مجاهد .. إنما .../ محمود شباط

ومضت في عتمة الخلاف بين "عبد المحسن" و شقيقه الأصغر "غيث" نجمة هدنة حين تـَدَخـَّـلَ عمهما بعد أن انتهيا من صلاة الجمعة في أحد مساجد بغداد.

بعيد مبارحتهم لباحة المسجد أفلت النجمة، خـَفـَتَ وميضُ الهدنة ، الهدنة رقم ألف ربما بين الشابين المؤمنين بالعقيدة السمحاء، و كذلك بالنهج الجهادي و مقاومة المحتل، و لكنهما يفترقان بحدة حين ينبجس الدم البريء من أجساد مدنيين و عسكريين، حيث يكون المقاوم الذي يفجر نفسه انتحارياً ضالاً بنظر عبد المحسن ، و بطلاً استشهادياً بنظر غيث.

مرة أخرى يتأجج أوار الخلاف بين الشابين ، و مرة أخرى تـَدَخـَّـل عمهما و دَوَّرَ زوايا التباين، نحت تسمية من قاموسه التسووي : " استنحاري" ، مفردة استولدها من كلمتي الإستشهادي و الإنتحاري في محاولة منه للحؤول دون تحويل الصراع مع المحتل إلى صراع بين الأخوين .

تلك المفردة المركبة الهجينة لم ترضِ عبد المحسن و لم تقنع غيث ، بـَرَّدَتْ حرارة الخلاف غير أنها لم تخمد جمره. جمدت وحش الفتنة ولكنه بقي ينفث فحيحه عبر دعاة مدعين و شاشات تحور النصوص و تحرض النفوس. انبهر بها عقل الغر غيث و لم تنطلي ترهاتها المضللة الزائفة على عبد المحسن .

استمرا على مضض في العمل معاً تحت سقف واحد ، في محلهما المتواضع الذي ورثاه عن والدهما الشهيد في حرب الخليج الأولى. عبد المحسن يخط يافطات و يصنع لوحات إعلانية صغيرة في الجزء الخلفي الداخلي من المحل، و غيث يبيع كتباً دينية و شرائط تسجيل دعوية في الجزء الأمامي المواجه للشارع. و ظل الحاجز الخشبي ذو المليمترات القليلة السماكة الفاصل بينهما في محل عملهما بمثابة فجوة تتسع يوماً بعد يوم . لم يعودا يـُصَلــِّيـَا معاً ، لا يكلم أحدهما الآخر إلا في أمور العمل ، لم يعد غيث يقضي طوال يوم الجمعة في بيت أخيه ، و لم يعد يزوره كل مساء ليحتضن سوسن ابنة أخيه و يغمرها و يلاعبها و يغدق عليها ألعاباً و دمى و يمطرها بوابل قبله و حنانه كما أدمنه فيما مضى، إبان أيام الوفاق وقبل حلول موسم اليباب و الجفاف و الجفاء بين الأخوين.

أحس غيث بأن حياته ينقصها عنصر مهم ، افتقد لابنة أخيه ، يكاد يصاب بمس لحرمانه من رؤية سوسن و سماع تغريدها و احتضانه لها و احتضانها له . عبر الحاجز-السد الخشبي الفاصل بين محل عمله و محل عمل أخيه . شعر عبد المحسن بدخوله ، واصل عمله و لم يلتفت نحوه ، تعمد تجاهله لاكتشاف الدافع من تلك "الزيارة الغريبة" .
همهم غيث : اشتقت لسوسن ، أتحضرها لي إلى هنا ؟
- باستخفاف من غلو و تزمت أخيه رد عبد المحسن : دعك من الكفار !
- سبحان الله ! سوسن كافرة ؟ دعك من ذلك الهراء إنها طفلة ، مجرد ملاك يقطر طهراً و براءة .
- و ماذا عني ؟ أريد أن أسمعها ؟
- أمثالك يسمونهم "مناصر أنظمة" .
- من هم الذين منحوا أنفسهم حق تسمية الناس و تصنيفهم و الفتوى بإزهاق أرواح خلق الله و تخريب الممتلكات و تنغيص الحياة و قطع الأرزاق؟
- أنا ما أعرف ، الشيخ يعرف .

زعق به عبد المحسن : شنو يفتهم شيخك هاذ غير في الهرج الخايب عالحكومات ؟ هيه؟ قل لي شنو يفتهم ؟ هاذ حاخام مو شيخ !

مع ارتفاع عقيرة عبد المحسن بالصياح أدرك غيث بأن الحديث وصل إلى آخره . غادر بغيظ موشى بحرقة لانعدام أمله في رؤية سوسن .

بينما هما يعملان كل في مكانه المنعزل عن الآخر، هز المكان دوي انفجار استهدف الفرن القريب من محلهما، هرعا لاستطلاع ما حدث. ارتعب عبد المحسن من مشهد الجثث المضرجة بالدم ، داهمته دوخة و دوار لسماعه أنين الجرحى و صراخ و استغاثات المارة، زكمت أنفه رائحة الدخان و البارود و لسع شغاف قلبه لهيب الحزن و الأسى، كوى مهجته تكور أم شابة لفظت أنفاسها بينما هي تحتضن رضيعها لتحميه من الشظايا بعدما هوت أرضاً. الأشلاء البشرية متناثرة، أصابع طفل هنا و قدم هناك و رأس هنالك، تراءى له بأن الأرض تبكي بقع دم في معمعة جحيم صغير.

لم يحتمل عبد المحسن. في تلك اللحظات كان يعتمل في دخيلته أتون نقمته على "الإنتحاري" الذي أحدث بدم بارد ذلك الجهنم. لم يكن في وضع نفسي يمكنه من مناقشة غيث حيال جدوى قتل النفس البريئة من منظور شرعي. تلفع بصمته القسري ، مسح دموع عينيه و لم يتسن له وقف نزيف دموع قلبه. أقفل عائداً إلى محله، بينما بقي غيث هناك مأخوذ بنشوة النصر بنجاح "عملية جديدة ضد المحتل"، يحدج بتشف عسكرياً شاباً ممدداَ على الأرض تـَبـَقـَّـعَ زيه الكاكي بالأحمر القاني، و قف إلى جانب جثة العسكري يرمقه بمقت و كراهية كونه بنظر غيث "يتعاون مع المحتل". تركه كما يترك المتسوق سلعة لم تعجبه و انصرف إلى غيرها ، وراح بتشاوف القاهر الظافر يجول بعينيه على النار و الدمار و الخراب الذي تسبب فيه الإنفجار في الفرن و دكان الحلاق و المصبغة و المطعم و مرافق البنية التحتية.

استمر غيث يعاين ما نتج عن "الزلزال الصغير" بشماتة كما لو كانت إشارة المرور و بلاط الرصيف و إسفلت الطريق و تلك المحلات البائسة معاقل عدو و حصون عسكرية . و كما لو أن الأبرياء الذين كانوا ينتظرون دورهم أمام الفرن لشراء ربطة خبز و قضوا نحبهم هناك كانوا لعباً بلاستيكية لا أهل لهم و لا أمهات و لا آباء و لا زوجات و لا أبناء . و لكن غيث سيأسف لمقتلهم و سيبرر سبب "استشهادهم" في سبيل "القضية" ، و بأن هذا هو نصيبهم و قدرهم ، و سينعم على كل ضحية بلقب شهيد، و هو و شيخه سيضمنان لهم بأن أرواحهم صعدت مباشرة إلى جنة الرضوان، و "الفضل" في ذلك الصعود المبكر يعود إلى صحة عقيدة و نخوة و همة و تضحية "الإستشهادي" .

بقي غيث يتجول كمن يتجول في سوق لحم. لم يستوقفه أنين و نزيف الحلاق الجريح كاظم وهو يدمدم بشفتيه المرتعشتين المصبوغتين بلون الإحتضار بأنه مع المجاهد على المحتل و لكنه لن يؤيد المجاهد حين يقتله و يقتل أولاده و يحرمه من مصدر لقمة عيشه و يقتل العسكري الذي يحافظ على أمنه و أمانه.

أدبر غيث تاركاً الحلاق الجريح كاظم يهمهم و يتغرغر بسكرات الموت و راح يجوب مسرح الحدث متفرجاً و يداه خلف ظهره، ارتج جسده فجأة بفعل انفجار آخر قـَدَّرَ بأنه استهدف روضة الأطفال القريبة من هناك. هرع ليتلذذ بنشوة نصر جهادي آخر و بنكسة أخرى للعدو المحتل.

المشهد هنا أبشع و أفظع و أكثر دموية و بربرية. عشرات الأجساد الصغيرة بين قتيل و جريح . عشرات الزهور الذاوية قبل الأوان ، عشرات الوجوه الملائكية البريئة مغمضة العينين ولن يتسنى فتحها بعد الآن. تقدم غيث أكثر و لا زال وجهه و مشاعره و نظراته تبث اللامبالاة المتماهية بنكهة الظفر. فجأة لمحت عيناه طفلة في سنواتها الأولى جثة هامدة مضرجة بدمها، أمعن النظر ولم يصدق عينيه، صرخ وهرع نحو سوسن ابنة أخيه، احتضنها و شد بلوعة على جسدها الطري يغسله بدموعه و يولول بما عساه سيبرر لنفسه و لأخيه مقتل طفلة لم تسمع بالمحتل و لا تعرف عنه ما يعرفه الكبار، و لا تعلم بأنها مجرد فراشة داهمها الفناء في فجر ربيعها ، و قبل أن تتمكن من إجادة النطق بحروف اسمها.

CONVERSATION

0 comments: