لا تتغيّا هذه المقارنة لشعر حنّا أبو حنّا الالمام بكلّ جوانب شعره، انّما هي مجرّد مقارنة أوليّة لرصد المستجدّات، الّتي طرأت على هذا الشّعر بعد نصف قرن من الزّمان. وكي لا تنفلت المقارنة وتتسيّب وتخطئ بالتّالي غايتها، سنسيّجها بمساءلة واحدة تقول:
هل ثبت شعر حنّا أبو حنّا على مواضيع واحدة وأشكال واحدة أم أنّه استطاع مع مرّ الزّمن اختراق عالم الثّبات الشّعريّ الى التّحوّل، أو الى ما اصطلح على تسميته بالشّعر الجديد أو بالحداثة؟
بداية أقول: انّ قراءة متأنّية لديواني الشّاعر اللّذين يشكّلان رحلته الشّعريّة وآنيّتها- نداء الجراح وتجرّعتُ سُمّك حتّى المناعة تشي بأنّ شعر الشّاعر يراوح بين ثابت ومتحوّل. أعني بالثّابت أنّ هذه القصائد على تنغيماتها وتلويناتها تمتح من ينابيع فكريّة وقناعات واحدة، فتطال لذلك مواضيع محدّدة لكن من زوايا مختلفة، لكنّها مع المستجدّات والتطوّرات الفنيّة بدأت تخلع أزياءها القديمة وتتزيّا ببنًى وأشكال جديدة، تلائم روح العصر.
لكن قبل البدء برصد هذا الشّعر وقبل أن أجيب عن المساءلة المطروحة أذكّر بمقولة نقديّة: "لا شكّ في أنّ كلّ عمل فنيّ يفترض فلسفة مُسبقة وخطّة فكريّة (واعية أو لا واعية)، تؤدّي الى انجاز هذا العمل وتحقيقه ابداعيّا وفكريّا" .
اذا سلّمنا بهذه المقولة، وهي عندي صحيحة، علينا أن نعود الى الوراء، لنرى الى المستجدّات الّتي طرأت على شعرنا العربيّ عامّة والمحليّ أيضا، لنقف على الفلسفة الكامنة وراء مسيرته خلال نصف قرن من الزّمان أو يزيد. نحن نفعل ذلك لأمرين. الأوّل: لأنّ شعر حنّا واكب هذه المرحلة الحرجة، فهو يترامى على مساحة زمنيّة واسعة، بدأت مع أواخر الأربعينات. وثانيا: لأنّ شعره لم يكن نَبْتا شيطانيّا مُنْبَتّا عن واقعه، بل هو ابن الواقع والمجتمع، يصوّره فكريّا واجتماعيّا وأدبيّا.
على الصّعيد العربيّ تميّزت المرحلة بما يلي:
1. هبّة فكريّة نتيجة لما بذره الرّواد في المرحلة الّتي سبقت.
2. مدّ قوميّ دعا الى العودة الى التّراث والتّشبّث به كأمّة لها رصيدها الحضاريّ والتّاريخيّ.
3. هبّة اجتماعيّة أدّت الى تغيّر في الكثير من المفاهيم الاجتماعيّة.
4. تبع ذلك هبّة أدبيّة واضحة؛ فقد واكبت حركة الشّعر الحديث تاريخيّا ثورة شاملة كان الشّعر ايقاعا لها وتفجيرا لرموزها الحضاريّة والانسانيّة وتجلّيا لحركة هذه الثّورة وتناقضاتها واندفاعا للتّحقّق والاستمرار.
ونتيجة لما تقدّم، كانت ثورة الشّعر الحديث الّتي يلخّصها امطانيوس ميخائيل بقوله: حطّم الشّعر القواعد التّقليديّة والقوالب الجاهزة للقصيدة العربيّة واستعاض عن البيت بالتّفعيلة كوحدة أساسيّة في بقاء القصيدة، وعن القافية بعدد من القوافي، الأمر الّذي جعل القصيدة تتحرّر من روتينيّة النّغم وتنطلق مع التّموّجات الايقاعيّة الهارمونيّة والتّوزيع الموسيقيّ، ولم تقتصر الثّورة على الشّكل، بل امتدّت الى المضمون، فتغيّرت موضوعات الشّعر القديمة وتحوّلت الى أفكار عصريّة انسانيّة واقعيّة، تحوّلت من شعر يتسكّع على السّطح ويعاني الوجود من خارج الى محايئة هذا الوجود والتزام بالواقع، فصار الشّعر ديمقراطيّا يشخّص الهموم والأوجاع البشريّة العامّة ويتناقل مشاكلَ هذا القرن وأمراضَه الحضاريّة ومشكلاتِ الانسان عامّة وواقعَه المتحوّل وامكانيّته في البعث والنّضال لتحقيق واقع مستقبليّ منشود، الاّ أنّ هذه لم تلتزم اتّجاها فكريّا واحدا على صعيد المضمون مع أنّها التزمت اتّجاها واحدا على صعيد الشّكل .
أمّا على الصّعيد المحليّ، فقد تميّزت المرحلة بما يلي:
1. حيرة سياسيّة خلّفتها النّكبة، تشريد، حكم عسكريّ، مصادرة الأرض، انكسار اللّجوء وذلّ العوز والخوف والتّرقّب.
2. تغيّر في البنية الاجتماعيّة بسبب المستجدّات.
3. محاولات متكرّرة لطمس وتغييب الشّخصيّة العربيّة والتّراث العربيّ والهُويّة القوميّة.
4. تبع ذلك حيرة في الأدب. فبسبب الظّروف انقسم أدباؤنا الى قسمين: قسم آثر الصّمت وآخر آثر التّحدّي، ذاك صمت فترة ثمّ لملم جراحه وعاد للكتابة، وخاصّة الى نظم الشّعر. وهذا القسم الثّاني، بسبب ظروف المرحلة، وفي غالبه، دمج الخطاب السّياسيّ التّاريخيّ الأيديولوجيّ مع الخطاب الابداعيّ الفنيّ، ولكن الى حين عند البعض، كما سنرى فيما بعد .
شاعرنا حنّا أبو حنّا كان من هذا القسم الثّاني في ديوانه الأوّل خاصّة، أي من هذا القسم الّذي آثر الوقوف الى جانب شعبه، حيث وظّفوا فنّهم وسخّروه في البداية للدّفاع عنه وعن قضاياه، ومن ثمّ لتثقيفه وتوعيته وتثويره. وتكفينا نظرة سريعة الى عناوين قصائد الدّيوان الأوّل، كي نستدلّ على ذلك .
انّ قارئ ديوان "نداء الجراح" يكتشف رأسا أنّ الشّعر فيه شعر ملتزم، يجمع فيه الشّاعر بين النّظرة التّقدّميّة والمسحة الفنيّة .
شعر ملتزم بهموم الانسان وقضاياه وأحلامه. والانسان عند حنّا يعني الانسانيّة جمعاء. والتّمييز في هذا الشّعر بين انسان وآخر ليس من النّاحية القوميّة/ الطّائفيّة/ العرقيّة، وانّما بين ظالم ومظلوم/ غاصب ومغتصب/ مُسْتَغِلّ ومُسْتَغَل.
وطالما أنّ الانسان هو المركز أينما كان، اذا هذا الشّعر هو شعر مقاوم، يقاوم الظّلم والقهر والاستبداد عامّة .
وحنّا منذ وعى العالم حمل صليب شعبه على كتفيه وعاش النّكبة وعايشها وشرب مرّها وذاق على جلده معنى الاحتلال والقهر، لذلك تجربته كانت صادقة وحارّة وأصيلة، أفرزت أدبا صادقا نبع من نيران المقلاة العربيّة والفلسطينيّة. والمقاومة لها أبعاد ثلاثة عبّر عنها حنّا في "نداء الجراح" بشكل واضح: البعد الانسانيّ، والبعد الاجتماعيّ، والبعد القومي .
وخصوصيّة أدب المقاومة عند حنّا تنبع من أصول ثلاثة: من كونه ابنا للجماهير، ومن كون أنّ شعره صادر عن لحم القضيّة، ومن أنّه تبصّر بالماركسيّة الّتي أشعلته حماسا وتفاؤلا وانتماء .
وكونه شاعرا ملتزما، مقاوما، تميّزت قصائده بميّزات عامّة جمعته مع ناظم حكمت، وبابلو نيرودا، وبول ايلوار، وأراغون، وبميّزات خاصّة جمعته مع محمود درويش وسميح القاسم وتوفيق زيّاد وآخرين.
من أهمّ ميّزات شعر حنّا في هذه المرحلة ديوانه الأوّل أوّلا- من حيث المواضيع، نجد أنّ قصائده تدور على محاور ثلاثة- الانسان مركزها كما ذكرت آنفا هي: الأرض/ الانسان/ الهُويّة، أي القضيّة بكلّ ملابساتها وتشظّياتها وأبعادها وتفريعاتها ومراميها.
وهذه الثّيمَة الأساس/ القضيّة، كان لها الأثر الكبير في كلّ ما أبدعه حنّا في هذه المرحلة. فهي كانت هاجسه الّذي سكنه والّذي استمدّ منه مواضيع قصائده وأشكالها وصورها ومفرداتها وتكنيكها. ومن هنا بالتّالي فانّ هذه الثّيمَة / القضيّة تتطلّب شكلا معيّنا وتستنفر صورا ومفردات خاصّة بحيث يؤدّي ذلك كلّه الى صعوبة الابداع فيها، فيصبح التّجديد محدودا والمجال متقلّصا .
ولكنّ حنّا نجح في تخليص شعره من اطار التّقليد والتّكرار المقيتين، وعرف كيف يأتي بالجديد وبالتّجديد أحيانا، مع انّهما أحيانا قشرة موز لزجة من الممكن أن ينزلق عليها الشّعراء بسهولة، وكم رأينا ذلك يحدث.
ثانيا- من حيث الشّكل تميّزت قصائد حنّا في هذه المرحلة بما يلي:
1. الجملة الوثوقيّة الواضحة، مع ميل الى التّبسيط، وذلك لأنّ شعره يرتبط بالجماهير، فهو يريد أن يثوّرها ويحمّسها .
2. الميل الى النّثريّة والمباشرة وذلك لنفس السّبب المتقدّم .
3. لأنّ قصيدته تغيّت مخاطبة النّاس، جنحت نحو التّفعيلة الخفيفة والايقاع المتلوّن .
4. الصّورة الجميلة الموحية ذات النّوسطالجيا التي تاخذ الى بعيد الى عالم الأمس الرّخيّ المشحون حبّا وعفويّةً وخيرا واستقرارا .
5. اللّفظة المزيّنة بالموسيقا الجميلة.
6. الصّدق والأصالة في تصويره لصراع الانسان العربيّ الفلسطينيّ، فشعره كان صادقا صدق التّجربة الّتي عاشها.
7. النّفس القصصيّ الملحميّ. فلأنّ الشّاعر حاول رسم تاريخ شعب، لا فرد، كان مضطرّا لأن يروي قصّة هذا الشّعب، حيث فيها يستحضر الماضي البطوليّ ليصوغه واقعا منتفضا ثائرا ولينجلي بالتّالي الى فرح بالآتي .
8. البطل عنده في معظم قصائده هنا جماعيّ. أي أنّه أدب شعب لا أدب أفراد يمثّل حالة جماعيّة لا حالة نفسيّة فرديّة.
هذا ما يمكن قوله عن شعر حنّا في ديوانه الأوّل الّذي طغت على بعض قصائده، بسبب ظروف المرحلة، كما أسلفت، المباشرة والوضوح والانحياز الى نغمة خطابيّة منبريّة .
والسّؤال الّذي يثور الآن وبعد هذه الوقفة: هل راوح شعر حنّا مكانه بعد نصف قرن من الزّمان أو أقل أو أكثر، أم أنّه استطاع أن يخترق الثّبات وأن يتحوّل الى شاعر يتّسم بالحداثة؟
للحقيقة أقول أنّ ديوان "نداء الجراح" يحتوي على قصائد ترهص بشعر حنّا الّذي نعرفه اليوم وتنبئ بتحوّل كبير في بنيته وأشكاله، خاصّة تلك القصائد الرّومانتيكيّة الخالصة المبثوثة في ثنايا الدّيوان .
انّ قراءتنا لديوان الشّاعر الأخير "تجرّعتُ سُمّك حتى المناعة" تشير الى تحوّل كبير، أصاب شعر حنّا، وان كان هذا التّحوّل لا يطال الموضوع بالشّيء الكثير، فقد طال الشّكل والأسلوب. ففي ديوانه الأخير لا نجد عند حنّا تحوّلا ملموسا في المواضيع، بمعنى أنّ شعره ظلّ ملتزما مقاوما يصدر فيه عن نفس الينابيع والرّؤى الفكريّة مع تخصيص للتّجربة الفلسطينيّة ولانتفاضة الشّعب الفلسطينيّ وانحياز الى المدّ الثّوريّ بعيدا عن الأيديولوجيا الضّيّقة. الدّيوان تجربة جديدة تكاد تنقض ما جاء في الدّيوان الأوّل من وضوح ومباشرة ونثريّة ومنبريّة، فهي هنا تجنح نحو الحداثة وتخطو بثبات نحو كسر قضبان الماضي والانطلاق الى عالم الشّعر الأرحب متزوّدة بأحدث ما طرحته نظريّات الحداثة من آليّات وتكنيك.
من هنا أخلص الى أنّ ميزة الدّيوان الأخير لا تكمن في مواضيعه، مع اشارة الى الغوص في قضايا الذّات أكثر من الدّيوان الأوّل، والى طرح رؤية خاصّة به، بل ميّزته في تحوّل هذا الشّعر من شعر وثوقيّ الجملة الى شعر فيه الكثير من الجدّة والطّرافة ألمسلّحتين بآليّات جديدة، لم نعهدها من قبل في شعر الشّاعر. هذه الآليّات الجديدة الّتي أفرزها مشروع الحداثة الّذي بدأ يغزو شعرنا العربيّ منذ السّبعينات، والّتي جاءت نتيجة لتحوّل في مفهوم الشّعر وفي مهامّه ورؤيته ولغته تنسجم مع التّحوّلات الّتي أصابت المجتمع الجديد.
ارتكازا على ما تقدّم تصبح غاية الشّعر الجديد كما هي عند حنّا التّعبير الجميل عن الذّات في لحظة الكشف والرّؤيا، يخاطب العقل ولا يخضع لقوانينه، مهمّته الفريدة هي النّفاذ فيما وراء الظّواهر المتناقضة المبهمة ليكشف بالحدس والرّؤيا أسرار الوجود الحقيقيّ، ووسيلته الى ذلك اللّغة، لذلك فانّ الشّعر لغة، أي أنّه وليد مخيّلة خلّاقة لا تعمل عملها الفنيّ الاّ باللّغة .
وهكذا اذن، فانّ الحداثة او الشّعر الجديد عبارة عن ابداع وخروج بالشّعر عن السّلفيّة، أي تكوّن رؤيا، والرّؤيا بطبيعتها ثورة خارج المفهومات السّائدة . لهذا، فانّ أهمّ ما في الحداثة "موقف كيانيّ من الحياة" . وهذا يعني أنّ لها حقيقتها الخاصّة، حقيقة العالم الّذي لا يعرف الذّهن التّقليديّ أن يراه، ولكن الّذي يراه ويكشف عنه هو الشّاعر،" فالشاعر الجديد يرى في الكون ما تحجبه عنّا الألفة والعادة ويكشف وجه العالم المخبوء، كما يكشف علائق خفيّة ويستعمل لغة ومجموعة من المشاعر والتّداعيات الملائمة للتّعبير عن هذا كلّه" .
وقوام الحداثة من هذا المنطلق معنى خلاّق توليديّ لا معنى سرديّ وصفيّ، أي الكشف عن عالم يظلّ أبدا في حاجة الى الكشف، لذلك هو يعبّر عن قلق الانسان ويصطدم في عمليّة الخلق الشّعريّ بتحدّيين:"حدود اللّغة- قواعدها وأصولها- وأساليبها،أي الموروث" . وبقدر ما يصطدم بهذين التّحدّيين بقدر ما يكون التّحدّيان امتحانا لأصالة الشّاعر وموهبته الابداعيّة. انّ أهمّ ما يميّز الحداثة:" التّضمين وتلاقي الأضداد والتّلميح . فمع الأوّل تكتسب القصيدة الجدّة والطّرافة، ومع الثّاني تكتسب الزّخم والتّوتّر وترتفع عن مساق الكلام العاديّ، ومع الثّالث تكتسب الضّبابيّة والسّريّة اللّتين تثيران في القارئ حبّ الاستطلاع والتّشويق والمغامرة والتّحدّي. وهذا في مجمله يعني "كسر المألوف وتفتيق العاديّ والانطلاق الى ما وراء الظّاهرة" .
انّ حجارة هذا البناء الموضوعيّ المبيّن سابقا هي الألفاظ، لأنّها في الشّعر تؤدّي الى ما وراء المعاني فتنضاف اليها أبعاد جديدة وبذلك تتجدّد وتحيا وتصبح اللّغة في معنى الشّعر لا في مبناه فقط .
نخلص الى القول: انّ مهمّة الشّعر الحديث تكمن بالتّخلّي عن الحادثة، وثانيا بالكفّ على أن يكون شعر وقائع، أي أن يبتعد عن النّثر العاديّ وعن المألوف من دلالات الكلمات، وثالثا بالتّخلّي عن الجزئيّة واحتواء رؤيا للعالم ليست مباشرة، ورابعا بالتّخلّي عن الرّؤية الأفقيّة كما هي في الشّعر القديم، بحيث يتجاوز السّطح ليغوص في الأعماق والى ما وراء الأشياء، وخامسا بالتّخلّي عن التّفكّك البنائيّ، أي عن التّشقّق في الهيكل وعن الخطابيّة والمباشرة والاستعاضة عن ذلك بالصّورة التّركيبيّة، أي الصّورة/ الرّمز . هذا يقود الى أن يكون الشّعر الجديد ذا غرابة، والغرابة هنا بمعنى الجدّة.
على الشّعر الحديث أن يقود الى "الادهاش والشّدهة وأن يسعى الى مظاهر ذات صيرورة وديمومة كي يستطيع أن يحطّم العرض الايضاحيّ والأيديولوجيّ المباشر ليصير تعبيرا عن التّجربة الانسانيّة" ، لكن مع ارتباط بالواقع، أي ربط التّجربة بواقع الشّاعر وعدم سلخها عنه.
تلخيصا لما تقدّم أقول: انّ أهمّ ما تطرحه الحداثة، وربّما هو غايتها، اختراق المألوف وتفتيق العاديّ والانطلاق نحو الادهاش والشّدهة، ثمّ ترسيخ الضّبابيّة والسّريّة وكسر حدود اللّغة وحواجزها، وتحدّي الأساليب المتوارثة السّلفيّة، والدّعوة الى الاستشراف والتّداعيات. هذه الأمور متجمّعة تحدّد الحداثة بآليّات وعناصر كثيرة من أهمّها: التّرميز، التّلميح، الايحائيّة،التّكثيف، التّضمين، تحطيم العرض الايضاحيّ المباشر، الغوص في الأعماق، توظيف التّراث، لغة خلاّقة ذات دلالات جديدة، تشبيهات وصور مبتكرة طريفة رامزة تركيبيّة، التّناص الّذي يغني الخطاب الشّعريّ، الأسطرة الّتي تضفي العمق والايهام.
هذه الآليّات الّتي تجسّد روح الشّعر الجديد/ الحداثة نجد أنّ معظمها يشكّل متّكأً لشعر حنّا حيث هي موظّفة فيه توظيفا واعيا.
يقول في قصيدة " سيّدة العشق القتّال" ، وهو يتّكئ على التّراث والقرآن الكريم والتّوراة موظّفا الأسطورة، مقدّما تشبيهات جديدة وصورا رامزة، لافّا كلماته بضبابيّة كاسرا عرضها الايضاحيّ المباشر، ملمّحا، مستشرفا مسترجعا للماضي:
قاسيةُ القلب كصخرِ الجرمقِ أنتِ
كصخرِ جبالِ القدس
قاسٍ كاله وثنيّ هذا الهوسُ الضّاري للحنّاء
معجزةٌ مهرُكِ يا سيّدةَ العشقِ القتّال
طوّحَ بالعشّاقِ الى عاصمةِ الموتِ
الى هاويةِ الأهوال
..........................
عبثٌ كيدُكَ يا مالك
تطلبُ ألفا من نوقِ النّعمان لِعَبلَةَ مهرا
علَّ الموتَ يُقَنْطِرُ عنترةَ العاشقَ
دون سياج الوصل
هذه القصيدة، وقصيدة "قالت غيّثوا" و "بلد الأرجوان" ومعظم قصائد الدّيوان الأخرى تؤكّد على المظاهر الثّابتة ذات الدّيمومة الدّالة على المستقبل المعبّرة عن التّجربة الانسانيّة المتجاوزة للرّؤية الأفقيّة الى الغوص في الأعماق.
والقصائد بعد هذا كلّه مكثّفة تخلو من الثّرثرة والتّرهّل والكلام الفائض، فالجمل على قدر المعاني، بحيث لا نجد جملة تبحث عن معنى فتقصّر دونه، أو كلمة تخرج عن سياقها لتشكّل نشازا.
لغة القصائد، لغة خلاّقة مؤثثة بمفردات مشرقة، تنساب بعفويّة، فهي لا تبحث عن لفظة ولا معنى. سيضاف الى ذلك تناص يُغني الخطاب الشّعريّ ويؤكّد على بعد رؤيته وعمق فكرته وشفافيّته، الى جانب تشبيهات وصور جديدة مبتكرة، ذات طرافة بعيدة عن الأصباغ والمساحيق، مرتبطة بعلائق تبعث على الشّدهة وتثير في القارئ حكّ الذّهن والتّشويق والتّحدي والمغامرة وحبّ الاستطلاع.
هذا الى جانب الأسطرة التي تشكّل العمود الفقريّ للدّيوان، والّتي تبعث على الايهام والعمق وتثير في القارئ صورا طريفة مركّبة رامزة.
هذا ما نجده في ديوان حنّا الأخير " تجرّعتُ سُمّك حتى المناعة" وهذا ما يدفع الى تثبيت ما قمنا بطرحه في بداية حديثنا من أنّ شعر حنّا استطاع أن يخطو نحو الجدّة والحداثة خالعا أزياءه القديمة، ليتزيّا ببنًى وأشكال جديدة تلائم روح العصر. من هنا أخلص الى القول:
انّ شعر حنّا بين الدّيوانين انتقل نقلة مهمّة واسعة على صعيد الشّكل الفنيّ مستبدلا جملته الوثوقيّة الواضحة المبسّطة ونثريّته ومباشرته، الى شعر مكثّف موحٍ، مغلّف بسريّة وضبابيّة تثير الشّدهة والادهاش، تعتمد آليّات جديدة،لم نجد معظمها في قصائده السّابقة في الدّيوان الأوّل، مع الاشارة الى أنّ مواضيع الشّاعر ظلّت تنهل من نفس الينبوع ، الاّ أنّه في الدّيوان الأخير صار أكثر غوصا في مكنون الذّات وفي نبش خفاياها وفي طرح رؤيا شاملة.
اذن، بين ثبات الموضوع وتحوّلات الشّكل يقع شعر حنّا في ديوانه "نداء الجراح" و" تجرّعتُ سُمّك حتى المناعة". وفي رأيي أنّ الشّاعر بذلك يكون قد قفز على قلّة شعره قفزة نوعيّته كبيرة، ترشّحه لأن يكون رائد الشّعر الحداثيّ في مسيرة شعرنا الفلسطينيّ هنا وفي الخارج.
0 comments:
إرسال تعليق