قصة سد الكوت/ صالح الطائي

نشأة مدينة
واسط التاريخية منطقة جغرافية شاسعة قديمة مأهولة منذ العصور السحيقة وتكاد لا تخلوا من البشر عبر التاريخ، فهي الناهضة النائمة الجالسة القائمة. فكم من مرة علا شأنها وكم من مرة استحالت خرابا وترابا.
أما في العصر الإسلامي ففي عام 78 هجرية قرر الحجاج بناء مدينة تتوسط المسافة بين الكوفة والبصرة ليجمع فيها جيوشه بغية التحرك لوأد أي حركة ثورية معارضة، وشاءت المصادفة أن يختار ذات الموقع التاريخي القديم، وأنجز بنائها عام 86 هجرية فتحولت إلى واحدة من أشهر المدن الإسلامية التي تركت بصمتها واضحة على التاريخ.
بعدها وكالمعتاد تاريخيا تعرضت واسط إلى الإهمال والنسيان فضمرت وماتت أو كادت، وتحولت إلى أنقاض وخراب، ولكنها لم تخل من مجاميع من السكان هنا وهناك.
في زمن الاحتلال العثماني الغاشم للعراق وبعدما أنشأت شركة لنج البريطانية خطها الملاحي لنقل البضائع بين الموصل والبصرة واتخذت لها موانيء في مناطق محددة على ضفة نهر دجلة، شاءت المصادفة أن يقع أحدها في منطقة الكوت المعاصرة، فبدأ أهالي القرى القريبة من الميناء يجلبون منتجاتهم الزراعية والغذائية لبيعها للبحارة وعمال الميناء ثم ابتنوا صرائف قرب الميناء يلجأون إليها أثناء الحر أو البرد والمطر وبعدها سكن بعضهم هذه الصرائف بعد أن جلبوا عوائلهم، ثم توسعت وتحولت إلى مدينة فطرية عشوائية بسيطة نمت وتطورت وتحولت إلى مدينة شابة فتية مثل كثير من مدن العراق من حيث البنية التحتية والتركيبة السكانية.
وبعد انهزام الترك وقيام الدولة العراقية الجديدة، استهوت الكوت ملك العراق المغفور له فيصل الأول الذي زارها في العاشر من نيسان سنـة 1922 واجتمع إلى وجهاء المدينة وشيوخها الذين تحدثوا معه عن شحة الماء وجدب الأراضي الواسعة بسبب عدم صعود مياه دجلة إلى نهر الغراف في أيام الصيهود الذي يحدث في منتصف العام ويمتد إلى موسم الخريف، فوعدهم خيرا وقال جملته المشهورة: (لا مشروع قبل الغراف) ومن هنا بدأت قصة بناء سد الكوت.
الموقع والمناخ
تقع الكوت على نهر دجلة الذي يحيط بها من الشرق والغرب والجنوب ليحولها إلى شبه جزيرة. وفي الكوت تتفرع من دجلة عدة انهار:
الغراف، وشط الشطرة، والدجيلي، وشط البدعة، معيكيط، نهر قيس، نهر زوفر، نهر ابو حمار، نهر الحسينية، نهر المزاك. فضلا عن أنهار أخرى جفت منذ زمن طويل مثل نهر سابس الذي ينسب إليه الإمام السابسي من أولاد الإمام زيد بن علي بن الحسين عليهم السلام
الكوت منطقة سهلية مناخها انتقالي بين مناخ البحر الأبيض المتوسط والمناخ الصحراوي الحار والجاف. أمطارها قليلة وحرارتها عالية، وتبدأ الحرارة فيها بالارتفاع اعتبارا من شهر آذار وتبلغ ذروتها في شهري تموز وآب وصولا إلى أواسط أيلول. وبسبب الظروف الطبيعية والموقع الجغرافي تميز الري فيها بانقسامه إلى عدة طرق منها: الري سيحا، الري بالكرود والنواعير، الري الآلي: بالمضخات والمكائن، وأول ماكنة ري دخلت الكوت عام 1922 بقوة 15 حصان. هذا وقد أنقرض النوع الأول بسبب انخفاض مستوى الماء في دجلة، وانقرض النوع الثاني بسبب عدم جدواه وبسبب دخول المكننة الحديثة في السقي، وبقي القسم الأخير يستخدم بنفس الطرائق التقليدية القديمة التي تتسبب بهدر كميات كبيرة من المياه.
حلم الملك
أما سدها الكبير أو ما يعرف بسد الكوت أو (سد الغراف) فهو واحد من أهم السدود العراقية والعالمية نظرا لموقعه وتصميمه وطريقه إنجازه وقدرته على التحكم بحركة الماء. والسد لغة: هو الحاجز بين شيئين والبناء في مجرى الماء ليحجزه. والسدود بعضها يحمل صفة المذكر ويسمى (سدا) وهو السد الكبير الذي يبنى لخزن المياه وتنظيم سيرها وتوليد الطاقة الكهربائية في بعض الأحيان. وبعضها يحمل صفة المؤنث ويسمى (سدة) وهي أصغر كثيرا من السد ولكنها لا تقل عنه أهمية.
بتاريخ 29/ آذار 1939 أعترف الملك غازي في حفل افتتاح السد أن بناء سد الكوت كان حلم الملك فيصل الأول الذي صمم على إنجازه قبل أي مشروع آخر. أما لماذا أسماه الملك فيصل بهذه التسمية فلأنه يقع عند تفرع نهر الغراف الذي يتفرع من دجلة بعد مرور الأخير بالكوت
أهمية سد الكوت
سد الكوت واحد من مجموعة سدود ونواظم وبحيرات تم إنشاؤها على امتداد نهري دجلة والفرات لتنظيم حركة المياه وتلافي مخاطر الفيضانات التي كانت تتهدد المدن.  وتأتي أهميته من كونه:
1-  يتحكم بتقسيم المياه لأربع محافظات هي واسط وميسان وذي قار والقادسية
2- يوفر مياه الري لأكثر من 2.8 مليون دونم زراعي
3- يعد اكبر مشروع أروائي في جنوب العراق
4- يؤمن أرواء مشاريع نهر الغراف، وري الدجيلة والدلمج والجهاد والبتار
فكرة بناء السد تاريخيا
الظاهر أن فكرة بناء سد في هذه المنطقة الجغرافية فكرة قديمة جدا ترقى إلى عمق تاريخ الكوت وتعود المعروفة منها إلى أيام سيطرة الفرس على العراق، فقد ذكر الأستاذ محمد علي الصوري في كتابه (الإقطاع في لواء الكوت) أن كسرى أبرويز الفارسي أمر بتكسير دجلة عند (الخيزرانة) بعد أن أخذت تتحول نحو المجرى الغربي الذي يسير نحو واسط بغية إعادة المياه إلى المجرى الشرقي الذي يسير نحو العمارة .. ألا أن تيار المياه خرقته وجرت المياه في المجرى الذي أنشئت واسط على ضفافه" والظاهر أن هناك من سبق أبرويز هذا بالاهتمام بمسألة البثوق التي تحدث في هذه المنطقة، وهو ما تحدث عنه الدكتور احمد نسيم سوسة في كتابه تاريخ حضارة وادي الرافدين بقوله: " قباذ فيروز (488- 531م ) في عهده حدثت بثوق في ضفاف نهر دجلة اليمنى أدت إلى غمر مساحات كبيرة من الأراضي الزراعية في جهة الغراف، ولما تولى ابنه كسرى انوشروان عرش المملكة الفارسية أقام سدودا في مواضع البثوق  عند الموضع المعروف بالخيزرانة لصيانة مجرى النهر الذي يتجه صوب العمارة وتحويل المياه إليه .
ثم عادت المياه تفتح لها ثغرات في اتجاه مجرى الغراف في عهد كسرى ابرويز (590- 628 م ) فحاول أن يسد هذه الثغرات إلا أن الفيضان الذي حدث سنة 627/628 م سبب حدوث ثغرات واسعة في الضفاف فانتهى الأمر إلى تحول مجرى نهر دجلة إلى جهة شط الغراف الحالي في جوار الخيزرانة وهو الموضع الذي كان يفترق منه المجريان مجرى العمارة ومجرى الغراف"
وفي نفس الموضع الذي أقام الفرس فيه سدودهم بنى العرب سدا على صدر مجرى الغراف على الضفة الشرقية من شط الدجيلة القديم ( شط الغراف الحالي ) لكي يحولوا قسما عن مجرى النهر إلى مجرى العمارة الذي انتابه الجفاف في موسم الصيهود وصار هذا السد يعرف بقناطر الخيزران. ولا يزال هذا الموضع معروفا باسمه القديم الذي كان يعرف به في العصر العباسي فهو يسمى اليوم تلول الخيزرانة
وقال البلاذري أن ابن رستة هو الذي سمى هذا الموضع "الخيزرانة"
وقد أورد البلاذري  في كتابه فتوح البلدان قصة تقول أن والي العراق الأموي خالد بن عبد الله القسري كتب إلى الخليفة هشام بن عبد الملك (105- 125هـ / 723- 742 م)  يستاذنه في عمل قنطرة على دجلة وألح بطلبه فرد عليه الخليفة: "إن كنت متيقنا أنها تتم فأعملها وأعظم عليها النفقة" فلم يلبث أن قطعها الماء فأغرمة هشام ما كان أنفق عليها.
والظاهر أن الأنهار كانت تحول مجاريها بشكل مستمر مما يولد حاجة لبناء القناطر والسدود لإدامة الحياة في المناطق والقصبات والأحياء والقرى التي تم إنشائها من قبل على ضفاف الأنهار قبل تحويلها لمجاريها، ففي حدود سنة 525 هـجرية غير النهر مجراه مرة أخرى في هذه المنطقة بسبب الترسبات الغرينية فجف نهر الدجيلة مخلفا وراءه آثار مدينة واسط والنواحي المحيطة بها بعد أن هجرها أهلها بسبب الجفاف.

فكرة بناء السد الحالي
أما فكرة بناء السد الحالي في مكانه المعروف حاليا فتعود إلى أيام حكم العثمانيين للعراق، حيث كلفت الحكومة التركية مهندس الري الإنكليزي المعروف (وليم ولكوكس) بوضع تصاميم لبناء السد، فقدم تقريرا عام 1911 يقترح فيه إنشاء قناطر في هذه المنطقة لتنظيم الري، غير أن نشوب الحرب العالمية الأولى وانشغال الحكومة العثمانية بهذه الحرب ومن ثم سقوطها وتفككها ألغى الفكرة.  ونام المشروع منذ عام 1911 ولغاية زيارة الملك إلى واسط عام 1922 حيث طرح الوجهاء عليه فكرة إقامة السد.
ثم نام المشروع ثانية منذ عام 1922 ولغاية عام 1934 حيث وافق مجلس الوزراء العراقي بجلسته المنعقدة في السادس من أيلول 1934 على مقاولة بناء السد، أي بعد مرور أكثر من (12) عاما على تعهد الملك، وبوشر بالعمل يوم 10كانون الأول 1934  وأنجز العمل رغم المعرقلات والخسائر التي أصيبت بها الشركة المنفذة وأفتتح يوم 29/ آذار 1939 لتكون المدة بين التفكير ببنائه وإنجازه أكثر من (28) عاما
حركة التاريخ الواسطي
هنا أشير إلى ناحية مهمة وهي بطء حركة سير التاريخ الواسطي قديما وحديثا، فالمعروف تاريخيا أن الحركة البطيئة رافقت التاريخ الواسطي بشكل غريب في الأقل منذ بناء مدينة الكوت حتى هذا التاريخ، حيث نجد المدينة تكتفي لزمن طويل بجسر السد مع حاجتها الملحة إلى جسور أخرى فمنذ افتتاح السد عام 1939 ولغاية عام 1961-1962 لم يبنى فيها أي جسر، ثم بعد مرور (24) عاما على بناء الجسر الأول وافق الزعيم عبد الكريم قاسم على بناء جسر جديد للمدينة فتم بناء الجسر المؤدي إلى محافظة ميسان. ثم غفت المدينة مرة أخرى وبقيت تئن من مشكلة التنقل بين الضفتين إلى ما بعد التغيير في 2003 حيث تم بناء الجسر الثالث الذي أفتتح عام 2011 بعد مرور أكثر من خمسين عاما على بناء الجسر الثاني، والمدينة لا زالت بحاجة إلى جسور أخرى ولكن متى سيتم بناؤها إذا ما كانت مواعد التأخير تصاعدية بهذا الشكل المرعب؟
الكلفة والتنفيذ
شركة "بلفور بيتي" الإنكليزية هي التي أنجزت هذا المشروع العملاق بكلفة إجمالية مقدارها (1119430) مليون ومائة وتسعة عشر ألفا وأربعمائة وثلاثون دينارا بمدة تجاوزت الأربع سنوات، وكان آية من حيث التصميم والإتقان. ويقال أنها تعرضت إلى خسارة مقدارها مليون دينار وبالرغم من ذلك أنجزت المشروع بهذه المواصفات الجميلة الرائعة بينما نجد الشركات الوطنية العراقية المعاصرة التي ما إن تتعرض إلى خسارة بسيطة حتى تترك العمل وتهمل المشروع وتهرب إلى مكان مجهول دون التفكير بالألم الذي تلحقه بالمواطن العراقي والتأخير الذي تحدثه في مسيرة الإعمار والبناء.
المواصفات
يبلغ طول السد بين الضفتين (500) متر، وله ستة وخمسون فتحة طول الواحدة منها (6) أمتار وارتفاعها (9،5) متر  وهي عبارة عن بوابات تتحكم بحركة الماء من خلال أبواب فولاذية.
وقد روعي في بناء السد أن لا يعيق حركة الملاحة التي كانت ناشطة آنذاك بين البصرة وبغداد فجعلت له فتحة كبيرة متحركة لمرور السفن طولها (80) مترا وعرضها ما يقارب (17) مترا يتم التحكم بها آليا في الفتح والغلق مع الحفاظ على مناسيب المياه في مستوياتها.
الممر الواحد
كان تصميم طريق الســـد (الجسر) بممر واحد يستوعب مرور سيارة واحده وهذا ما كان يعيق حركة مرور السيارات عبر الضفتين حيث نصبت سيطرة في كل جهة تقطع السير من جانبها لتسمح بمرور سيارات الجانب الآخر، وبمرور الزمن ومع كثرة الحركة بين جانـــبي المدينة وازدياد عدد السيارات والعربات أصبحت الحاجة ملحة لتعريض طريق السد بما يسمح بمرور المركبات باتجاهين ذهابـــا وإيابا وفعلا نفذ المشروع في أواخر ستينات القرن الماضي وتم توسعة الممرات باستثناء منطقة بوابة ممر السفن والزوارق التي بقيت على حالها إلى  يومنا الحاضر لاستحالة توسعتها.
هنا تضرب لنا هذه الشركة مثلا رائعا آخر فحينما عرضت مناقصة توسعة الجسر على الشركات العالمية جاءت العطاءات بأرقام خيالية ترهق الميزانية العامة حتى أن الحكومة فكرت في إلغاء مشروع التوسعة ولكن شركة (بلفور بيتي) التي بنت السد تقدمت بعطاء يقل كثيرا عن عطاءات الشركات الأخرى وحينما استفسر منهم عن سبب ذلك قالوا أنهم يملكون مخططات للتوسعة وضعها المهندسون الذين صمموا السد متوقعين وجود حاجة مستقبلية للتوسعة فرسا العطاء عليهم وأنجزوا العمل كأحسن ما يكون. 
السد الرديف
هناك سد آخر يرتبط بسد الكوت هو  ناظم الغراف الذي يقع شمال سد الكوت بمســافة كيلومتر واحد ويقوم بتنظيم توزيع المياه لشط الغراف  وعمله يأتي مكملا لعمل سـد الكوت الذي يقوم يحجب مرور الماء مما يؤدي إلى رفع مناسيبه بما يسمح بمروره في نهري الغراف والدجيلة اللذان يرويان مساحات زراعية كبيرة جدا.
وتبقى الكوت مدينة عراقية أصيلة تعتز بعراقيتها وأصالتها، وتعمل على تجاوز المعوقات للنهوض من جديد.

CONVERSATION

0 comments: