بعد أن اتفق إيهاب على موعد مع فتاة عبر الإنترنت. فرك راحتيه مبتهجاً بإنجازه. نظر إلى ساعته مستعجلاً انتهاء الدوام في مكتب المحاسبة الذي يعمل لديه. وما إن حانت ساعة الإنصراف حتى هرع إلى منزل أهله ليستحم ويرتدي أجمل ما لديه.
كان يهيىء نفسه وملابسه بسرعة للقاء "ميريانا" بينما رهبة اللقاء الأول مع الجنس الآخر تهيمن عليه كونه لم يواعد فتاة قبلاً. ارتدى بدلته الكحلية وقميصه الأبيض وربطة العنق الحمراء وحذاءه الأسود. رش الكثير من العطور وهو يدندن بعدد الدقائق المتبقية على الموعد. خال بأن الساعة تخفق بنبض يحاكي دقات نبضه. لم يتبرم منها قبلاً ولكنه يراها الآن رخيصة بخسة فقيرة المظهر فقرر أن يستعير ساعة أخيه وائل القادم من ليبيريا ليقضي الصيف مع أهله. الساعة فخمة مرصعة بالماس، سوف يستعيرها إيهاب خلسة ليتباهى بها أمام الفتاة و يعيدها خلسة كما استعارها دون أن يخبر أخيه.
وصل الشاب الغر إلى العنوان الذي حددته له "ميريانا" ساتراً عينيه بنظارة سوداء كبيرة كي لا يتعرف عليه أحد معارفه أو أصدقائه بسهولة . سمع من زملائه عن العديد من "المنازل الترفيهية" المماثلة فعرف بأنه في أحدها وأحس بالحرج والندم. رأى هنا بضع "ميريانات" تتبخترن وتحدجن. رأى رجالاً يدخلون الغرف بهيبة وآخرون يخرجون بخيبة. أدرك بأنه خـُدعَ ولكنه سيتأكد . تقدم من السيدة البدينة الرابضة خلف مكتبها كفيل بشري تدخن بشراهة و "تعرعر" بصوت رجولي أجش موزعة تعليماتها وأوامرها على الفتيات كما على شابين مفتولي العضلات يعملان لديها لتأديب أي زبون تخول له نفسه المماطلة بالدفع أو كسر السعر المقرر "للبنات". سألها إيهاب عن فتاته "لأنه جاء لمقابلتها لأمر هام" .
عبست الكهلة الضخمة ومدت يدها : هات !
دفع لها،عدت النقود، نفثت دخان سيجارتها بوجهه وهدرت : ميريانا في الغرفة رقم 7 ، انتظر دورك ! ... أجلس هناك إلى حين أشير لك بالدخول .
انتحى ركنا معتما يتناعس فيه ضوء نور أحمر خافت. خال بأن جميع الجالسين ينظرون إليه ويتندرون عليه. فـَكـَّرَ بالإنسحاب ولكنه لن يفعل لأنه دفع ولأن دم الشباب يلح بنقع الغليل. لبث بارتباك ينتظر دوره في الصالة الكبيرة مع من ينتظرون. لاحظ بأن أحد الشابين العامـِلـَـيـْنِ لدى "الست" يختلس نظرات تشي بنيته للسطو على الساعة الماسية. خشي إيهاب على ساعة أخيه الثمينة وجزم بأن سرقتها سوف تسرق سنوات من عمره كي يفي ثمنها. خلعها بهدوء وحذر وخبأها في جيبه على أن يعود ويلبسها حين يقابل "ميريانا" ، أو غيرها .. ما هـَمّ ؟!! . جاء دوره ، أومأت له الإمرأة البدينة كي يدخل إلى الغرفة رقم 7 .
دخل الغرفة بتردد وتوجس المقبل على تجربة المرة الأولى . توقف مشدوهاً في مكانه للحظات. رأى شعراً أحمر بينما لون شعر ميريانا في الصورة أشقر. حيا الفتاة فلم ترد واستمرت منشغلة بزينتها أمام المرآة مدبرة. ظن بأن السيدة البدينة أرشدته إلى الغرفة الخطأ. ما يراه ليس تلك الفتاة العشرينية الجميلة التي رأى صورتها على الإنترنت. بل خمسينية دميمة نحيلة. اقترب منها ليتأكد أكثر فراعه مشهد وجهها الدراكولي المترع بالأصباغ، أعارته التفاتة تجارية سريعة واستأنفت تزويق التجاعيد والتضاريس. لبثت تتزين وترمم وتجدد ثم طلبت منه أن يسبقها إلى السرير. سألها بصوت منخفض:
- أين ميريانا ؟
- بحزم ردت : أنا ميريانا.
ثأثأ بكلمات لم تفهمها ولكنها استنتجت بأنها لم تعجبه وبأنه ينوي الهروب حين رأته يتراجع نحو الباب فزعقت به وشتمته وعلا صراخها. سمعها الشابان فاقتحما الغرفة وأوسعاه ضرباً وطرداه.
في الطريق كان خجلاً من نفسه ويلومها . لن يعود إلى المكتب ولا إلى المنزل الآن كي لا يرى أحد ملامحه واكتئابه وارتباكه وخيبته والكدمات الزرقاء تبقع وجنتيه وجبهته. قرر أن يختبىء من ذاته، ولكن أين ؟ ثم حسم الأمر ليـُرَوِّحَ عن نفسه ويتناسى غمه بالذهاب إلى السينما فنظر إلى الساعة ليعرف موعد بدء عرض الأفلام ... ولكنه لم يجد الساعة. خبط صدره. خال للحظات بأن الأرض تدور به وتميد وتهتز فخارت قواه وانهار مقتعداً رصيف الكورنيش. زاغت عيناه ولم يعد يرى . ضجت الأنواء المتداخلة في جمجمته فلم يعد يسمع سوى صوت أخيه يطالبه بساعة ثمنها آلاف الدولارات. وهو لن يجرؤ على تقديم شكوى للشرطة كي لا يعرف أهله أو زملائه بالعمل بما حدث.
لملم كيانه المترجرج المتداعي وتوجه نحو سوق "الساعاتية" ليعرف سعر ساعة تشبه تلك التي فقدها. عرف سعرها ولكن أنـَّى له بالمال الكافي لشراء ساعة قيمتها تفوق راتبه لبضع سنين. لجأ إلى ألفي دولار ادخرها. طلب من أمه مبلغاً مماثلاً كان قد أودعه لديها لشراء سيارة. قام بجولة على الأقارب والأصدقاء لاستدانة الباقي واشترى الساعة وأعادها إلى خزانة أخيه سراً. ثم سعى لإيجاد عمل إضافي يـُمـَكـِّـنه من الوفاء بديونه ويقيه شر الفضيحة التي لم يعرف بها سواه. حيث أرشده أحدهم إلى محام بحاجة لطابع مستندات على الحاسب الآلي فصار يداوم في وظيفته نهاراً ولدى رب عمله الجديد ليلاً.
بعيد سنتين من سفر أخيه إلى ليبيريا، وردت رسالة إلى إيهاب على بريده الإلكتروني من أخيه يبشره فيها بأنه أخيراً ، وبعد طول عناء وانتظار ومشقة استطاع أن يشتري ساعة قـَيـِّـمـَة مـُرَصَّعة بالماس الحقيقي، وبأنه هـَشـَّمَ تلك الساعة المزيفة التي كانت معه ورماها سراً في مستوعب النفايات كي لا يكتشف أحد بأنه كان يلبس ساعة غير أصلية طوال تلك السنين.
0 comments:
إرسال تعليق