بداية أود أن أحدد بعض الأمور:
الأول، إن مداخلتي ستقتصر في تناولها على الفنّ القصصي وخاصة فنّ القصة القصيرة وذلك لندرة الجانر الروائي لدى كتّابنا الشباب.
والثاني، إن هذه المداخلة لا تزعم الكمال ولا تدّعيه، كما أنها لا تزعم الارتكاز على كل ما نُشر من قصص بأقلام شابّة منذ بداية الثمانينات ولغاية اليوم، وإنما ارتكازها مؤسس على ما نشره البعض.
وقصص- هؤلاء- التي قرأتها- في رأيي تعكس في مضامينها وأشكالها معظم ما كتب في هذه المرحلة.
والثالث، كي تقارب هذه المداخلة العلمية والموضوعية ستتمحور على الأسئلة التي تطرحها هذه الندوة وهي:
أ. صعوبة تناول فن كتابة القصة.
ب. تواصل القصة مع قصة الجيل السابق.
ت. مستوى هذه القصص.
ث. موقف النقد الأدبي منها.
ج. نتائج مترتبة على ذلك.
والرابع، تستمد هذه المداخلة مادتها مما نُشر من دراسات في القصّة العربية، وهي لكل من:
محمد برادة، يمنى العيد، الياس خوري، نجيب العوفي، خالدة السعيد، وصبري حافظ. وهذه الدراسات كانت وليدة ندوات عن واقع ومستقبل القصة القصيرة في العالم العربي.
أن نكتب قصة ليس بالأمر السهل، لأن القص معناه أن نستنطق الظاهرة وأن نكشف ما وراءها، أن نخترق الواقع المعيش وأن نعبّر عنه بصدق وأمانة تعبيرا فنيّا. القصّ معناه أن نحول المألوف إلى مدهش وأن نفتق العادي.
أن نقص معناه أن نرصد الأحداث ونعاينها لنختزنها في دواخلنا كي تتم بعد ذلك عملية هضمها لتخرج في قالب فني قصصي يعيد فيه الكاتب خلق ما كان على الشكل الذي يريد له أن يكون.
والقصة من هذا المنطلق تصبح مدخلا للتمرد على سجن الخطابات السلطوية وبلاغتها، أي سلطة، سياسية كانت أم اجتماعية. القصة بهذا المعنى تصبح معبرا إلى تشييد فضاء رحب يستعيد المخيلة الموؤودة ويحتفل بنكهة اللغة الطازجة وطراوة المعرفة الكاشفة. وبمعنى آخر "أن نقص معناه أن نلملم أطراف المشتت والمتلعثم والمتآكل والمنقسم والوقح والملتصق بالجلد والذاكرة لنعيد نسجه وتوليف عناصره واستثماره وفق ما يجعل النفس ترتج بحقيقتها وبحقيقة مجتمعها".
والقص أيضا لذة ومتعة، واللذة تحرير للجسد والمخيلة وبحث عن اللامرئي الذي يُمفصل الذات، ومن ثم تكون القصة القصيرة قادرة على تجديد نفسها عبر تجديدها للنسوغ والخلايا. إنها فاتنة وخلابة قاسية وصارمة، تستطيع أن تجعلنا نجد عالمنا لا يُحتمل أكثر من ذي قبل.
والقصة بما تشتمل عليه من محكيّ ووصف وسرد وخيالات وتأملات تكون مندرجة وملتحمة بلحظات واسعة من الجدلية الاجتماعية، فتنقل إلينا معرفة ما وتشرع أمامنا كُوىً ننفلت عبرها لنبتعد عن المعرفة المألوفة والعلاقة الرتيبة بالأشياء والظواهر والأناسي". ولكن الوصول إلى هذه المعرفة لا يكون ممكنا إلا بالتخلي عن المقاربات الاسقاطية وعن قياس النص المنطوي احتمالا على جديد بمقولات فكرية أو أيديولوجية جاهزة. ومن خلال القراءة التأويلية التي توفرها لنا القصة.
القراءة العبر نصية، التي تنطلق من النصوص لتكتشف ما يلامسها ويحاذيها ويخترقها سنلتقي في القصة بالمجتمع الذي هو حاضر عبر اللغة والرموز والإشارات والأشكال".
والالتقاء بالمجتمع معناه مواجهة القصاص لأسئلة محرقة لا تحتمل الإرجاء لأنها أسئلة تنبئ عن المأزق العام للمجتمع وتضع موضع التساؤل مجموعة القيم والمثل والمذاهب والمراهنات التي كانت تخلق دينامية ما وترسم أفقا نتطلع اليه.
" ان القاص يجد نفسه وجها لوجه مع ركام الأشياء، ركام من الظواهر المرَضية والسلوكية والاجتماعية، ركام من الأحداث والأخبار والنوادر والكلمات، وكل هذه المواد المتفجرة عن صُلبنا وأحشائنا تشكل جسدا فيزيقيا هلاميا لا يمكن أن نحكيه بنفس الوتائر والنبرات واللغات السابقة". قد يكون هذا هو مأزق القصاص: كيف يخطو ويحدد موقعا لأقدامه فوق أرض ساخنة مليئة بالندوب والبثور، مليئة بيقينيات تنهار وأخرى تتبرعم وتتأسس.
إن كل ابداع يستند في نهاية المطاف إلى ما وراء أدب، إلى تصورات لمكونات الأدب ووظائفه وعلائقه بالمجتمع وببقية الخطابات. والقصة القصيرة بالرغم من اعتمادها على اللغة، عليها أن تكون في انجازاتها وبطبيعة شكلها ومصادر استيحائها مرصدا لتعدد اللغات الاجتماعية ولتعدد دلالاتها وإحالتها، "فالأصوات المتكلمة في القصة لا تحقق امتلاءها إلا عندما تغدو تلفظا مرتبطا بالذات المتلفظة وبأبعادها المختلفة التي تنقل إلينا وجود الإنسان وتميزه عبر اللغة التي يتحدثها".
والقصة من هذا المنطلق تصبح لها إشكالية معينة وذلك باعتبارها مستوى لتمظهر الوعي ورصد العلائق واستنطاق اللغات واقتناص المعرفة أثناء تشكلها. والقصة بالتالي نوع من أنواع القول الأدبي يستعين بتقنيات معينة ليبني باللغة عالمه، أي أن القصة قول لغوي يني عالمه بتقنيات خاصة يبدعها.
والسؤال: كيف يتم ذلك؟ أي كيف يصير القول اللغوي القائم على المستوى الأيديولوجي قولا قصصيا؟ أي قولا في الحقل الأدبي؟
بالإضافة إلى ما تقدم وهو عام، تزداد كتابة القصة عندنا إشكالية وصعوبة، وذلك لأن فن كتابة القصة عندنا فن حكائي حديث. صحيح أن جذوره تمتد إلى الأربعينات وربما قبل ذلك بقليل، ولكنه لا يتجاوز من حيث عمره الفني نصف قرن من الزمان، لذلك كانت البداية حيرى مترددة وكان استمراره شاقا شائكا ولا يزال التجريب فيه قائما. ومع انعدام المرجع أو لنقل مع قلته يجد الكاتب نفسه يحلّق في فضاء واسع بلا ركيزة أو دعامة يستند إليها في ابداعه. ورب قائل يقول ويزعم أن المرجع قائم محليّا وعربيّا، فقد شهدنا مع بداية الخمسينات إلى اليوم مدى قصصيا جيدا. أقول أن هذا الزعم لا يجانب الصحة، ولكن المرجع لا يُقاس بمدى نجاح بعض الأفراد في الارتكاز عليه وإنما يُقاس كمرجع عام عليه نرتكز وعليه نستند ولا نظل مأسورين به. هذا بالإضافة إلى ما نطلبه من القصص عند شبابنا اليوم. فمن المفروض أن تكون قصتهم غير ما كانت عليه القصة المحلية في الماضي، فلكل مرحلة ملابساتها وظروفها، ومن هنا يصبح لكل مرحلة مضامينها وأشكالها. ولا يجوز لنا أن نظل ندور في نفس الأقفاص، ولا نريد لشبابنا المبدعين أن يكونوا ببغاوات لا يتقنون سوى ترديد ما كان، بأصوات ربما تكون أسوأ من هذا الذي كان. نحن نريد لهم أن يبدعوا قصصا تلائم المرحلة، فعهد الزعتر والطابون والتسلل إلى الأرض والتشبت بالهوية والحكم العسكري وما أفرزه قد ولى، لذلك المرحلة اليوم تطرح تحديات أخرى وتتطلب أشكالا وبُنى أخرى وفقا لذلك.
لقد أثبت تطور الحياة السياسية والاجتماعية فقدان الأساليب القصصية المتداولة إلى مصداقيتها وفنيتها، وأحبط الكثير من إمكاناتها في التناول والتعبير وهذا القول متجه إلى الواقعية التقليدية بالدرجة الأولى.
إن ثمة تطورا استبدل قيما بقيم ورؤية برؤية، وبنية اجتماعية ببنية أخرى، كذلك فقد واكب هذا التطور ضغط شديد على الحريات الفردية وعَنَت لا يقل شدة في أمور العيش. وإذا كانت التبدلات الجذرية في بنية المجتمع ما تزال حتى الآن صعبة على الإدراك العلمي الشامل، فلا شك أنها محسوسة بما فيه الكفاية على الصعيد الفردي بشكل مستمر وبتوتر عالٍ. " لقد خُلقت حالة من القلق والحصار، من الإحباط والتشويش، وقدمت حقائق وتفاسير متضاربة لواقع واحد كان في فترة الخمسينات يفرز حقائق متجانسة وتفاسير متكاملة لا متلاغية. بمعنى آخر، لقد أوجدت هذه التبدلات إشكالية حادة في رؤية الفرد لنفسه ولبيئته، وإشكالية موازية في اللغة التي باتت تقترح الكثير".
فمن هنا وإزاء هذا الوضع البشري الجديد بات النمط التشيخوفي للقصة الذي شاع في الخمسينات لا ينفع. ليس ثمة عيبا في فن تشيخوف، وليس لأن ثمة عيبا في الذين كتبوا على هذا النمط، بل بسبب التطور الذي ذكرناه. هذا التطور الذي معه باتت الواقعية التقليدية متخلفة وقاصرة كفاعلية فنية، إذ أن "جملتها الوثوقية الواضحة التي تنقل واقعا وثوقيا واضحا تتعثر الآن في شباك المعاني التي لا تعني والتجارب المتوجهة إلى هدف مراوغ تضليلي، وان بنيتها المحاكية والمتكونة بدأب وترابط تسلسلي تتناسب عكسا مع الخلخلة الشديدة التي أصابت بنية المجتمع مع طابع الشدة والتقطع والتفكك الذي تتسم به الحياة اليوم". "إن المنهج الاجتزائي الذي تتناول الواقعية التقليدية به الواقع ممكن ومقبول في مجتمع ذي قوام وكلية بنيوية، ولكنه مستحيل ومخفق في مجتمع منفرط مجزأ. من هنا فان الواقع الجديد قد قلّص إلى حد كبير إمكانات التعبير القصصي بأي نمط من الأنماط السابقة وتعيّن على التعبير القصصي أن يجد تقنية جديدة تنقل المستجدات البالغة الخطورة في حياة الأفراد والمجتمع التي بدأت تتضح في هذه الفترة". من هنا فان البنية المدماكية للقصة التقليدية لم تعد قادرة على استيعاب الواقع الجديد وذلك لأن المعطيات الجديدة كانت غزيرة وكثيفة، وثانيا لأن طبيعة التجربة الحياتية المستجدة كانت بتخلخلها مناقضة تماما للبنية المدماكية للقصة. ومن هنا يتحتم على قصتنا التي نكتبها اليوم أن تفتش عن بنى جديدة ملائمة لما ذُكر.وقد وصل العالم إلى إيجاد البدائل، وكما وصل بعض كتابنا العرب أيضا إلى بدائل كالواقعية الجديدة والقصة المفصلية والانفجارية والمركبة. وليس المجال هنا لشرحها. هذه النماذج التي أفرزها تطور المجتمع اليوم في العالمين الغربي والعربي، هي التي من المفروض أن نراها تُكتب اليوم عندنا وخاصة بأقلام شبابنا الذين يعيشون ويعايشون هذا الواقع الجديد بكل تطوراته ومستجداته. والسؤال هل هذا ما نجده حقا؟ الإجابة تطرح إجابة على البند الثاني من هذه الندوة.
إن قراءتنا لقصص الشباب التي كُتبت بعد الثمانين تشي بأن معظمها ما زال يدور في فلك القصة المحلية التي عرفناها منذ بزوغ فجرها في الخمسينات.فشبابنا المبدعون ما زالوا واقعين تحت تأثير قصة من سبقوهم سواء كان ذلك من حيث المضمون أو من حيث البنى والأشكال، وذلك عندي يعود إلى أمرين: الأول إلى قلة قراءاتهم واطلاعهم على القصة الجديدة في العالمين الغربي والعربي. والثاني إلى جهلهم بتطور مجتمعهم. ومن هنا فان القصص المقروءة لهؤلاء الشباب ما زالت تعاني من نفس الشروخ شكلا ومضمونا دون أن ينجحوا في كسر حواجزها والانطلاق، وان كنا نشهد عند بعضهم محاولات هنا وهناك للانفلات والتحليق. هذا الأمر لا يثبت التواصل لأن في التواصل إيجابا، إذ ما من قصة تنشأ من فراغ أو في فراغ، بل عليها أن ترتكز على ما كان ولكن لا لتدور في إسار هذا الذي كان بل لتتجاوزه ولتشيد عليه عاكسة المرحلة. إذن هذه القصص الشابة لا تُثبت التواصل بالمعنى الذي بيّنته بل إنها فيما هي عليه اليوم تثبت التقليد وأحيانا الاجترار.
وتحديد الشروخ التي عانت منها قصتنا سابقا تعكس أيضا ما تعانيه القصة اليوم عند شبابنا، من هذه الشروخ لا بل من أهمها ما يلي:
1. عدم الموازنة بين الخطاب القصصي والخطاب التاريخي. التاريخ هو الوحش المفترس للكاتب. جملة قالها أحد القصاصين العرب، وهي تحمل كثيرا من الصدق، وذلك لأنه صعب جدا الفصل بين الخطابين الأيديولوجي والإبداعي في النص القصصي المحلي، قديما وحديثا. فصوت التاريخ كان حاضرا دائما في ثنايا القصة من التأسيس إلى التحديث ولكن بطرائق مختلفة. جهيرا حينا، وعلى شكل مواويل نائحة أو سورات حانقة حينا ثالثا.
2. إن مضامين القصص التي كُتبت في المراحل السابقة عكست الحساسية النفسية والفكرية فيها، لذلك دارت معظم الثيمات على محاور متقاربة، ومن هنا طغت ظاهرة التكرار على العديد من القصص". وهذا التكرار نتج عن بهتان المجال الانطولوجي للقصة القصيرة. وعن حضور القاص كراوية ومحور في النص حيث يمارس على النص ديكتاتوريته فيتحول النص إلى مرآة لا يرى الكاتب فيها إلا نفسه فيتملاّها ناسيا أن ينبش في سريرة مجتمعه وواقعه وتاريخه، بل ينبش في سرية ذاته". والمفروض أن نبحث عن القصصية في القصة كما نبحث عن الشاعرية في القصيدة. أي أن نبحث عن التركيب والخيال الإبداعي والتركيز.
3. كي يخرج الكاتب من أزمته المذكورة حاول التجريب. والتجريب كما يصفه أحد النقاد قشرة موز لزجة في طريق الأجناس الأدبية.
"فبالتجريب حاول البعض تجاوز الأزمة وبه ارتكس في الأزمة أيضا، هذا الارتكاس سببه عدم فهم جدلية الشكل والمضمون، لذلك جاء التجريب كمحاولة لرأب الصدع فكان أشبه بالتمارين وبالقواعد الشكلية التي لا علاقة لها بالتجربة القصصية". وهذا ما نجده عند الكثير من قصاصينا الشباب الذين لم يفهموا معنى التجريب فغرقوا في الإبهام معتقدين أنهم يمارسون الحداثة، ولكن تجاربهم في الحقيقة كانت على هامش الحداثة، هذه الحداثة المزعومة شكلّت عقبة في فهم النص فابتعدت بالعمل عن روح القص.
وإذا انتقلنا للحديث عن الشكل فلن يكون الأمر مشجعا أكثر، إذ أن تقليد المضامين والدوران على محاورها أوقع الكتاب أيضا بنفس العيوب الشكلية التي عانت منها أيضا قصتنا المحلية سابقا.
بالنسبة للشكل يرى العديد من الدارسين أن القصة العربية عامة راوحت بين ثلاثة مناهج وهي تنطبق على قصتنا المحلية أيضا:
1. منهج يعتمد على فعالية العين الرائية الفوتوغرافية، وهي أقرب إلى الكتابة السينمائية.
2. منهج يعتمد على فاعلية الذاكرة كعين باطنية، أي المونولوج أو ما يُسمى تيار الوعي، بحيث تصبح الكتابة الشعرية 3- منهج ثنائي تركيبي يوائم ويلاحم بين الفاعليتين العين والذاكرة بحيث تصبح الكتابة القصصية كولاجا أو مونتاجا من اللغات والأصوات.
معظم قصصنا سابقا تقع ضمن الخانة الأولى وان تجاوزها البعض إلى الخانة الثانية، وهذا ينطبق على قصص قصاصينا الشباب، وان كنا نتوخى منهم الانطلاق نحو المنهج الثالث ملائمة للتغيرات.
ولكن و نحن نحدد الشروخ ونزعم أن القصة المحلية عند شبابنا ما زالت تدور في فلك الماضي يجب علينا أن نذكر أن هناك تفاوتا بين القصص من حيث المستوى، فهنالك فعلا قصص تحاول جادة التغلب على هذه الشروخ وشق طريق خاص بها، وأخرى وهي الكثيرة ما زالت عالقة بإسار الماضي، الأمر الذي يفقدها حيويتها ومصداقيتها فنا ومستوى لأنها ناتئة عن واقعها. وعلّني بهذا أكون قد أجبت عن السؤال الثالث أي عن قضية مستوى القصص لدى الكتاب الشباب.
أما السؤال الرابع والذي توجه للنقد فعنه أجيب باختصار أن العمل النقدي ليس عملا سهلا، إذ فيه الكثير من التضحية ومن التعب وإعمال الفكر. فنقادنا ليسوا متفرغين ليواكبوا كل قصّة تنشر أو كل جديد يستجد على الساحة الأدبية. هذا بالإضافة إلى أن للناقد حق الانتقائية. حتى الآن لم يجد النقد المحلي على ما يبدو أمورا تستحق التسجيل في أدب الشباب وما ذكرته قبل قليل أي المتعلقة باجترار قصة الشباب لما كُتب من قصص في الماضي يعطي المسوّغ والمبرر للنقد في عدم تعامله الجاد مع هذا الإنتاج رغم غزارته. وندوة كهذه عمليا تفتح الآفاق على هذا التعامل، ومن هنا نرى إلى ضرورتها والى ضرورة استمرارها. ولكن على المبدع ألاّ يسقط فشله أو عدم جذب القراء إلى أدبه على الناقد، وذلك لأن المبدع الحق يعرف أن طريق الإبداع شاقة شائكة، فعليه أن يتحلى بالصبر، عليه أن يعرف أنه مهما كان الناقد كبيرا وذا شهرة فلن يجعل من أدبه أدبا سائغا إذا كان هذا الأدب يفتقر للمقوّمات الأساسية من جهة، أو إذا كان القراء لا يستسيغون ما يكتبه من جهة ثانية. على المبدع أن يعرف أنه لن ينال الشهرة والنجاح إذا حاول اختصار الطريق أو الالتفاف عليه، بل عليه أن يجرب ويجرب وأن يثابر ويثابر وعندها فقط يأتي النجاح وتأتي الشهرة فلا يجد عندئذ الناقد بدّا من الاهتمام به.
وبعد ما الذي نخلص إليه في كل ما تقدم؟
نخلص أولا إلى أن كتابة القصة أمر ليس بالسهل، أمر يحتاج إلى دراسة وفهم وتأنٍّ. لا لأن المرجع قليل فحسب، بل لأن الفن القصصي بحد ذاته فن يتطلب الكثير.
وثانيا، نخلص إلى أن ما نرجوه من القصة عند كتابنا الشباب ان تفارق اجترارها لقصة الماضي، وأن تلائم نفسها للمستجدات التي طرأت على مجتمعنا والتي بيّناها سابقا. وثالثا، على الكاتب أن يدرك أن القصة نوع من أنواع القول يستعين بتقنيات معينة ليبني باللغة عالمه. عليه أن يتعلم كيف يصير القول الفعلي القائم في القصة على المستوى الأيديولوجي قولا قصصيا. وكي يصل كاتب القصة إلى فهم جوهر القصة والى ابتكار قصة جديدة والى معرفة التقنيات مطلوب منه الكثير الكثير.
مطلوب منه:
1. أن يقرأ كثيرا ما أفرزته الآداب العالمية من قصص متنوعة.
2. أن يقرأ كثيرا في الأدب المقارن لتستقيم له المعايير الفنية.
3. أن يدرس المذاهب الأدبية والفكرية دراسة عميقة تعمّق مفاهيمه وتحدد اتجاهاته ورؤاه.
4. أن يدرس النظريات الأدبية وعلم الجماليات.
5. أن يطّلع اطّلاعا واسعا وعميقا على التاريخ الحضاري الإنساني وعلى علم النفس وعلوم الاجتماع، كي يواكب تطور البنى والأشكال الاجتماعية عند الأفراد ليلائم قصته لهذا الطور.
6. " أن يفهم العلاقة المفروضة في القصة بين وجود قاصّ راوٍ ووجود سامع/قارئ، ووجود ما يقصّه القاص/القارئ.
7- ان يدرك ان لبنية العمل القصصي مستويين اول- هو مستوى القص كتاريخ او
7. كواقع تخصّ هذا الكون التخييلي لعالم القصة ونتعرف إليها من خلاله، حيث على المستوى يمكننا أن ننظر في المنطق الذي يحكم الأفعال في نظام الحوافز الذي يدفع حركة الفعل في الشخصيات، وفي العلاقة فيما بينها. وثان، هو مستوى القصة كقول أي كلام واقعي له وجوده المادي يوجهه الراوي للقارئ".
8. أن يدرك أن الراوي في القصة نموذجان: " راوي الذي هو مجرد شاهد ينقل الأحداث ويحكي عن الشخصيات، وراوي يختفي خلف الشخصيات بحيث تتحدث الأحداث كمشهد يجري أمام أعيننا وبحيث تنطق الشخصيات بلسانها".
9. أن يدرك أن القصة قول لغوي،" زمن القص المتخيل فيها زمن أُحاديّ، أي زمن يتوالى في شريط مادي لغوي، هذا الشريط يتميز بقصر مدته، والقصة القصيرة تتميز بشريط لغوي قصير، فقصر الشريط هذا هو قصر مدته أي زمن قصّه المادي. على أن قصر زمن القص المادي أو طول مدّته لا دخل له بطوله التخييلي في هذا الاتجاه أو ذاك".
هذه أمور على صعوبتها أساسية، على القاص أو على الذي ينوي ولوج حقل القصة الشائك أن يعرفها مضافة إلى الملكة والموهبة، إذا هو أراد ان ينهض بقصته وأن يوصلها إلى التجديد، كي تصبح قصّة ذات معنى جديد تعكس المرحلة مضمونا وشكلا.
وأخيرا، إن ما نطمح إليه اليوم من قصص الشباب هو أن تخلخل هذه القصص القصة الموباسانية التقليدية ذات الوحدات الأرسطوطالية، نتيجة احتقانها الفكري الناتج عن احتقان اجتماعي وتاريخي. نحن اليوم نطمح إلى أن نرى قصة تتحول من النظرة الأفقية ذات التفاصيل الكبيرة إلى نظرة عامودية ولوع بالتفاصيل الصغيرة. نطمح إلى قصة تتحول من التسلسل الزمني إلى تداخل الأزمنة، ومن اللغة الإخبارية الجامدة إلى لغة إيحائية مكثفة تزيل ترهلها السردي. نطمح إلى قصة تتحول من الحدث التقليدي إلى تفكيك الحدث أو اللاحداث. نطمح إلى قصة تخلخل الشخصية النمطية المتماسكة، وتتحول من البرّاني إلى الجوّاني، من الموضوع إلى الذات.
وأخيرا، نطمح إلى قصة تطرح بعدا اجتماعيا واضحا وتلتزم الأساس دون جعجعة ومباشرة ووعظية. هذا ما نأمله من قصّة شبابنا، أعرف انه أمر صعب، ولكن أخذ القليل خير من ترك الكثير. ونحن على ميعاد.
ملاحظة
من الجدير ان اقول اننا بدانا نشهد في بداية الالفية الثانية قصصا بدات تفلت من اسار الماضي وتجترح لها نهاجية جديدة نامل لهذه القصص ان تستمر لتخلق واقعا قصصيا جديدا يستمد مما كان ويشيد عليه هذه القصص تستجيب للكثير مما ذكر كتبتها اقلام شابة بجراة ملفتتة للنظر وهي ثمرة جهد مبارك ودراسة لما كان واطلاع على ما يكتب في العالمين الغربي والعربي من الاسماء التي تنتمي لهذا الجديد على سبيل المثال لا الحصر رجاء بكرية وعلاء حليحل وراوية بربارة وميسون اسدي.
نص المحاضرة التي القيت في جامعة حيفا
Habib Bolus
0 comments:
إرسال تعليق