ما زالت الحالة الإسرائيلية السائدة تصدّر كلّ يوم مجموعة من العناوين التي يصلح اعتمادها محفّزات لرسّامي الكاريكاتير وإبداعاتهم. مجموعات من نكرات انتُخبوا ليشغلوا مقاعد نيابية في الكنيست وليكونوا قادة الدولة وسادة التشريع فيها لسنوات قادمة. كثيرون منهم لم يسمع الناخب بأسمائهم قبل الانتخابات، وكثيرون لن يسمع عنهم خلال الدورة الحالية؛ ففي إسرائيل أزمة قيادة حقيقية وخطيرة وهذه في علم السياسة إحدى سمات نظام حكم تنطبق عليه معايير تسوّغ تعريفه نظامًا ينزع إلى فاشية سياسية واضحة.
ربما يعتبر إيفيت ليبرمان واحدًا من قياديي حكومة إسرائيل ذائعي السمعة والصيت، وهو لهذه المكانة ليس بنكرة، خصوصًا فيما يتعلّق بنشاطه إزاء وضع الأقليّة الفلسطينية في إسرائيل.
عودة ليبرمان إلى فكرة إتباع منطقة المثلث للدّولة الفلسطينية العتيدة هي محاولة ولد سيقضي عمره ضالًا، يسير على غير هدى وبيان ولا يكلّ ولا يملّ.
بخلاف ما كان ومضى فإننا نشاهد ونقرأ اليوم ردود فعل متعاقبة صرّح بها قادة أحزاب وحركات عربية، أجمع أصحابهاعلى رفض ما عرضه ليبرمان؛ فالجميع يعارض سياسة الترانسفير أو فكرة تبادل السكان أو الأراضي أو مساواة المواطنين العرب بسوائب المستوطنين وكثيرون ذكّروا العالم وبحق، أن المفارقة موجعة وغريبة، إذ يأتي هذا العرض من مهاجر غزا وطن أجدادنا في أواخر السبعينيات، وكلّهم جزموا أن ما يستهدفه ليبرمان ويسعى إليه هو تأمين يهودية دولة إسرائيل، وهذه المرة من خلال التخلّص من بضعة مئات آلاف من مواطنيها العرب.
ردود فعل قادة العرب جديرة بالتمحيص والدراسة، لأنها تحمل كثيرًا من المؤثرات والشحنات التي قد تدلل على مدى عمق أزمة هذه القيادات خصوصًا عند مواجهتهم "لعقدة"، وبعضهم نجّارون غير مهرة. بعضهم أخطأ، عامدًا أو غافلًا، قراءة عرض ليبرمان الأصلي، فجاءت مواقف هذا البعض في واد وضجيج " إيفيت" في واد.
الخبيث بإعلان ليبرمان المستفز، كان "كرمه" غير المألوف. فهو يقول ببساطة: لأنّكم فلسطينيون، ولأننا غير منصفين بحقكم، ولأننا نريد لكم حياةً رغيدةً في ظل أهلكم وتحت سيادة دولتكم، ولكي تستطيعوا الوقوف تحيّة لنشيدكم الوطني وإجلالًا لعلمكم الفلسطيني ولترفعوه في ملاعبكم وعلى بيوتكم، من أجل كل هذا، ستلوي دولة إسرائيل رقبة حدودها، وتنكمش لتحل مكانها السيادة الفلسطينية. لن تنقلوا من بيوتكم، ستبقون في أراضيكم وإسرائيل غير المرغوبة ستخرج منكم. هكذا بكلام العامة، نعق ليبرمان قبل سنوات وأعاد نعيقه مؤخرًا. يبقى الأغرب واللافت، بنظري، غياب موقف رسمي كان يجب أن تعلنه المؤسسات القيادية الناطقة باسم الجماهير العربية على كافة مركّباتها.
غياب موقف لجنة المتابعة وخصوصًا مسوّغات موقفها إزاء عرض ليبرمان يكشف عن هشاشة هذه اللجنة وانعدام رؤاها الاستراتيجية فيما يتعلق بمصير وجودنا على هذا التراب. إنّه غياب صارخ لصوت مهزوم وجريح. كم نبّه كثيرون لهذا العجز، واليوم ونحن على أعتاب مرحلة جديدة، نهيب بذوي الشأن والقيادة أن يأخذوا هذه القضية على محمل من جد واهتمام. يجب إخراج مسألة رئاسة لجنة المتابعة العليا وتأهيل لجانها الفرعية من لعبة التوازنات الحزبية الفئوية الصغيرة، فهذه المناورات والمحاصصات أفرغت هذه المؤسسة من أهم أدوارها ومهامها؛ أن تصبح جسمًا/لجنة قيادية ذات كفاءات ومؤهلة لوضع استراتيجيات عمل، تستشرف المستقبل وتبتعد عن كونها مجنًّا متلقيًا للضربات وبوتقة صهر توافقيًا. يجب على القيادات أن تسعى لبناء جسم يخدم مصالح الجماهير، وليس مذبحًا على أعتابه تقدم هذه المصالح قرابين لتعيش ملوك الطوائف والقبائل.
مناكفة ليبرمان عبارة عن شقاوة أو غباوة، وفي الحالتين لن يكتب لها حياة. فرئيس الدولة بيرس رفضها بشدة، ومعظم وزراء الحكومة الإسرائيلية عارضوها، كل لأسبابه. كما تم تسريب وجود دراسة عسكرية خلصت أن لا حظوظ لهذه الفكرة لأسباب سياسية وتطبيقية. هذا علاوة على أن القيادة الفلسطينية ممثلة بمنظمة التحرير لم تدّع في الماضي ولا تدّعي اليوم أنها تمثل الأقلية الفلسطينية حاملة الجنسية الإسرائيلية.
تحرّش ليبرمان الديماغوغي خطير ويؤكد إصراره وموقف حزبه إزاء الجماهير العربية. "لا مواطنة بدون ولاء" هي المقولة المغلّفة في هذه الفقاعة، وهي الذريعة التي جنّدها وسيجندها لتبرير سياسة حكومته القمعية بحقنا نحن عرب هذه البلاد. عليه، لو كان عرض ليبرمان رصاصة تحت الضرب أو قيد محاولة تنفيذ فعلية، لكان بعض الجواب المباشر الملائم: حنانيك يا مهاجر، المثلث والنقب والجليل معًا، كما في قرار الأمم، فلتنكمش إسرائيل "الكريمة" كما أرادها العالم في عام ١٩٤٧. لكنّها فقاعة مزعجة "نفّسها" حتى جدعون ساعر وزير الداخلية وزميل ليبرمان، حين عارضها بفصيح الموقف معلنًا في سخنين العربية: "المواطن الإسرائيلي ليس غرضًا، وليس بالإمكان نقله في إطار اتفاق سياسي. عرب إسرائيل هم مواطنون متساوون وفي إطار اتفاق سلام مستقبلي لا مكان للمس بمواطنتهم. لا يجوز الخوض في قضية نزع المواطنة عن مواطني الدولة".
إنّها من المفارقات الموجعة الغريبة؛ أن يقارع وزير ليكودي زميله الوزير المهاجر ويردّه بما كان كل فلسطيني مواطن مجنّس في إسرائيل، صامد في وطنه، يجب أن يقوله بتلقائية وطنية وحكمة تجريبية. كم نحن بحاجة لقيادات كفؤة تدفع عنا شر ما يزرعه العنصريون في دروبنا من ألغام وعقد.
فأين من عيني من كانت عيونهم على وطن؟ ونجّارو زمن النضال النقي، الذين عاشوا وعرفوا أنه عند "العقدة يبرع النجّار"، بتصرّف عّما قالته العرب.
0 comments:
إرسال تعليق