الفيلم الهندي/ عبدالقادر رالة

  كل خميس كانت تزورنا ابنة عمتي زهية ، تسكن في  مدينة فرندة، مع والدها وزوجته وبناتها. عمتي تعيش في مدينة بوردو . كانت زهية تحب أن تقضى عندنا نهاية الأسبوع لكي تروح عن نفسها من عناء الدراسة والضغط الذي تفرضه زوجة الأب...
    زهية مولعة أشد الولع بالأفلام الهندية التي كانت يبثها التلفزيون كل خميس مساءا ،فلا تفوت فيلما حتى ولو كانت شاهدته من قبل.. ولما يبدأ الفيلم يسود الهدوء الصالة، ونلتزم جميعا بالصمت ، لأنها كانت أكبرنا  وتدرس في الثانوية، وأبي يحبها كثيرا ويعطف عليها لأنها تفتقد الحنان بسبب انفصال الوالدين وجفاء الزوجة الثانية....وهو دائما يوصينا بالاهتمام  بها!             لكن إدمانها على الأفلام الهندية  يثير قلق جدتي ، فتعنف حفيدتها طالبة منها أن تنشغل بدراستها ، فالدراسة أولى وأهم من الأفلام! تحزن زهية وتبكي...فيتدخل والدي ويلاطفها قائلا:
ـ افعلي ما تشائين! وشاهدي ما تحبين من البرامج وقت ما تشتهين!
 ثم أسمعه يحادث جدتي في الغرفة الأخرى فترد جدتي محتجة:
ـ لا فائدة من الأفلام! هؤلاء الهنود... يبكون مرة... ويغنون مرة أخرى... يرقصون تارة و يتشاجرون تارة أخرى!...
 يبتسم أبي ويقول:ـ يا أمي الطيبة أنت لا تفهمين اللغة الهندية! ولا تستطيعين قراءة الهامش السينمائي بالعربية ولا بالفرنسية!  زهية  الآن في المرحلة التي يتأثر فيها الانسان كثيرا ، تحتاج الى الحنان ، وما تفتقده قد تجد تعويضه في تلك الأفلام الباكية!
ـ والدها هو السبب!
ـ لا يهم من يكون السبب! والدها...أو أختي...الأولاد هم دائما من يدفعون الثمن.. الأم في فرنسا... والأب  في فرندة...وزوجة الأم.. فإن كنت أنا خالها أحبها ولا أقول شيئا... فإنها لما تذهب الي بيت أعمامها  تتأثر بأي كلمة تقال حتى ولو لم يُقصد منها أي شيء!....
ـ يا ابني أنا فقط حريصة على دراستها ! نجاحها...يجعلها تعتمد على نفسها ..فلا تأبه لا بزوج الأم...ولا بزوجة الأب....
ـ اطمئني ! حفيدتك مجتهدة، أغلب الظن أنه من غير المسموح لها مشاهدة التلفزيون في البيت...
   لكن ما كان يثير استغرابي أن ابنة عمتي  لا تحب قراءة  الكتب! أردت أن أسعدها فاستعرت لها كتابين من المكتبة المدرسية ، كتاب جيتنجالي، وكتاب  المهاتما غاندي من سلسلة العباقرة... لم تفتحهما ولا قرأت  ولا صفحة واحدة...
   فيلم جانيتو ...الصمت يسود الصالة.. زهية قريبة من التلفزيون حتى تكاد تلامس شاشته... أنا أتوسط جدتي وأمي...بجانبها أختي الصغيرة مع صديقتها هوارية بنت جارنا مسعود.. يدخل جانيتو المستشفى لإجراء عملية...وإبنه الكسيح ينتظره... تسيل الدموع بغزارة من على خدي ابنة عمتي ...صمت مطبق ، تتردد خلاله شهقاتها عبر الصالة الواسعة...
  نجحت زهية في البكالوريا فسافرت الى فرنسا لكي تكمل دراستها عند والدتها ،ووالدها لم  يعارض.. وفي باريس تعرفت على شاب يدرس معها في الجامعة ، ونشأت علاقة حب بين زهية وذاك الشاب الذي تعود أصوله الى الهند ، ويعيش في لندن. حب انتهى بالزواج بعد التخرج ثم الانتقال الى لندن.. وكانت ترسل لنا بين الحين والأخر صورا جماعية لها ولزوجها كرم سينغ ووالديه وأخواته.. الكل يلبسون اللباس الهندي التقليدي ..الساري... كانت ابنة عمي تبدو بينهم الأجمل وهي ترتدي الساري...تشبه بطلات الأفلام الهندية، بل ابنة عمتي أجمل وأروع بابتسامتها الحلوة...
   لم تصبح الأفلام الهندية تثير في رغبة المشاهدة مثلما كانت في الماضي...فيلم واحد استمررت في مشاهدته ،ولا أمل أبدا من تكرار مشاهدته، فيلم جانيتو...
   لما يدخل جانيتو المستشفى... وابنه الكسيح ينتظره... ومن غرفة العمليات تنطلق أغنية حزينة تهز كياني وتثير دموعي بقوة فتنفجر حارة...معنى الأغنية...على الانسان أن لا يفقد الأمل أبدا ويتمسك بالله...وأن يبتسم دائما مهما كانت الظروف....
   أكفكف دموعي.. أشعر بالحرج  لما تكون أمي أو أحد الضيوف معي يتابع الفيلم...
وطالما كانت أمي تسخر مني متحسرة:
ـ الشباب في مثل سنك ،تزوجوا ولهم الأولاد يحبون ويركضون! وأنت تشهق مع الفيلم كأنك إمرأة!
ـ  اشتقت لابنة عمتي زهية ،منذ أن غادرتنا لم تعد! أنا مشتاق إليها!
تتنهد أمي ثم تقول:
ـ كل عام تقول هذا الصيف سأدخل الجزائر أنا وزوجي الهندي، ثم تحول الظروف بينها وبين رغبتها في المجيء...المسكينة إنها تتعذب...في الماضي كانت قريبة من والدها بعيدة عن أمها.. واليوم قريبة من أمها بعيدة عن والدها...والدها أكثرنا شوقا لرؤيتها...

CONVERSATION

1 comments:

ممدوح سيف يقول...

قصة جميلة تذكرنا نحن البعيدين غن الديار باشياء جميلة