صورة حقيقية من الغربة/ محمود شباط

بتاريخ 11/11/2008 ، وفي الغرفة التي كنت أخضع فيها للعلاج في أحد مستشفيات مدينة الخبر في المملكة العربية السعودية، نـَظـَمَتْ هذه الأبيات ذاتها بذاتها ، و لا فضل لي سوى بتدوينها على الورق. إذ كان الأسى ينبجس من الروح بصورة شعر يسابق وقع انبثاق الدم من رئـَتـَي ، عانيت يومها إلى أن رأيت شبح المنية ولكنه لم يرني في حينه.

كنت ممدداً على سرير ناصع البياض وسط ترقب حالك السواد، أعوم وحدي في خضم تلك الوحدة القاتلة بعيداً عن دياري و أهلي، ترقرقت عبرات حارة من عيني المجهدتين حين طـَفـَتْ على شاشة البال العبارة المأثورة "الموت بين الأهل نعاس" ، تمنيت لو يصح لي أن "أنعس" بين أهلي و لا هـَـمَّ إن يكون ذلك النعاس نعاسي الأخير ، ابتهلت لتحقيق تلك الأمنية ولكنها بقيت ضمن شرنقة التمني ما زاد في معاناتي ، سيما حين دار في خلدي تجرعي لمرارة 30 عاماً في الغربة لم أذق خلالها طعم الحياة كما يتنعم بها خلق الله ، بل كنت اعاني تحت ضغط رحى أوضاع صعبة حتمتها الحاجة ، و لا زالت.

مع ازدياد الوجع الروحي وتحليق غربان اليأس وانقطاع الأمل من البقاء حياً ، تسرب أول الأبيات فدونته بلهجتنا العامية :

يا غربتي !! لما طال غربة قدها

تلاتـيــــــن عام وبعد غايم حدها
تلاتين عام بجمر جمر الإغتراب

هيني على اللي ما اكتواها يعدها

استمر مسلسل الذكريات الأليمة يرش الملح على الجرح . تذكرت بأني أسهمت في بناء دار أهلي ولم أقم فيها سوى أيام ، وبنيت منزلي في وطني ولم أقم فيه سوى أشهر على فترات متقطعة في إجازاتي ، وكذلك شرائي لشقة بالتقسيط ولم أقم فيها أبداً .

عـَمـَّرت دار الأهل وسكنت الخراب

عـَمـَرت داري ، السفر مني شدها
قسطت شـقة بعـدها مسكن غـراب

مـن دم قلبي ... ويـَدّ كـَلـِّت كــدّْها

تـَمَرْمَرْتُ متذكراً كيف كبر أولادي وأنا بعيد عنهم ، أتحرق شوقاً لرؤية قاماتهم تنمو كل يوم ، ولم انعم بمتابعتهم يطولون و يترعرعون :

الأطفال كبرو ، تحولو رماح وحراب

مـَرّو بـطـفـولة ..مـا نـعـمـت بـْمـَدّهـَا

تذكرت عدد المرات خططتُ فيها للعودة إلى لبنان ولم أوفق فكتبت الأنامل المرتعشة :

كل ما افتكرت بعودتي بشوفا سراب

بظروف تتفاوت بمزحا وجـَدّهـَا
وكل ما ظـَنـَنـْت اقترب يوم الإقتراب

الأقدار بـتـعـود الطـريق تسدها
وكل ما حـِلـِت بالكاد كاسات الشراب

بيرجع مرار الصبر يقطر ضدها

تذكرت خطورة وضعي واحتمال وفاتي فراودني القلق حيال فرضية مغادرتي الدنيا لأرتاح بينما أترك أياد وطارق بحاجة لدعمي لزواجهما، وخلدون للتخرج وافتتاح صيدلية، وأسامة لإكمال تعليمه و معيشته ، وأم العيال ووضعها المتوقع بعد وفاتي.

عبر ذلك السديم الرمادي كان بصيص أمل يتسرب كشعاع شمس في أواخر الخريف ، كان ضعيفاً واهناً ولكنه يومض بتصميم مرتبط بقرار الأقدار ونجاتي من براثن الردى .

من بؤرة العدم والذوبان والتلاشي تعلقت عيناي ببقايا الحياة إذا ما كتبت لي ، تزيدني تصميماً لإكمال ما بدأت ، وترفدني بإصرار أكبر وعزيمة أقوى كي أقاوم تسلل الذل والهوان إلى حرم كرامتي فكتبت مختتماً :

ولما مرضت واشتاق لعظامي التراب

وشفت المنية تمد صوبي يـَدْهـا
رَنـَّمْ أنيـن الروح مـن قـلبي اكـتـراب

إن ألله عافاني وصحتي ما هدها
بصبر بـَعـْدْ عا غربتي تلاتيــــن عام

أفضل ما إيدي بـْذلّ لحظة مدها

CONVERSATION

0 comments: