مذبحة الحويجة ، فرحة الزهراء/ أسعد البصري

شيع أهالي مدينة الحويجة (24 أبريل 2013) أربعة وثلاثين نعشاً، هم ضحايا الاعتصام المدني ، لهذا لسنا بحاجة اليوم إلى براءة لفظية من الطائفية ، بل إلى مثقفين شجعان يعترفون بها .
(١)
عام ١٩٩١م في انتفاضة آذار الشعبانية ( ١٩٩١م ) ضد النظام السابق . كنا نحمل القاذفات والبنادق والقنابل . مع هذا بقيت تلك الإنتفاضة المحرك الرمزي للمعارضة العراقية حتى سقوط بغداد عام ٢٠٠٣م . بسبب الوحشية التي قمع بها النظام السابق المنتفضين . اليوم نحن أمام منتفضين يحملون العصي فقط في الحويجة ، تواجههم القوات المسلحة الحكومية المدربة بالرصاص الحيّ والقصف المدفعي والمروحيات. الغريب ولأول مرة في تاريخ العراق يكون الفعل الحكومي الإجرامي ليس مشكلة على الإطلاق ، بل المشكلة هي الحديث في الجريمة .
تتم ملاحقة المثقف الجالس في بيته ، واتهامه بالإرهاب إذا أعلن احتجاجا قويا ، وليس الجنود المحاربين الذين صوبوا البنادق إلى الشعب بالرصاص الحي . يصبح الشعب مجرد إرهابيين لا أسماء لهم ، ولا آباء ، ولا أمهات ، ولا عشيقات . ويصبح الجندي القاتل هو الوطني . كل اعتراض على هذه المعادلة الغريبة اليوم يعتبر مجازفة .ما هو الفرق بين انتفاضة آذار ١٩٩١م وبين مظاهرات الحويجة قبل أيام ؟؟ . ما هو الفرق بين القتيل والقتيل ؟؟ وبين القاتل والقاتل ؟؟ ، هل هناك فرق ؟؟ .
الجريمة تتم على أكمل وجه ، لا يمكن للكاتب منعها أو تغيير واقعها المؤلم .،المطلوب أن يقوم الكاتب بعمله كما قام القاتل بعمله . أن يكتب الحقيقة . في كثير من الأحيان تكون وحدك . لا تخف ، المهم أن يكون قلبك في المكان الصحيح . حين كُنتُ أوجه نقدا لاذعا في الصحافة كان الكاتب علي السوداني يُرسل لي بالبريد كلمتين . لا تخفْ أنا معك . في هذا العالم القطيعي الغريزي ، كلما كنت وحدك ... كلما كنت على حَق .
(٢)
كان الرئيس صدام حسين يقوم بعسكرة المجتمع كله ، يدربه على الأسلحة و يشجعه التطوع في الجيش .،لأنه دكتاتور وطني يفكر بارتكاب حروب مع شعوب أخرى وربما مشاريع حربية . الحاصل اليوم هو عسكرة الطائفة . سحب السلاح من طائفة قانون ( تفتيش / مداهمات / اجتثاث /أربعة إرهاب / مساءلة / ) مع عسكرة الطائفة الأخرى بالمقابل ، إغراءها التطوع في القوات المسلحة والميليشيات . هذا يعني أن الحكومة تفكر بإبادة طائفة من طوائف الشعب . مليون جندي عراقي ، إضافة إلى الميليشيات ، مع حوالي ربع مليون رجل (معمم ) شيعي لقيادة الوعي والثقافة في الشارع . أعداد كبيرة من الجنود و رجال الدين . ميزانية كبيرة تذهب للعضلات والعقول المذهبية .
نهب الثروات ، و تخريب الحياة ، و سيطرة كاملة على إيقاع الحياة اليومية للشعب . غسيل دماغ قهري شبه يومي ، و تعزيز للوجدان الطائفي . مع محو مقصود للذاكرة الوطنية الناشئة للدولة الوطنية العراقية . كارل ماركس يسأل سؤالا واحدا في مثل هذه الحالات ، مَن خلق هذه المهن الطائفية ، والسوق ، و مَن يدفع لها . الأفكار تتبع المصالح . الغريب أن الشيوعي العراقي يدفعون له ليصمت ، لكي لا يستخدم التحليل الماركسي العقلاني لتحليل هذه الظواهر . أما نحن فمجرد أدباء لا نمتلك القدرة على التحليل العلمي الماركسي للمجتمع العراقي . هكذا ضاع العقل العراقي اليوم بين بلاغة الأدباء و غريزة الشيوخ و دموع الأمهات . لا يوجد عقل وطني .
(٣)
نهاية الثمانينات من القرن الماضي ، كنا في الجامعة . الشباب ، الحب ، الشعر ، الفكر ، الكون ، الطموح . نعم كانت هناك حروب و دكتاتورية ، غير أننا كنا نرى الحياة أكبر بكثير من أن تتشوه بشكل كامل . كنا ربما نشكو من دكتاتورية النظام و ظلمه ، كان أهلنا ينتقدون الحكومة كثيرا ويشتمونها . لكننا لم نر في ذلك ما يوقف الحياة . كنا نحتفل ، و نسهر و نغني ، كانت السياسة جزءا صغيرا من الحياة فقط .
لكننا كنا نرى الشباب الذين يئنون أنين الناقة التي فقدت ولدها في محرم . يسمعون محاضرات الشيخ الوائلي ، يتحدثون عن رجل دين عبقري أعدمه النظام اسمه باقر الصدر ، تغرق عيون بعضهم بالدمع حين يذكرون الخميني ، بعض هؤلاء عندهم أخوة و أقارب أُعْدموا في حزب الدعوة أو التنظيمات الشيعية . كان هاجس السياسة و نقد النظام بالنسبة لهؤلاء الناس قضية حياة ، حلم عاشق ، رغبة مكبوتة . كانت السياسة بالنسبة لهم هي كل الحياة .
لم أكن أفهمهم حقاً ، وكنت أعتقد بأنهم أصحاب مزاج سيّيء فقط . الآن وأنا أرى غضب السنة العرب في العراق ، و حرقتهم ، عدم رغبتهم بالحوار الهاديء ، شكوكهم بكل مَن يختلف معهم ، مزاجهم الحاد العنيف الكئيب أحيانا . أتذكر أولائك الأصدقاء الطلاب و عذابهم . كان صديقي ( في الصورة ) أمجد السواد واحدا منهم ، أخوه معدوم شابا بحزب الدعوة ، و هو سجين سياسي في بداية العشرينات من عمره ل خمس سنوات . كان أمجد مجنونا بالحزن والغضب والسياسة والحقد . هو اليوم دكتوراه فيزياء كونية من جامعة توركو ب فنلندا ، و نائب رئيس البعثات العلمية الدراسية في وزارة التعليم العالي ، و أحد رجالات حزب الدعوة الجعفري تحديدا .
إن الوجدان المجروح ، المكسور ، الذليل لا تستطيب له الحياة مهما كانت جميلة . وهذا حال السنة العرب اليوم ، وربما كان هذا هو حال بعض الشيعة زمن النظام السابق . لم أكن لأتمكن أن أفهم معاناة أمجد السواد ، فماذا أستطيع أن أفعل له ؟؟ ..هو شيعي ، سجين سابق ، أخوه معدوم بحزب الدعوة ، و يحب الخميني و الصدر . لا أستطيع أن أشعر بهذه الأشياء مهما حاولت . لأنها ببساطة لا تمسني وجدانيا ولا رمزيا . هذا بالضبط ما يحدث اليوم للسنة العرب ، يحاولون إصابة الشيعة بعدوى معاناتهم ، و كآبتهم ، و وجدانهم المسحوق ، وظلمات سجونهم ، و مقابرهم الجماعية ، واغتصابهم . هذه قضية مستحيلة . لا يمكن لهم أن يسمعوكم على هذه الموجة و هذا التردد .
لهذا ، ربما ، نحن بحاجة إلى أبطال ... أبطال وطنيين كبار وليس فقاعات تظهر بسرعة ، و تكبر بسرعه ، و تنفجر بسرعة .
(٤)
هذا العام وفي عز الأزمة بين المعتصمين والحكومة ، حين كانت حكايات اغتصاب النساء ، التعذيب الجسدي في المعتقلات السرية تنتشر في المجتمع العراقي . صادف عيد الحب ( إلڤالانتين ) فكتب شلش العراقي بأن بغداد امتلأت باللون الأحمر هذا العام ، ويذكر شلش رغم تفاؤله بالمشهد الجميل أن هذا يحدث لأول مرة وبشكل مفرط ومختلف عن كل سنة ، الفتيان يلتقطون القبل من تحت الشرفات ، والزهور في كل مكان . فرد عليه الكاتب سرمد الطائي بأن كورنيش البصرة مزدحم بالصبايا والفتيان بشكل منقطع النظير هذا العام أيضا ولم ير شيئا كهذا من قبل ، بدا العشق كغريق في شط العرب يحاول الشباب الطموح المبتهج انتشاله . العيون تختلس النظرات الحادة المدمرة للأجساد ، والرغبة ، والتمزق ، واللذة . فقلت حينها ل شلش العراقي : كيف حال شباب الموصل ؟؟ سامراء ؟؟ الأنبار ؟؟ .
لقد كان العراقيون القدامى يرمزون للنصر الباهر ، و قهر العدو بالإغتصاب . ومن هنا كانت بهجتهم ب أسد بابل ، الذي هو تمثال أسد قوي يغتصب إنسانا . رمز ل بابل المنتصرة على أعداءها ، إلى درجة اغتصابهم . كانت عند العراقيين إلهة واحدة للحب والحرب ( عشتار ) . لهذا كانت بكل أسف و دون وعي . مبالغة بالشهوة والحب في الڤالانتين ( أضواء ، ثياب حمراء ) عند الفتيان هذا العام و دون قصد في طرف من العراق . و ظلام دامس ، شعور بالخصاء ، والقهر ، والهزيمة ، والإغتصاب في الطرف الآخر . لقد كانت المحافظات المعتصمة تثير البهجة و الشهوة الجنسية عند المحافظات الصامتة ، هذا كان يعمل في اللاوعي . لا وعي وجداني .
لهذا نطمح بظهور سياسيين علمانيين ، و ثقافة عميقة ، بدلا من هذا الكذب والنفاق المتبادل ، و تبرئة الذات ، والكارثة . نحن شعب مريض يا أصدقاء ، مريض جدا ... بحاجة إلى أطباء .
(٥)
لقد وقع خطاب شيوخ الأنبار في فخ الغطرسة والحماسة البدوية الإعلامية ، بينما أظهر رئيس الوزراء و عزت الشابندر الضعف و جناح الذل في الإعلام طيلة الشهور الماضية . حتى حين جاء وقت الفعل ضربت الحكومة بلا رحمة .
انتصار ساحق لساسة الباطن الحكماء على أهل الظاهر البدو المتحمسين .
asaad76@hotmail.com

CONVERSATION

0 comments: