كانت تطلّ علينا وهي متشحة بالاسكيم الرهباني ذي اللون السمائي بروحانيتها العميقة وفكرها المتوهج وحماسها المتألق. قرأت كثيرًا، وأبحرت طويلاً في سفينة المسيح. ومع تقلبات الزمن ارتحلت تحج إلى الأعماق وهي تخمر رؤيتها، لتقرر من بعد طول إنتظار الغوص في بحيرة الإنسانية وهي تحمل على كاهلها "الصندوق الأسود" المٌتخم بذكريات حياتها الرهبانية، المليئة بالكثير من الأسرار الدفينة والنوادر المغلقة والطلاسم المقفلة.
التقيتها للمرّة الأولى في مطلع الالف الثالث بجلسةٍ ثقافية طلابية في مقهى كلّية بابل الحبريّة للفلسفة واللاهوت، ومع مضي الشهور جمعتني معها أنشطة ومواقف عديدة، فنمت بيننا الصداقة رغم اشتباكات وجهات نظرنا. كان كلّ منّا يعوم عكس افكار وقناعات الاخر، لكن صداقتنا الأخوية استمرت متماسكة يسودها الودّ والإحترام. وفي يومٍ من أيام دراستنا بعد أن مضت السنون على تعارفنا جاءت لتبلغني قائلة: "أتعلم يا شمّاس أنَّ أجملَ ما في صداقتنا هو إنّ ذلك الإختلاف القائم بيننا لم يكن يومًا خلافًا أو صراعًا شخصيًا". أما أنا فقد التقطتُ بدوري خيط الحديث منها وذهبت للقول: اوَليست جدلية الحياة تكمن في الإختلاف وتعدد الرؤى؟! فإنَّ الإختلاف والعوم ضد تيار الاخر، دليل على الثراء الإنساني. التوقف عنده يعني العودة إلى الوراء، ولأننا لم نتوقف فهذا مؤشر على أننا نسير إلى الامام.
وعندما أفتش اليوم في ذكريات الأمس فإنني أجد أننا درسنا معًا وعملنا سوية أيام الدراسة وفي فترة تكوين الذات، إذ في عام 2003 كُلفتُ مِن قبل عمادة كلّية بابل الموقرة لكي أكتب "حوليات الكلّية"، وبعد مرور بضعة أشُهر أسند لي سيادة المطران مار جاك إسحق عميد الكلية مهمة سكرتارية رئاسة تحرير مجلة الحكمة التي تصدرها الكلية، وكانت هيئة التحرير تضم كلّ من الآباء الكهنة: أوكين هرمز، مازن أيشوع، نادر إسماعيل الراهب، الأخت رابينا الراهبة. أقول ذلك والذاكرة تعود بي إلى الوراء، فأذكر أنّني كلّما ذهبتُ إلى أعضاء هيئة التحرير بغية اشعارهم عن اجتماع قريب من المزمع عقده مع سيادة العميد – رئيس التحرير- لغرض مناقشة أبواب العدد القادم من تلك المجلة، كنتُ أجد الأخت رابينا تشاكسني بمرحٍ في أوقات الجد، فعوضًا من أن ترحمَ حالي وتقدر ظروف دراستي وقحط الوقت لتشد أزري، كنت القاها تهمس في أذني وهي مبتسمة: " يا شمّاس قل لسيادة العميد إنّ هذا الإجتماع هو العاشر بعد المليون". وكنا نضحك حتّى تدمع عيوننا من شدة الضحك.
وحدث ذات يوم أنّ البعض كان قد وشى باعضاء هيئة التحرير إلى عمدة الكلّية في تهمةٍ باطلةٍ مفادها إنَّ الأعضاءَ يتغيبون عن محاضرات الكلّية بحجة العمل في المجلة، لكنهم يبارحون الكلّية متجهين إلى اديرتهم وليس لمكتب المجلة في المركز الثقافي التابع للكلية. اثار هذا ألأمر حفيظة راهبتنا واغضب الهيئة، وحين علمت بالموضوع طويت النفس على أمرٍ قررته وذهبت في صباح اليوم التالي إلى سيادة عميد الكلّية ترافقني أسرة التحرير وعقدنا أجتماعًا لتوضيح الأمر. واذكر أنني حدثته بنبرة إنزعاج وإنتقاد قائلاً له:"لا نظن إنّ تلك الوشاية كانت بريئة المقاصد، علاوة على إنَّ فيها مغالطة فاضحة. الرجاء لا تمل اذنيك للاخرين لأن بيننا وبينك ألف واشٍ وواش". ثم واصلت القول لافند له الإنطباعات الظالمة التي اسيقت عن الهيئة، واوضحت له حقيقة الأمر. لكنه ظلّ متمسكًا باطراف الحقيقة وليس باكملها. وعندما انتهى الإجتماع انتحت بي ماسير رابينا جانبًا بهدوئها المعتاد وكياستها الملحوظة قائلة لي: "لا تفعل ذلك مرّة أخرى مع العميد، لأنه لا يقبل النقد المباشر أو التصحيح العلني أمام مرأى ومسمع الآخرين، إنّه ليس الأب حَبّي". وأردفت قائلة: " تذكّر جيدًا إنّ الذي جعله يتحول عن (فلان) ويمنع عنه ما يستحقه من إستحقاق أنه كان يفعل أحيانًا مثل ما فعلت أنت اليوم". حينها شكرت لها النصحية وسعيت إلى استيعاب المشورة. إنّها ذكريات الأمس وما أكثرها، ولكن النسيان هو آفة الإنسان في كلّ زمان ومكان.
خلال مسيرتها الرهبانية كان لها نظرة أمينة لظرفٍ استثنائي ووضعٍ مقلوب يصعب وصفه في ظلّ مُعاناة بحجم الجبال لم تدر بخلدها البتة. ولقد أثار اهتمامي وإعجابي قدرتها على تحدي الظروف القاسية والأزمات الحالكة التي مرّت بها، بيد أنها استمرت ملتزمةٌ بمواقفها لا تحيد عنها، فلم تمنعها قلاع ولا سواتر ولم تصدها موانع ولم تردعها روادع أو مخاوف، فلم تتراجع عزيمتها ولم تفرط في خدمتها اثناء سنوات العطاء والنذور يوم كانت أشبه بشمعةٍ تشتعل وتتوهج لكي تنير عتمة الآخرين. لكنها وعبرَ مسيرة متعبة تخللها طول آناة، لمست لمس اليد أنها عرضت شموعها للرياح ونذرت ورودها قربانًا للنار، إذ لم تجد من يسند رسالتها ويتبنى قضيتها، فظلّت مصلوبة في بيت العائلة، تنساب الدموع على خدّيها بعد أن ادرار الجميع ظهورهم لها، لكنها وكما عرفتها وعرفها غيري كانت كالانهار لا تلتفت إلى الوراء.
في الأمس كانت واحدة من رموز رهبانيتها، واليوم هي إنسانة متألقة ونموذج نعتز به ونفاخر على الدوام، وهي لا تزال تستكمل رسالة الأمس بثوبٍ آخر وتسمية مختلفة وبفرصٍ أقل، تواصل عطاءها وتمضي بثبات. وبعيدًا عن أجواء الدراسة والخدمة الكنسيّة، ربطتني بها علاقة فكرية وثيقة أعتز بها، وجمعني معها عقلية نقدية متقاربة أحرص عليها، سيّما وأنّ لكلّ منّا رسالة تتجلى في خدمة الإنسان وتوعيته إلى السبل التي تجعله قادرًا على إيلاء القيمة الحقيقية لذاته. واليوم كلما رأيت وجه تلك الإنسانة المثابرة الصامدة أمام تضاريس العمر، تذكّرت تلك الأيام الناصعة والجميلة من تاريخ دراستنا في الكلّية ببغداد.
إنّني أكتب الآن عن صفحةٍ مطوية من تاريخ إنسانة كان لها الدور البارز في الحياة الرهبانية لكنيسة المشرق الاشورية من تاريخ العراق المُعاصر، لا أود التطرق كثيرًا إلى تلك المرحلة، بل اترك المجال للذين غاصوا في أعماق تلك الفترة واحداثها لكي يدلّون بدلوهم، لكنني اسوق فقط ما علق في الذهن من ذكريات تكاد تكون أشبه بلقطات عابرة رأيت أن أخرجها للعلن وأنا أتأمّل الفارق بين حالتين مختلفتين للإنسان الواحد، عايشها بين حصن الدير وفضاءات العالم، خاصّة وأنا عرفتها عن قربٍ وعاصرتها بدرايةٍ وهو في وضعين غير متشابهين،(الحياة المكرسة والعلمانية) عبرَ سنوات حياتي التي تكمل هذا الأسبوع تحديدًا ال36 عامًا. وضعان أو حالتان تغيرت فيهما الملامح والمظاهر دون أن يطال التغيير الجوهر.
إنّها الآنسة سناء ايليهو كوركيس، الراهبة السابقة التي عرفت بماسير رابينا. فتعالوا معي لنتعرف معًا بهداوة على صفحات مشرقة من ماضيها وحاضرها في هذه العجالة.
أبصرت الأخت سناء نور الحياة في بغداد بتاريخ 1/1/1967 . ترعرع إيمانها في كنيسة مريم العذراء بمنطقة النعيرية وكيارة، إذ فيها شرعت بدراسة وتعلم اللغة السريانية - الآشورية عام 1988، وكانت إحدى اعضاء جوق الكنيسة. عقب سنوات من المثابرة والإجتهاد في هذا المجال اصبحت تلك التلميذة معلمة، إذ تولّت تدريس اللغة والتعليم المسيحي في الكنيسة ذاتها. درست الابتدائية والثانوية في بغداد، ثم حصلت على دبلومٍ من معهد الفنون الجميلة سنة 1992، لتعمل فيما بعد مذيعة ومُعدّة للبرامج في إذاعة بغداد للناطقين باللغة السريانية إلى عام 1997.
سنة 1994 اخبرتها مسؤولة جوق تراتيل الكنيسة برغبة غبطة المطرابوليت مار كيوركيس صليوا الوكيل البطريركي لكنيسة المشرق الآشورية في العراق في إنشاء دير للراهبات لكنيسة المشرق الآشورية بعد انقطاع الحياة الرهبانية في هذه الكنيسة إلى ما يربو إلى الـ 700 عامًا، ولكن مسؤولة الجوق لم تكتفِ بذلك الإعلان وحسب، بل توجهت إليها بالسؤال: "هل ستنضمين إلى الدير؟". وكان جواب الأخت سناء بكلمة ( نعم)، واستطردت قائلة: "إنْ شاء الرب سأكون أولى المنتسبات إليه".
مضت سنتان تضافرت خلالها جهود الخيرين مع المشيئة الربانية، ليتم الإعلان عن افتتاح "رهبنة مريم العذراء لكنيسة المشرق"، (رهبنة نسائية).التحقت الأخت سناء في الدير بتاريخ 16\9\1996 بالرغم من معارضة والديها الشديدة، إذ تسللت ذات صباح خلسة من بيت العائلة بعد أن ذهب الأهل إلى وظائفهم، متوجهة إلى الدير وهي تحمل حقائبها التي حزمتها سرًا.
كانت شغوفة بالدراسة، فاهتمت ودأبَت على مواصلة تثقيف ذاتها بغية توسيع معارفها وتعميق روحانيتها، لذا قضت سنوات من الدراسة في عدة ِ معاهد ببغداد فتخرجت من: دورة الدراسات اللاهوتية في كاتدرائية مار يوسف للاتين (السنتر). معهد التثقيف المسيحي التابع لكلّية بابل الحبريّة للفلسفة واللاهوت. معهد الآباء والطقوس التابع لجامعة مينغن/هولندا. وأخيرًا كلّية بابل الحبريّة للفلسفة واللاهوت.
كان لتلك الرهبنة الفتية رسالات روحيّة وثقافيّة في ربوع وطننا العزيز- العراق، وكان نصيب الأخت سناء أن تنشط بإرساليتين إلى قرى الشمال؛ واحدة قي قرية باكيرات التابعة لمحافظة نوهدرا والثانية في قضاء العمادية بعد أن أُنيطت بها إدارة الحياة الديرية للأخوات الراهبات، وكذلك إدارة الدراسة وإعداد المناهج. وكان لها رسالة مُماثلة في بغداد فضلاً عن القاء المحاضرات الإيمانية والتثقيفية في مجمل كنائس بغداد بتنوعها وتعدد أسمائها الثري، مؤمنة إنَّ الكرازة بإسم السيّد المسيح أسمى من كلّ الإنقسامات الطائفية، لان كلمة الإنجيل لا تقسّم ولا تُفرّق، بل على العكس تُقرّب وتوحّد وتجمّع. هذه كانت مبادئ رسالتها.
شغلت الموسيقى والترانيم مساحة كبيرة من رسالتها وحيزًا واسعًا في حياتها؛ حيث أهتمت بتدريب جوق تراتيل كنيسة مريم العذراء ناهيك عن كتابة بعض الأشعار البسيطة وتلحينها وتدريب الأطفال لتأديتها في حفلات تخرج الدورات الصيفية الكنسيّة. ولقد استخدمها الله أيضًا في إعادة تأسيس جوق التراتيل للاطفال في الكنيسة المذكورة منذ أن أنيطت بها مهمة تدريب جوق البالغين في السنّ، بعد توقف ناهز العشر سنوات، ايمانًا منها بقول السيّد المسيح له كلّ المجد: " مِن أفواهِ الأَطفالِ والرُّضعِ هيأْتَ تسبيحًا". ولم تتوقف رسالتها عند ذلك الحد، بل قامت بزيارات دورية إلى الأماكن التالية: دور العجزة، سجن النساء غير المحكومات، سجن النساء المحكومات، سجن الأحداث للصبيان، دار الأيتام، دار المعاقين الأطفال، دار المسنين، مشفى الأمراض العقلية والعصبية (الشماعية)، لكن تلك الخدمات توقفت اثر رحيل الأخت أولكا إلى خارج العراق في ايلول 1999؛ حيث كانت الموافقات الرسمية قد صدرت بإسمها.
منذ آواخر عام 1999 خدمت الرهبانية بمفردها، بسبب ترك الأخوات للحياة الرهبانية، زد إلى ذلك قلّة الدعوات وظروف الحصار الاقتصادي الذي أدى إلى تردي الأحوال المعيشية للعراقيين، مما دفع بالكثير من العراقيين وأجبرهم، سيّما المسيحيين منهم على الهجرة وترك البلاد أكثر من التفكير في التمسك بالجذور والإستقرار داخل الوطن أو الخدمة فيه. ولا أعلم كيف تسنى للأخت سناء مواصلة رسالة الرهبنة بمفردها في غمار تلك الظروف القاهرة؟ فلعلّها كانت تهوى قيادة السفينة أثناء العاصفة، ولكن على ما يبدو أنَّ رياح تلك الظروف التي مرّت عليها وعصفت بالرهبانية لم تشل عزيمتها يومها ولم تعيقها عن خدمة الإنسان المُهمش بغض النظر عن دينه أو مذهبه أو قوميته.
علاوة على براعتها في تقديم المحاضرات وإقامة الرياضات الروحية للشبيبة، نراها قد فلحت في رسالتها الإعلامية يوم عاودت العمل في إذاعة بغداد مرّة أُخرى، إذ كانت تطلّ على المستمعين عبرّ برنامج إيماني تقدمه كلّ يوم أحد طيلة الاعوام من 2001 إلى 2003؛ لكنها توقفت وخمد حماسها يوم انهار كلّ شيء في البلد، حيث تعطلت عجلة الحياة في العراق بسبب سقوط النظام السابق على يد الأمريكان.
في مطلع عام 2003 كانت قد أغلقت ابواب الدير الواقع في حي عرصات الهندية ببغداد وذهبت إلى بيت العائلة لتبقى حبيسة الدار، لأن نيران الحرب الحارقة كانت على وشك النشوب، فظلّت على تلك الحال ردحًا من الزمن، علاوة على تفاقم اثار الحرب وما نجم عنها من سرقة ونهب التي عرفها العراقيون بـ "الفرهود" أو "الحواسم"، فضلاً عن تفشي ظاهرة مخيفة وهي ظاهرة القتل على الهوية وإختطاف الابرياء والافراج عنهم لقاء مبلغ مادي ضخم، هذا من جانب ومن جانب آخر اتسعت رقعة التفجيرت عقب انهيار الوضع الأمني بالكامل، والذي لا يزال سيئًا إلى يومنا هذا، ممّا ادى إلى عدم استطاعتها العودة للعيش داخل حصن الدير واستكمال رسالتها كما تقتضيه قوانين الأديرة، إذ مكثت في بيت الأهل لمدة اربع سنوات ونيف، تطل على العالم الخارجي من حين إلى آخر أثناء عملها في إذاعة "شرارا" التابعة لأحد الأحزاب الآشورية في العاصمة بغداد.
في عام 2007 حان موعد نذورها المؤبد وفق ما تقتضيه قوانين رهبانيتها التي لم تدم طويلاً بعد أن أُسدلَ الستار عليها سريعًا. ولطالما كانت الأخت سناء انسانة صادقة مع نفسها، أمينة مع ربّها الذي زرع في قلبها بذار المصداقية، لهذا قررت عن خبرتيّ علم ودراية و تفكير وصلاة إلى ترك الرهبنة وإعلان حالة الطلاق بينها وبين الترهب بشكلٍ نهائي بعد صبر تليد، سيّما وأنّ بقاءها بعيدة عن أجواء الدير جعلها في حالةٍ من الشعورِ بفتور الدعوة. لقد أبت أن تَزجَّ بنفسها في عهدٍ رهباني مؤبد مع الله ومع العبادِ في ظروفٍ استئنائية طال امدها. اثر ذلك القرار تم اغلاق أبواب دير مريم العذراء لراهبات كنيسة المشرق بشكلٍ نهائي إلى يومنا هذا.
غادرت العراق بمفردها في 15/1/2011 متجهة إلى لبنان، وهناك عانت من شظف المعيشة، فعملت في متجرٍ لبيع الملابس، منسحبة عن الاضواء، عازفة عن الجميع، متوقفة عن الأنشطة الروحية والقاء المحاضرات، بعد أن أبتعدت قدر الإمكان عن أنواء الأحداث المعقدة، لا تدس انفها في اعاصير الماضي. هي التي كانت بالأمس الراهبة المتنورة المعروفة بثورتها على قوالب الماضي الجامدة، مخالفة لرتابة المألوف، تعوم في بحيرة التحرر لتحرك المياه الراكدة، فلعلّها نجحت تارة وفشلت تارةٍ أُخرى.
لم يمضِ وقت طويل على تواجدها في لبنان لتختبر خبرة مؤلمة عمقت روحانيتها وصقلت خبراتها وشذبت تجاربها الحياتية، إذ اصيبت بمرض السرطان. مرّت الأيام وكأنها دهر واجريت لها الفحوصات الطبية اللازمة وعرفت أخيرًا أنّه سرطان من النوع " الحميد" وليس " الخبيث". وسط تلك الأجواء الحالكة الظلام كان إيمانها القويم ثابت في الرب لا يتزعزع، فواظبت على الصلاة محتملة صليب المرض، صابرة على قساوة الوحدة وعتمة الغربة. ولان الرب لا يترك عبده الأمين ولا يتخلى عن محبيه، نلقاه يضع على طريقها عائلة مسيحية شاطرتها معاناة الغربة وهونت عليها وطأة المرض، وهي عائلة السيّد أبو تاور، التي تمتد جذور الصداقة بينهما منذ خدمتها في بغداد، فاحاطوها بالرعاية المطلوبة.
في لبنان تفاقمت عليها محنة المرض، إذ لا يوجد تأمين صحي للفرد اللبناني، فكيف الحال لغير اللبناني؟ّ فوقفت تكاليف العلاج المكلف للغاية، وقلة ذات اليد، عائقًا، بيد أنَّ في وسط عتمة الظلام وشدة اليأس هناك وميض نور ودرب للرجاء ومتسع للأمل، إذ تلقت العون المادي من كهنة كنيسة المشرق الآشورية في لبنان ومن بعض الأقرباء والأصدقاء.
بعد أن باعدت بنا الأيام، هاتفتها يومًا حين حطت الرحال في استراليا بتاريخ 25/4/2013. فشاءت نعمة الرب أن التقيها مجددًا في سيدني بعد فترة وجيزة من قدومها لهذه القارة التي تقع في كعب الدنيا، وكان لا بُدّ أن يبدأ حديثي معها من تلك المراحل العصيبة، فسألتها عن تلك السنوات الخصبة والعجاف معًا. أشاحت بوجها بعيدًا نحو النافذة، فطفحت عليه ظلال الماضي المتباين المعاني.
مرّت الاسابيع لنعمل سوية من جديد في رسالةٍ سامية محورها الإنسان والكنيسة، حصل ذلك بعد نيل بركة غبطة راعي الابرشية الكلّي الوقار. وها هي راهبة الأمس تشارك كاهن اليوم في برنامج إذاعي تبثه كنيسة المشرق الآشورية في استراليا على نحوٍ اسبوعي عبرَ اثير راديو صوت المحبة، نتقاسم خلاله كلمة الإنجيل التي اعدها زادا لحياة كلّ إنسان. ثم نشطت في تقديم المحاضرات لعائلتي القديس مار يوسف خنانيشو واصدقاء يسوع لدراسة الكتاب المُقدّس في كنيسة مريم العذراء، كما وأمست تُحاضر كلّ يوم اربعاء في كاتدرائية الربان هرمزد الآشورية اثر دعوة تلقتها من بعض اصدقائها، فضلاً عن تواصلها في الظهور على شاشة التلفاز في برنامجها الدوري الذي يبث من تلفزيون نينوى الالكتروني الذي يشرف على إدارته الأخ الفاضل ريدمون.
لقد تغلبت على جراحها وكتمت أحزانها وتجاوزت معاناتها بعد أن تعافت من مرضها، وظلت واقفة كالشجرة الوارفة بفضل نعمة الرب القدير. تتقاسم مع الجميع خبز المحبة في السرّاء والضرّاء وتسير مع الآخرين بهامة مرفوعة في طريق الحياة المليئة بالورود. معتدة بنفسها، متمسكة بمواقفها، ثابتة في حاضرها. لقد أدركتها في الأمس كما اليوم حاضرة الذهن، مُقلة في الكلام، تتحدث بما قلَّ ودلَّ، لحضورها بريق روحي وثقافي، تُعبر عمّا تشعر به وتتحدث دائمًا عن قناعاتها الذاتية وتعكس مواقفها من قضايا عدة في صراحةٍ غير مسبوقة.
إنّها الإنسانة المثابرة، الطموحة، التي تتسم بقوة الشخصية وأجمل الصفات الانسانية من طيبة واخلاص وتضحية وخدمة وصبر وجلد على المحن والشدائد وإيمان عميق أضفى عليها وقارًا وهيبة. وهذه خصال وفضائل قلّما تجتمع في إنسان واحد عاش مرحلتين مختلفتين من حياته المثيرة للجدل؛ حيث تبدل المظهر ولكن المضمون كان ولا يزال واحدًا. ولعلّي اعزو السبب إلى أنَّ رباطَ الحبّ الخالد مع يسوعها الحبيب لم ينل منه ذلك التغير القسري الذي طرأ على تسميتها بين الأمس واليوم . وها هي أثبتت للجميع أنها كالمعدن النفيس الذي يزداد لمعانًا مع الزمن، مهما مرّ عليه من عوامل من الممكن أن تترك عليه بعض الظلال، لكنها سرعان ما تتلاشى ويعود للمعان من جديد أكثر من ذي قبل .
كتبتُ عن الأخت الفاضلة سناء كيوركيس بعد أن فتحت صندوق الذاكرة، لانها نموذج مشرف للمرأة المسيحية العراقيّة علمًا وعملاً وخلقًا، مع هدوء في الطبع ورصانة في التفكير وحكمة في اتخاذ القرار وروحانية قلَّ نظيرها في عالمنا هذا الذي يعاني من تصحر القيم وجفاء الروح.
أُسدي ألف تحية مقرونة بالدعاء في الصحة ومواصلة العطاء إلى الأخت التي أجلّ والصديقة التي أعتز بصداقتهاِ وأُفاخر بِها على الدوام.
1 comments:
مع هذا المقال اقدم شكري الجزيل للاب يوسف جزراوي الاخ والصديق العزيز الذي اختار ان يكتب عني انا الانسانة الصغيرة والخاطئة ويرسم بيراعه المبدع صورة عن حياتي. ان هذا المقال سيضع على كاهلي مسؤولية اكبر لاكون مستحقة لكل كلمة كتبت عني. اطلب صلاتكم من اجل الاب يوسف جزراوي ومن اجلي انا الضعيفة خادمة الرب.
إرسال تعليق