عشق الحياة حد الثمالة ، وعانى الغربة والاغتراب، وعاش كبقية المبدعين والمثقفين مأساة الوطن . انتمى لجيل القلق والضياع والجوع الثقافي والابداع الوطني الفلسطيني العقائدي والفكر الوطي الحر المغاير، ومكث في مملكة الصعاليك و(المناطق الحرام)، وعايش الهزيمة، فكان شاهداً على العصر وسفيراً للفرح الغائب ، وباحثاً عن المعرفة من خلال انسانية الثقافة . حلم بالديمقراطية والعدالة الاجتماعية ، ووقف مع حرية الرأي والتعبير وحرية الفكر، والثقافة الانسانية الجديدة وانحاز لها،واهتم بالمشهد الاسرائيلي والثقافة الأخروية،وعني بالترجمة.
حاور المبدعين اليهود وساجلهم ، وأغنى ثقافتنا الوطنية الفلسطينية بالابداعات الأدبية المختلفة المتنوعة ، لكنه استعجل الرحيل ومات بهدوء وصمت ، في قلبه غصة ، وفي جعبته من أفكار ورؤى وأحلام ومشاريع ، وفي روحه الملهمة الكثير مما لم يكتب ويدوّن في دفاتره وعلى أوراقه . أنه الشاعر المبدع وصاحب القلم الشفاف ، والمثقف العميق، والقارئ النهم، والمترجم البارع الدقيق ، والكاتب السجالي الانتقادي ، الانسان الطيب الهادئ وأحد صناع الكلمة والفكر في هذه البلاد ـ محمد حمزة غنايم (أبو الطيب) ابن باقة الغربية ، الذي تركنا وغادرنا في أواخر أيار العام 2004 وهو في ذروة البذل والعطاء لينضم الى ركب المبدعين والمثقفين الفلسطينيين والعرب ، الذين غابوا عن دنيانا ، وما أكثرهم.
تمتع الراحل محمد حمزة غنايم بموهبة أدبية فريدة وغزيرة لفتت الأنظار حقاً ، واندفع الى قراءات واسعة وعميقة في التراث والفلسفات والمعارف الانسانية والشعر العربي منذ أقدم عصوره ، ونهل من بحر الثقافة العربية وواكب حركة الشعر العالمي المعاصر. واستطاع أن يجعل من نفسه بين أبناء جيله موسوعة ثقافية في الفلسفة والفكر والأدب ، وكان من أكثر مجايليه ثقافة ودأباً في البحث والدراسة والاكتشاف . امتهن الكتابة منذ الصغر ، ونظم الشعر وكتب المقالة الأدبية والنقدية والصحافية والسياسية ، فأجاد وأبدع ، واشتغل في الصحافة ، وعمل محرراً للكثير من الملاحق الثقافية والأدبية . كما عمل في الترجمة وقام بتعريب عشرات المقالات والكتب ، أبرزها كتاب "الزمن الأصفر" لدافيد غروسمان ، و"العاشق" لأبراهيم .ب. يهوشوع ، و"الوقائع التي سطرها شعب" للمحامية والمناضلة التقدمية فيليتسيا لانغر.
وأنجز محمد غنايم أيضاً عدداً من الأعمال الشعرية الابداعية وهي :"وثائق من كراسة الدم" و"الف لام ميم" و"الموت حباً " و"المائدة وأحوال السكين" و"نون وما يسطرون" و"الغرائبي" وغيرذلك من مجاميع شعرية غير مطبوعة.
تميز الراحل "أبو الطيب" بكتابة رصينة ومتينة جادة وشفافة ومغايرة غير مألوفة ، وذات اسلوب أدبي خاص ورؤية عقلانية واضحة . وكان يكثف ويصفي وينقي ويقطر ، وكل حرف وكل كلمة لها دلالتها ومكانتها ، وتعتمد الايقاع النثري والتفعيلي وبساطة اللغة والعمق في الوقت نفسه وجاءت لغته ثرية بالمفردات والصياغات والمعاني الانسانية.
محمد حمزة غنايم كان انساناً مثيراً للدهشة، مليئاً بالغضب والنقمة ضد ما يعانيه الانسان العربي والفلسطيني من قهر وكبت وظلم واجحاف وظروف معيشية قاسية ، ومن أشد الكارهين للثرثرة الشعرية البعيدة عن الأصالة والصدق، صارخاً بأشعاره في البرية طلباً للحياة والكرامة والحرية . وفي قصائده نحس بمعاناته الشخصية والروحية والثقافية والانسانية والانتماء العميق للوطن .
أخيراً ، محمد حمزة غنايم من الأصوات التي رسخّها جيل السبعينات في المشهد الشعري والأدبي والثقافي الفلسطسني في الداخل ، ونصوصه تخلو من التصنع والتكلف ، وتتدفق بكل جلالها وقوتها وحرارتها ، ترسم للألم الانساني صورة حية متحركة ، وتترك أثراً دالاً ومحفوراً وتسبر أغوار الروح.فلروحه السلام، وسيظل قابعاً وراسخاً في عقولنا وأذهاننا وقلوبنا وفي ثقافتنا وأدبنا .. والشعراء مثله لا يموتون.
0 comments:
إرسال تعليق