق محطَّة كركوك وقد أخذني إليه صديقان رائعان، سركون بولص وجان دمّو، نظرَ اليَّ طويلاً ثم سألني:
ماذا تكتبُ؟
قصص قصيرة وأحياناً الشعر.
اقرأ لي من شعرِكَ.
قرأتُ له قصيدة بعد أخرى .. قال سركون لا تتوقف عن القراءة فهو مولعٌ بالصور الشعرية وعندك منها الكثير. قضينا عدّة ساعات نقرأ له وكان يردُّ علينا بقراءةِ قصائد له، أدهشتني قصائده حقَّاً. عند باب الكنيسة قال لي أنتَ شاعر. ثم توالت زياراتي إليه مع جليل القيسي ويوسف الحيدري وأحياناً كنتُ أزوره وحدي وكان مسروراً دائماً بلقائنا والاستماع إلينا. بعد أيَّام من زيارتي الأولى إليه قال لي أبي، يقال أنك شاعر، فعرفتُ فوراً مَن أخبره. افترقنا لسنوات طويلة.. وبقيت أقرأ له في مجلات لبنانية وعراقية في السبعينات. وفي عام 1985 قرَّرنا أنا وسركون أن نحضر مهرجان المربد، وفجأةً وجدناه أمامنا، مع جان دمّو ويوسف الحيدري ومحيي الدين زنكنه وآخرين من جماعة كركوك. كان ذلك اللقاء مهرجاننا الحقيقي بعد سنوات طويلة من الفراق. وفي عام 1987 طلب منّي أن أزوره في السويد، فقبلتُ رغبته بكلِّ فرحٍ، بقيتُ معه اسبوعاً وقرأنا ليلةً بعد أخرى شِعرَنا وكتاباتِنا..أعطيته مجموعاتي وكان سعيداً بها. بعد أسابيع هاتفني ليخبرني عن نيَّته بكتابة دراسة عن مجموعتي رحيل، ولكم أن تتخيَّلوا مدى بهجتي برغبة نبيلة كهذه، ومِن مَن؟ من صديقي ومعلِّمي في آن. دراسته كانت أكبر من كتابي وقد أخبرني بأنّه سينشرها ككتاب. يؤسفني افترقنا لسنوات طويلة، لكنه كان دائماً معي، يزورُني في مناماتي أو يظهرُ فجأة من بين أمواجِ المحيط، حيث بيتي الصغير.
فقدتُ عنوانَه، بل وعناوين كل أصدقائي في هجمة فيضان رهيبة على بيتي. من سعاداتي الكبرى زيارته لي في لندن، تجوُّلنا اليومي في الحدائق وكان مُبهِجَاً في سردِ ذكريات ومشاهدات عن كركوك. مثل بقية شعراء مجموعة كركوك، فإن الصوت الخاص والمستقل هو ما يميِّز كلا منهم ومن هنا تأتي أهمية هذه المجموعة من الشُّعراء.
قبل شهرين اتصلت بالصديق الشَّاعر نصيف الناصري وسألته أن يخبرني عن حال الأب يوسف سعيد من الناحية الصحّية وغيرها وقد أخبرني بأنه يعاني من مصاعب جدّية صحِّياً. سألته بعدئذٍ إنْ كان ممكناً أن أزورَه في مالمو ثم نسافرَ معاً لزيارةِ شاعرنا النَّبيل, فرحَّبَ بالاقتراح. رتَّبتُ حالي خلال الشَّهرين الأخيرين للقيامِ بزيارته في الشَّهرِ المقبل، إلا أنَّ القدرَ كانَ له رأيٌ آخر.
اقرأ في كتابه (السفر داخل المنافي البعيدة) ما يلي من صورٍ مذهلة:
انني قادم نحو متَّكآت المدن السعيدة. وحدُها الفراشات تستريح على أجنحة البرق. تصوُّفي أرجوزة خالدة. انني أبحث في سهول شنعار عن سلالم موسيقية صنعة عازف عراقي. يومياً دجلة مع سرادقه البيضاء ينامُ في سفوحي. الاصواتُ أزمنة. العراق في بؤبؤي اقحوانة. هلاهل ضوئية تهطلُ كطلٍّ ربيعي. نسوةٌ قرب سريري يحدثنني عن هلاكي المؤجَّل بينما أراقب كوكباً كبيراً، متمنِّياً الارتقاء الى دياره. هل في أحواضه زنابق من نوعٍ آخر؟ وغيرها كثير.
في حياته، حيث خدم كل من احتاج إلى نصيحته وتضامنه، في العراق وفي غيره من البلدان، وفي شعره يقف شامخاً كشاعر حديث ووطني في آن. العراق شعره وشعره العراق، في مفرداته، حتى العامّية منها. فهناك مغازة، أشيل، كاغد، وتأتي تلقائيّة ومحبِّبة. انني احترم وفاءه الوطني، كعراقي في زمن خان فيه مثقفون كثر، كتَّاب وشعراء، وطنهم السومري لقاء فتات موائد المحتلِّين والخونة الذين شرذموا الوطن الى قومياتٍ وأديانٍ وطوائف. الصرخة الصادقة تفتحُ شبابيك العاصمة. ما أصدقك أيها النَّبيل. ننحني جميعاً لنطهِّر دموعَ عينيك. لقد تعلَّمنا منكَ الكثير وفي قصائد هذيانك تنزف مليون فكرة سعيدة.
أختم هذه الكتابة عن صديقي الشَّاعر الأب يوسف سعيد بقصيدة من كتابي رحيل
هنا، في هذا اليوم الغائر / بين السقوف والضفاف
تبدو مندهشاً / بين شفتيك مذاق مزرعة مرفوعة
بنظرات صامتين
هنا، الظلُّ نهرٌ / وللنهرِ ودائعٌ ووعود
وأنتَ، طويلاً، وتأسف على ذلك الآن
تركتَ الفلاسفة يرشّون روحَك
بترابِ التجوال بين المهاجرين
بقيتَ وحيداً، بين جدران السنوات
تكتب عن سلالات وأرامل
ولم يكن يغريك الا نداء
الشهقة لؤلؤة / هذيانك امتنان
فلتخرج، إذن، الى وادٍ أو الى سفحٍ
تأمَّل العشبَ، التراب واقتراب غزالة
هناك ستتعلمُ كيف الروابي، ومَن عليها
مائدةُ حياتك

الفلبين: 22. 2. 2012
صلاح فائق، شاعر عراقي مقيم في الفلبين، من روّاد شعراء جماعة كركوك الأدبية
*****
مملكة القصيدة عند الشاعر الأب يوسف سعيد

د. حاتم الصكر
لم ألتقِ الرَّاحل العزيز الأب يوسف سعيد شخصاً لكنني عرفته نصَّاً.
كان اسمه يأتيني محفوفاً بالغرابةِ والدَّهشةِ : أب مقدَّس يلتفتُ إلى فتنتنا بالحداثةِ وعِراكنا حولَ التحديثِ والنثر في الشِّعر بل يصوغ نصوصا تفلت من شِباك التقليد الوزني لتعبر إلى الضفة التي نصطف فيها تحت لافتة التحديث العريضة ولكن الموحدة لنبضنا التوَّاق للتغيير في بنيةِ القصيدة التي تجمِّد دمها وتجعَّدت ملامحها ونالها من التقليد ما جعلها هدفاً للعزلة والانزواء خارج زمنها وإطار أو سياق عصرها الضاج بالتبدل والتغيير في مناحي الحياة المختلفة والفنون والآداب بالضرورة.
إذن كنتُ أتساءل ما الذي يأتي بخطى زائر سماوي إلى محنة دنيوية كالتي اضعنا عمرنا ووقتنا في تقليب أوجهها والمساهمة بتواضع في المنافحة عن الطرف المجدد فيها؟
كان لجيل الستينيات وشعراء كركوك - ولن أستخدم مصطلح جماعة لتحفظي عليه- يد واضحة الأثر في ذلك العراك - لا الحراك - فلفت انتباه الجميع هؤلاء القادمون من هناك حيث كركوك التي وصفها الأب يوسف بأنها مدينة ضاحكة بالنار والنور وأن هواءها معبأ بالقصيدة .. قدموا بثقافة أخرى مضافة لانغماسهم في لجَّة بغداد التي تمورُ بالجدلِ والتحوُّلِ ثقافياً متغلِّبةً على الواقع السياسي والاجتماعي ومتجاوزةً أزمنةَ التحجُّرِ والتفرقة.
وظهرت بصماتُهم في الشِّعر خاصةً والصحافة الثقافية والندوات لا سيما في مجلات: الشعر 69 والكلمة و شعر والآداب البيروتية والصفحات الثقافية في الصحف العراقية.
وكان الأب يوسف سعيد يظهر وسط ذلك المد الحداثي النشط بارزاً كمركزٍ للاصدقاءِ الشُّعراء والذين يمكن تبرير لقاء الأب بهم وفي رحاب الكنيسة بقوله هو نفسه في وصفهم (أنَّهم كرّسوا حياتهم تماماً للثقافةِ والشِّعر، يعيشون بزهدٍ، بلا طموحات مادّية أو وظيفية، وبقوا هكذا حتى الآن. ما يدهش هو أن هؤلاء جميعاً، حين التقيت بهم، كانوا في قلب الثقافة العالمية، يبحثون عن الجديد. واحدهم يحمل اكتشافه إلى الآخرين من دون أن يفصلهم أي انتماء ديني أو قومي أو سياسي) كما تدلنا عناوين كتبه الشعرية التي صدرت منذ الخمسينيات حتى العقود الأخيرة على منهجه الفكري ، فهو - متمثلاً جبران خليل جبران - يرى ان الشاعر ليست مملكته في هذا العالم كما قال السيد المسيح عن نفسه ومن بعد يصبح الخيال فضاء الشاعر أو مملكته ويصير المنفى سفراً مستمراً كما يقول في عنوان ديوان له ظلَّ قريباً مني في أسفاري ومهاجري المتنوعه!
إنه (السفر داخل المنافي البعيدة) وفيه تتجلى طريقته الشعرية التي لا يمكن عدها ضمن شعرية قصيدة النثر لابتعاد قصائده عن إيقاعها ولغتها بل هو أقرب إلى الشعر الحر بالمعنى الإنجلو سكسوني أو الشعر المنثور في النظرية النقدية العربية.
شعر يستفيد من إيقاعات الخطابة ولغة الكتاب المقدس والصور المتجلية في خيال قريب للسوريالية التي ألهمت جبران ذلك الهيجان الصوري اللافت كتابة شعرية تقترب من موضوعها لتلامسه ثم تبتعد برهافة ورقّة وانتقاء لفظي وتركيبي تبرق بين ثناياه صور شديدة التاثير في المتلقي الذي يتابع نمو القصيدة فتأخذه لغتها بعيدا في طبقات القصيدة.
أطفر كخفش لأيائل في جزء من
وجهك السرمدي،
أتوقَّف، أراقب مواكب الآزال والآباد
أحتسي من خرير السواقي الخالدة
هذه المدرسة الشعرية المصطفة في الشعر المنثور او الحر باصطلاح جبرا ابراهيم جبرا ستفلح عبر نماذج الاب يوسف سعيد بإحياء الاسلوب الجبراني وأوليات أمين الريحاني في شعره المنثور وتجارب روفائيل بطي المبكرة في النصف الاول من العشرينيات.
وعبر هذا الوئام بين الروحي والشعري، بين الإشراقي واليومي ، المعنى والشكل تجدد شعر الأب يوسف سعيد وكان ضمن رعيل الحداثيين حيث استقبلته مجلة شعر وهي في عنفوان دعوتها لقصيدة النثر وهجوم التقليديين على حركات التجديد الشعرية والثقافية عامة.
لقد ودع الأب يوسف سعيد عالمنا المكتظ بالألم واستقرَّ سفره بين المنافي البعيدة أو داخلها كما يصر أن يقول ليرسي بسلام روحه وطمأنينتها بينما تظل كلماته تملأ الأفئدة بيقين نموذجي عن إخاء الروحي والدنيوي، والشعري والقدسي.
بما يمكن وصفه بوعي مضاف لشخصية الراحل الفذ شاعراً وإنساناً.

Hatem AL-Sager
د. حاتم الصكر
ناقد وكاتب وباحث عراقي مقيم في أميريكا

*****
أصدقاءُ الصيد في وليمة الأب يوسف سعيد

د. هاتف الجنابي

"تعالُوا يا أصدقاءَ الصيدِ لنصطادَ وجهَ الشطآنِ المتسلِّقةِ حدبةََ البحر..
إنني أنتمي قسراً إلى قبائلَ تشاكسُ كلَّ الأبجديات المنفيَّة،
إلى سلالاتٍ ساقطةٍ من خلجان الأقمارِ (السفر داخلَ المنافي البعيدة 1993).
بعضٌ من أصدقاءِ الصَّيد جاؤوك يا أبانا لا ليَرْثُوك، لأنَّك الآن أنتَ الذي ترثينا، ولا ليبكوكَ لأنك الأحقُّ منا في التخفيف عن آثامنا. قَدمِوا إليكَ، لوليمةٍ دعوْتَنا إليها، وأرجوك يا أبانا، لا تقلْ: لماذا تجشَّمتم كلّ هذا العناء وسفحتم كلَّ هذه الكلماتِ في غيابي! جاؤوك، لأنَّك حاضرٌ دائماً بيننا حتى حينما لُذْتَ إلى "سودرتالية" قبل عقود، حتى أصبحتْ هذه الأخيرةُ بالنسبة للبعض معروفة مثل حجرة البيت، صارت هي السويدَ كلها. أقول: جاؤوكَ، ليسألوك ويتحاوروا معك عن الشعر ونقاء الكلمة، عن رفع المسافة بين المحبة والكره، بين الإنسان والإنسان، بين العدم والوجود، بين عزلة الكائن البشري، أعني حقه في خصوصيته وبين انفتاحه الضروري على الآخر.
في هذه اللحظات، حيث تستريح من إدقاع الحياة التي أغنيتَها ومقالبِ المنفى الذي وصلتَ أقصاه، حيث تشربُ يداك من كأسِ السَّماءِ السَّابعة، تُذَكّرُنا بمصدر منفانا الذي يبدو وكأنه صارَ أزليا، بطفولة الطين، بمشتركاتنا في الماء والهواء والتراب، بالرافدين، والثيران المجنحة والجبالِ والأسد الرابض عند سرّةِ وادي الرافدين وشجرة آدم، وصحوةِ إبراهيمَ - حقنا لدماء الأبرياء والأحبة، من سلالة بني الغبراء. كنتَ ومازلتَ تُذكرنا بأننا قد نُذْبَحُ لشدةِ حبنا للناس وتعلُّقنا بالحياة حرَّةً، بفقرنا وغنانا، ألستَ أنت القائلَ: "يوميا دجلةُ مع سُرَادِقِه البيضاء ينامُ في سفوحي. اللهُ يُغْدِقُ على حواسّي أفراحا جديدة بينما يُضاعفُ فقري، لكنني لا أحسّهُ...طفولتي شبهُ نسورٍ محلقة في فضاءاتٍ بعيدة...". على أنني أسألك: لماذا بقيتْ هذه الفضاءاتُ بعيدة دائماً، حيثُ تقول: "وقد دَعُوكَ أميراً. تُرى متى ستعودُ وكلماتكَ مثقلةٌ بكنوز الحكمة؟ أيها الأميرُ الضائعُ. أمُّكَ تناغيك بكلماتِ أرجوزةٍ عراقية وترددُ بلوعةٍ أصيلة. آهٍ، متى سيعود الأميرُ؟"(من نص- الطفولة).
نعم، كنتَ فقيراً أسوة بالكثيرين من أبناء أرض السواد، وهذا لغزُ أهل بلادٍ تُمْطرُ ذهباً ومَنّا، لكننا لم نصلْ بعدُ إلى حلٍّ له، قد تدلنا أنتَ عليه ذاتَ يوم، أبانا المخضّبَ بالنور في هذه اللحظات. كنتَ معدما في طفولتك لكنَّك أصبحتَ من أثرياء العالم في خيالك وكلماتك العابرة للقارات. التقينا في كركوكَ مطلع السبعينات عبر ثلاث سنواتٍ متتالية، رغمَ أنني لم أرَك مطلقا. أكيد، كنتَ منشغلاً بلملمة أطراف أوراق لجوئك وترتيب مأواك وعدَّة "العشاء الأخير". كنتَ تمرّ طيفاً جميلاً رحيماً دافئاً في بعض جلساتنا: تَذَكّرَك كلٌّ من أبي أميمة- جليل القيسي، وجان دمّو الذي قال لي ذاتَ مرة مُتنَدّراً: "لا تخفْ عليه، سينقذه قلبه الكهنوتيُّ وكلماته المجنَّحة. لا تخفْ عليه، لقد نجا وتركنا نتحسّرُ على قطرةِ العرقِ"!
جليل هو مَنْ نبّهَني إلى أنَّك قد سلكْتَ طريقَ الكهنوتية، وفي الحقيقة، الشعرُ في أحد أوجهه وأعماقه كهنوتي. أنتَ حافظت على هذه العلاقة البديهية، لنقل "الأبريورية" حيث تنعدم الفوارق بين القشرة واللحاء، متنفِّسَاً به ومعه، صاعداً بالشعر نحو مدارك إلغاء الحدود الوهمية بين الأشياء والمسمَّيات، بين السواد والبياض، مقيماً هناك حيث العماء الأزلي. مثلما قادتك الكلمةُ بروحانيتها قُدْتَها أنتَ طوعاً إلى منبعها ومعينها اللذين لا ينضبان: الحرية مشفوعة بالبهاء وصفاء السريرة والخيال المتوَّجِ بالمحبة ويوم الخلاص الموعود- هذا الأمل الكبير الذي ينشده النورُ ذاتُه وجوهرُ الخليقةِ ذاتُه والمحبةُ ذاتها. أليستْ تلبيةُ دعوتك الباذخة في دماثتها وسطوة حضورها هي نسف للحدود ولِمَا يمكن أن يحدّ من الخيالِ أو يُسوّرَ المحبةََ ويقيسَها وفقَ مساطر "مُبغضي البشر"؟ من برابرة يترصدوننا في كلِّ مكان وكأنَّهم يسعون بذلك إلى إثبات الجانب الآخر الذي ننتمي إليه، أقصد ملكوت المحبَّة والتَّواصل والانفتاح على الآخر مهما كانتْ أصوله وفروعه طالما أنه يلهجُ بمحبَّة الحياة والنَّاس.
أبانا المضيءَ شعراً وشكلاً، وَصَلَنِي بسرعة البرق والضوء في العام 1994 ديوانكَ: "السفر داخل المنافي البعيدة" فاكتشفت هذا "اليوسفَ" وهو في محنته وجُبِّهِ، و"السعيدَ" في خِلْوَتِهِ وأمله اللامحدود بالخلاص في نهاية المطاف، فشربنا معا كأس المحبة وانطلقنا في اتجاهين: بحثيٍّ، حيث سمحتُ لنفسي بنقلك صحبةَ زمرة من الشعراء، من فضاء حريتك الوسيع إلى حيزِ الورق فأخضعتُ بعضَ محطاتك الحياتية وكلماتك لمبضع أكاديمي لا يرحم كثيراً فمررتَ عبرَ صفحات البحث بسلاسة ملبياً تداعيات المنفى ومديح وهجاء الطفولة وثيمة تعدد الانتماءات والفضاءات والعلاقة بين موسيقى الشعر والنثر والبحث عن الذات في الآخر والعيش في عزلةٍ تُبدِعُ ولا تُكبَحُ، ثم التحوُّل من عمارةِ الحديدِ والإسمنتِ إلى حوار الطبيعة ونقلها من صمتها إلى مملكة الكلمة. المشكلةُ الوحيدة معك في الإطار الأكاديمي هي كيف يمكن وضع جموح خيالك في إطارٍ وحدودٍ؟ أما الاتجاه الآخر فمضى دون منغِّصات وترتيبات مسبقة في اتجاه أخوة الشعر وطلب المغفرة على إساءة غير مقصودة منا أثناء أداء واجبنا بالتعامل مع الكلمات.
أبانا السعيد، كيف يمكننا السيرُ في طرقات المنافي، في ظل تناقض الرغبات وأساليب تحقيقها دونَ زللٍ، دونَ غضبةٍ واحدةٍ على الأقل، دون صرخةٍ واحدةٍ، دونَ رغبةٍ بتسديدِ لكمة لمَن أطاحَ بأحلامنا؟ منْ أدارَ خدّه الأيسر.. كان واحداً، لم يتكررْ، ولم نتمكَّنْ حتى اللحظة من استنساخِهِ. آهٍ، لو جرى استنساخه لما بحثنا عن المنافي القريبة أو البعيدة.
كنتَ تدعونا عن قصد أو دونه إلى فعل المحبَّة شعراً وخيالاً وملاذاً أخيراً، وما فضاءاتك الأخيرةُ: "الأرض، التراب، السماء، الماء" سوى تأشيرةٍ مفتوحة للولوج في هذه العناصر الأربعة والسير قدماً على طريق فك لغز الخليقة. كل عنصر هو كشفٌ، كل كلمة هي تورية عن مجهول نسعى للقائه:
"الأرضُ تحملُ سفنَ صمتها
إلى الممراتِ البعيدة
تحملُ ترسانةَ الإيمان
وسادةً محبوكةً من بخورِ الشفقِ الوليدِ
تحملُ غفوتَها إلى قاراتٍ
لتُسَمّدَ طاقاتِها العذراء
الأرضُ، جواهرُ من كلمةٍ خالقة
تَحْبِكُ أوردةً لقلب السماء"(فضاءات الأب يوسف سعيد، دار نشر صبري يوسف 99).
لقد امتحنتَ أيها اليوسفُ السعيدُ، الأرضَ والترابَ واحتسيتَ من مائها، وها أنت ذا تجرِّب السَّماءَ عن قربٍ دون واسطة.
أرجوكَ، يا صديقَ الكلمة النقيَّة، يا رفيقَ الحرية والخيال المجنَّح، لا تنسَ نحن ضيوفك الآن، بعد أن كنتَ ضيفنا العزيزَ كل هذه السنوات، أرجوك، لا تتعجَّل الإجابة، فثمَّة متًَّسعٌ من الوقتِ، أرجوكَ، قلْ لمنْ ستلتقي به هناك: نحن هنا المجبولين من الطين والماء، كلَّ يومٍ تضيقُ تحتنا وفوقنا وخلفنا وأمامنا الأرضُ، نحن هنا المجبولين من الطِّينِ، نحلمُ أيضاً بالسَّماء.

د. هاتف جنابي
شاعر ومترجم وباحث أكاديمي عراقي مقيم في بولونيا

****

باركَ اللهُ بشعرٍ
أنتَ قائلهُ
تباركَ الجمعُ
مَنْ في رِثَاكَ
جاءَ يُعتمرُ
***

ثكلى القصائد

المهندس إلياس قومي

زمناً جعلتُ الريحَ
يُبحرُ زورقي
ورأيتُ الدمعَ كيفَ
ينهشُ وحدتي
***
دوّنْ يمين َالشعر
أّنىَّ لكَ
وانسجْ على هام ِ الجبالِ
رايتي

***
قد كنتُ أنوي للسويد ِ
أزورُكم
لي أحبةً ٌفيها
وبعضُ من همْ مهجتي

***
تلكَ الرِكابُ
قدغيّرتْ
دروبَها
فإذا المنونُ
قد تناعتْ لوحشتي
***
ما كنتُ أحسبُ
هذي السنونُ خوابياً
تِلكَ الكرومُ
تُفيضُ نخبَ محبتي
***
عجبي لقوم ٍ
قدْ أشاعوا رحيلَك َ
لمْ يعرفوا تلكَ الثريا
تضيء ُدروبَ بليتي

***
عجبي لقومٍ
لِندبِكَ قد أتوا
ثكلى القصائدَ
مَنْ يحاكي نخلتي .
***
مهلاً " أبا الشعرِ"
تلكَ المرابدُ جمة ٌ
بئسَ المواسمِ ِ
إنْ خلتْ من وقفتي
***
قد كنتُ أعلمُ أنَّ
الحياةَ قصيرة ٌ
لكنْ ما بالهُ النسرُ
أبَ بلهفةِ
***
بغداد ُ ياأمَّ النخيلِ
دمعة ً
تبكي عليكَ
والنادباتُ صُحْبتي
***
عجبي " أبونا "*
كم باركت ْ
تِلكَ الأيادي الناعماتِ
سلوتي .
***
هذي الجموع ُ
والبرايا والندى
مَنْ يجمعُ الريحَ
ليذري حرقتي .
***
يا " أبا الشعر ِ"
بعدَ رحيلِكَ
منْ للمنابر ِ
أرمي عليها عباءاتي ؟!!

***

قُمْ تطلّعْ
ترى السماءَ
سحائباً
غادياتٍ تَعِبُّ
نزفَ دمعتي.
***
ما غركَ الصيتَ
ولا المناصبَ خِلسة ً
عِشتَ للشعر ِ
كنسر ٍ في فضاء ِ وحدتي
***
عمدتَ للشعر الحديث ِ
حداثة ً
ورحلتَ بينَ
الأقدمينَ لنزعةٍ .
***
إنْ جاءَكَ الشعرُ
المتيمُ جاثياً
إرحمْ طلولاً
من فيضِ جودِكَ
غنوتي
***
لمْ تمتْ يا " أبا الشعر ِ "
مادمتَ لنا
كوكباً يسطعُ
في سماءِ عتمتي .
***

إنْ خانني الحرفُ
أبا القوافي مرةً
أنَّ لغيركَ
ملجأً لقصيدتي
***

فاضرمْ عرينَ الدمع ِ
أروي حشاشتي
لاعيبَ إن صارتْ
رماداً حشاشتي
***
سَجّلْ حنينَ الشعر ِ
في جِيدِ الورى
قدْ خِلتُها الأرض ُ
صارتْ حجتي
***
إن يأذن ِ الله ُ
هذا رحيلُك َ
قد فارقَ الزهرُ
بقايا روضتي
***
نمْ يا أبا الشعر ِ
فهذي رحلة ٌ
ومصيبة ُ قومي
هذهِ غربتي.
***

قدرُ المنافي
أنْ نعيشَها غربة ً
هذي الجموعُ
تشدُّ وزرَ محنتي
***
ماجئتكَ اليومَ
" أبونا " راثياً
لكنَّ لشمسِك َ
كي تُباركَ جبهتي


ألياس قومي
شاعر ومهندس سوري مقيم في كندا

*****
وداعاً يا أبتي

شربل بعيني

عام 1987 تلقيتُ دعوةً للمشاركةِ بالمربد الشعريِّ الثامن في العراق، فكانت المرة الأولى التي أعودُ بها الى وطني العربي الأكبر بعدَ غيابٍ طويل. كنت خائفاًُ كطفلٍ صغيرٍ يَمَّمَ وجهَهُ جِهَةَ الشرق ليبحثَ عن أبٍ أضاعَه يومَ رحل، وما كنت أعلمُ أنني سأجدُه في بغداد، كاهناً قديساً، وشاعراً محلقاً، وناقداً متواضعاً، وصديقاً قلَّ مثيلُه.
لقد وجدتُك يا أبتي، يا شاعري، ويا صديقي الأب الدكتور يوسف سعيد. عندها تلاشَتْ غربتي، واضمحلَّ خوفي، وأحسستُ أنّي وجدتُ الوطن.
يا وطنَ القداسة، لن تنطفىءَ شموعُك.
يا وطنَ الشعر، ما أجملَ بيوتِك.
يا وطنَ الصداقة، ما أوسعَ حدودِك.
يا كاهنَ الرب، ظلِّلْني بأبُوّتِك، باركني بِيَراعِك وسدِّد خُطايَ بقداستِك. لقد كنتَ الكلَّ في شخصٍ واحد، فأحبَّك الكلُّ وتباهوا بطَلَّتِك.
رحيلُك عنّا خسارةٌ لن تعوّضَ، ولكن مهما أحببناك لن نحبَّك قدرَ الداخلِ الى ملكوتِه السماوي، فاهنأ برفقة سيِّدِ المجد.. لأنَّك كنتَ المجد. وداعاً يا أبتي وإلى اللقاء.

إبنُك الشعري شربل بعيني
سيدني ـ أستراليا
*****
وتحلِّق النّفس لا محالة

هشام القيسي

الى روح الأب الشَّاعر د . يوسف سعيد

الشَّاعر في طريق عودته
يشهرُ عزفَ النفسِ
ولا يتوقّف عن الحديث .

كل يناغم الآخر دون انطفاء
وكل من شجر وسماء
وتحولات متشابهة ،
هكذا تفيض الرُّوح
إنَّها أعلى
بريئة مضيئة
ترفرفُ في الأمكنة،
تورقُ هنا
تورقُ هناك
ثم تشهدُ الحدائق الأبدية .

أيها الأب الحكمة المعبأة بالطقوس
هذا وعد يقلب موعظة الوصايا
وهذا وعد ينادي من نوافذِ اليقين ،
وعلى طول المسار
أنت تحيا ولا تنام .

هشام القيسي
مع محبتي
العراق – كركوك، شباط (فبراير) 2012

*****
يا سيَّدَ الكلام. ما أصعبَ صمتكم

د. جبرائيل شيعا

الحضور الكرام
علمٌ من أعلام السريان، ونجمٌ من نجومِ الشعرِ والمعرفةِ والأدبِ، لبّى نداءَ ربّهِ بثوبِ الطُّهرِ والقَداسةِ وارتفعَ للعلاء. أجواقُ الملائكةِ باستقباله، تعزف سيمفونيةَ اللقاءِ، وتعدُّ الطريقَ للجلوسِ أمامَ عرشِ الإلهِ. فهنيئاً لكم الأمجاد السَّماوية يا أبتاه.
يا أبناء أمَّتنا السّريانية
ما أصعبَ الفراق ونحن نودّع اليوم عبقريّاً وقدّيساً وقلماً من أقلامِ الأفذاذ السريان. طالما تدفَّقتْ منه الأشعارُ السريانية والعربية، والأفكارُ، والتراتيلُ والعِظاتُ، لتنيرَ الجهلَ والظلامَ. مؤلفاتُه أسرجةٌ منيرةٌ، نقشُ الشموخِ والعلياءِ. ما خطَّه قلمه قبساتُ نورٍ وضّاء. رحيله خسارة للإنسانية جمعاء.
فماذا عسايّ أنْ أقولْ، والأسى أثقل صدري وعقد لساني. رحلَ صاحب ُالرأي السديد. صاحبُ الكلمة الرَّصينة التي تتوغَّلُ بسلاسةٍ في أعماقِ العقولِ والقلوبِ، ينطقُها قولاً ، يكتبُها حرفاً ، ويعيشها روحاً.
أبونا يوسف سعيد نبكيكَ اليوم، ولا عيب في البكاء. لو بكتكم هذه الجموع. سلامكم الذي تودِّع به المؤمنين، وتباركهم بقولكم (زيلون بشلومو آحاين وحبيباين ...... )، نتبارك به، وأنتم في السماء.
يا سيَّدَ الكلام. ما أصعبَ صمتكم.
شهمٌ من بلاد النَّهرين، رجلٌ من رجالات بيت زبدي ـ آزخ . صديقٌ لكل المتعَبين والغرباء، يحملُ في صدره ذخائر الإيمان القويم. رحلَ إلى السَّماء. نَضَبَ الكرمُ ويبست أزاهير الحقول، صمتت الحروف وتاهت الكلمات!!
كيف ننساك يابن آزخ الحبيبة
لشدَّة شَغفكم بمسقطِ رأسكم آزخ الصمود والبطولة. آليتم على نفسكم أن تلحقوا بركب أعمدتها وشهدائها وقدّيسيها وأعلامها إلى قافلةِ الأمناءِ في السَّماء.
سيستفقدكم كل من عرفكم وسمع حديثكم الشيّق ونقاشكم الموضوعي الهادف، المليء بحكمةِ الحياةِ والأمثال والآياتِ من الكتاب المقدس، والإثباتات التاريخية والبراهين النَّاصعة كبياضِ الثلجِ.
لمكانتكم الرفيعة ومحبّتكم الكبيرة يا أديبنا الكبير الأب يوسف سعيد، هبَّ الكتَّاب والأدباء والشعراء والمحبين ليخطّوا ويعبِّروا عن مشاعرهم وأحاسيسهم فكان موقعنا الحبيب كولان سوريويي منبراً لنشر كلماتهم وتعابيرهم الرقيقة لشخصكم الكريم، اللائحة طويلة فاقتصر على ذكر البعض منهم.
الأب الدكتور يوسف اسطيفان البنَّا من العراق!
الأب القس عيسى غريب، ألمانيا
الدكتور بشير متي الطورلي، العراق
الأديب المحامي عبد الكريم بشير، ألمانيا
الملفونيتو الشاعرة سعاد اسطيفان ـ بنت السريان، السويد
الشاعر المهندس إلياس قومي، كندا .... وغيرهم

فوش بشلومو كوهنو ميقرو
وداعاً أيها السراج الذي إنطفأ نورُه.
أبونا يوسف سعيد لم تمُتْ فإسمك سيبقى خالداً بيننا وفي قلوبنا إلى الأبد.

الدُّكتور المهندس جبرائيل شيعا، مدير موقع كلنا سريان مقيم في ألمانيا
السويد – سودرتالية 11 شباط 2012 م

أبونا الشَّاعر يوسف سعيد مات، افتحوا الإنجيل

وليد هرمز

غادرَنا بكاملِ قيافته، بجُبَّتهِ الكهنوتيّة
ومضى حافياً إلى مَنْ حَمَلَ الصليبَ،
إلى مَن آمَنَ بهِ شاعراً ثم نبيَّاً
تصالَحَ بينَ موقعَتيْنِ:
موقعةُ الإيمانِ،
وموقعةُ الشَّكِ.
متأمِّلٌ حَذِقٌ
يضعُ فانوسَه في وسطِ الطَّريقِ
بين ناقوسِ يسوع، وناقوسِ الشِّعرِ.
فكم غاوٍ تبِعَهُ، وكم مؤمنٍ أحبَّهُ وصلَّى أمامَهُ
وتناولَ القُربانَ مغمَّساً بنبيذِ الشِّعْرِ.
بايعَهُ العامَّةُ كاهِناً من أتباعِ صاحبِ
كأسِ النَّبيذِ المُرِّ في عشائهِ الأخيرِ

ينشدُ لهم سيرةَ الآلامِ مغمِّساً في تلكَ الكأسِ
قِرْصَ القُربانِ ـ خُبزَ المُناولةِ الذي يُعجَنُ فطيراً
في كنيسةِ المنفيينَ في سودِرتاليا.
وبايعناهُ، نحنُ المُقرَّبينَ من طينةِ روحِهِ
ـ طينةِ الشِّعْرِ، شاعراً يقُصُّ علينا سيرةَ رؤياه
التي استقاها من نشيدِ الإنشادِ.
ما الذي يجمعُ كاهناً اتَّخذَ الكهنوتَ مهنةً،
بالشِّعْرِ الَّذي يوسوسُ بين سطورِهِ مخْيالَ الرُّؤيا؟.
أهو تعويضٌ عن المخيالِ الديني؟.
أجزمُ أنَّهُ كانَ يقرأ التَّوراةَ والإنجيلَ بروحِ الشِّعْرِ.
لقد خطَّ أولى حروفِ الشِّعرِ في كركوكَ مدينته الأثيرة على قلبِه ووجدانِه
تلك التي يصفها بـ "مدينةِ النُّورِ والنَّارِ". حتى احترقت أصابعَهُ المرتجفة
وهي تدوِّنُ غمغماتِ الرُّوحِ بالنَّارِ الأزليَّةِ المنبعثةِ من آبارِ "بابا كْرْكْرْ".
سبقنا إلى الشِّعرِ،
وسبقنا إلى المنفى، مؤمناً بأنَّ الشَّاعرَ الحقيقيَّ
ينتصرُ بشعرِهِ كلَّما تغرَّبَ حاملاً فانوسَ الغوايةِ
بحثاً عن مدينةٍ فاضلةٍ، عن مدينةِ "أينْ".
ومثلنا اضطُهِدَ في بلدهِ الأُمِّ، فقرَّرَ الرَّحيلَ ذاتَ يومٍ من أيامِ 1970 إلى بيروتَ، فعاشَ فيها عدَّةَ أعوامٍ إلى أن عثرَ عندَ منحدرِ جبلٍ على حذاءٍ مطاطيٍّ سميك، انتعلَهُ ومشى فوقَ ثلوجِ البحارِ حتى وصلَ ستوكهولم. فعاشَ في شُبهِ عزلةٍ إلاَّ من عزلةِ الشِّعرِ.
زارنَا قبلَ أعوامٍ بعيدة إلى غوتنبورغ. سهرنا معه بمعيّةِ شعراء آخرين منهم جليل حيدر وسلام صادق، ومحمَّد الحسيني، والمرحوم شريف الرُّبيعي. عندَ العشاءِ تناولَ بيدهِ رغيفاً وأخذَ يقطِّعه ويناولنُا ويقولُ: "باركوا هذا الرَّغيف،
باركوا أمَّهُ الحنطة.
باركوا أصابعَ الخبَّازِ.
باركوا التنُّورَ.
نخبكم.
لم ينسَ أصدقاءَه، فقد كان يتفقَّدُنا دوماً عبرَ صوتِه الحنون الذي يأتي عبر الهاتفِ آخرَ اللَّيلِ.
سألهُ، مرَّةً، الشاعر عبد القادر الجنَّابي، كيف بإمكانكَ كتابةُ الشِّعرِ وأنتَ راعي كنيسة؟، فأجابَ: "على طريقتينِ نعرفُ اللهَ. اللهُ الذي نتعصَّب لهُ إلى حدِّ الإنتقامِ والدِّفاع عنه إلى حدِّ الانتحارِ وإبادةِ الآخرين. هذا الله لم أتعرَّفْ عليه بعد ... وحتى تتمتَّعَ بحرِّية اللفظةِ، وتحصلَ على لغةٍ مجنَّحةٍ، عليكَ أن ترتديَ تاجَ المحبَّةِ، وتتقمَّصَ إلهَ المحبَّةِ".
إذن، الشِّعرُ مسموحٌ لهُ أن يتمجَّد في بيتِ اللهِ.
وكما سبقنا إلى الشِّعرِ، سبقنا إلى المنفى،
وأخيراً سبقنَا فعبرَ البرْزَخَ
إنهُ الآنَ يجلسُ على كرسيه ملاكاً على أرضِ الينْبوسِ.
طوبى لأبونا الشَّاعر الجميل يوسف سعيد،
ولتتمجَّدْ كلَّ حروفِه التي خطَّها على جِلْدِ الحياةِ.

غوتنبورغ (يوتوبوري) 1 آذار (مارس) 2012
وليد هرمز
كاتب وشاعر عراقي مقيم في السويد ـ يوتوبوري

CONVERSATION

0 comments: