بعد أن غزت الساعات الرقمية الحديثة سوق منطقة "الخشيبية" كسدت بضاعة الساعات التقليدية ذات العقارب في محل منذر الساعاتي. انعدم الطلب على تلك الساعات فخزنها منذر في صندوق خشبي في الجزء الداخلي من دكانه آملاً أن تأتيه بثروة يوماً ما متوقعاً وآملاً أن تصبح ذات طابع أثري.
تـَـفـَـقـَّـدَها ذات صباح كعادته كل شهر فهاله مشهدها. رآها مغمورة بالمياه المتسرب من سقف الدكان. راعه مشهد مجزرة قصمت ظهره. إذ كان يعتبر تلك الساعات جزءاً أساسياً من رأسماله المتواضع جداً.
حـَـكَّ رأسه بيسراه، تناول ساعة، تأملها، جففها، فكها فوجد مـُسـَنـَّـنـَـيـْـنِ صَدئـَيـْـنِ يحولان دون حركتها. هو يعلم بأنه لا يوجد في السوق مثيل لهما. صفق كفاً بكف. فكها جميعها فاكتشف بأن في كل ساعة مـُسـَنـَّـنـَـيـْـنِ صَدئـَيـْـنِ. صـَـنـَّـعَ مسننين من الحديد وثبتهما في الساعة فكانا ثقيلان على الساعة ولم تتحرك عقاربها. لم يكن متأكداً من السبب وأرجع فشله في التجربة إلى أنه لم يتعامل مع ذلك النوع من الساعات منذ زمن طويل ونسي كيفية تركيبها.
جمع أجزاء الساعة من جديد وثبت مسننين من الخشب في الساعة بدلاً من المسننين الأصليين الخربين فصارت الساعة تدور عكس عقارب الساعة. دهش واستغرب وحاول كي تدور العقارب بشكل طبيعي ككل الساعات. لم يوفق . حاول مثنى وثلاث ورباع وفشل ، وظلت الساعة تدور عكسياً . شكى همه لشقيقه عميد مخاتير المنطقة كي يساعده في حل ولكن الأخير من هواة سير سهم الزمن إلى الوراء فأجابه ساخراً بلامبالاة:
- طالما أنت أعسر لـِـمَ لا تجعلها كلها عسراء مثلك ؟ اجعل منها صرعة العصر فتعود عليك بثروة تنتشلك من فشلك وخيباتك .
غضب منذر من أخيه وانصرف من مجلسه بألم وخيبة ، ندم لاستشارته وهو يعرف بأنه لن ينصحه بما يفيده. مشى وهو يتفكر بحل لمشكلة خسارته في الإثنتين والعشرين ساعة من ذلك الطراز القديم . حك رأسه بيسراه . عاودته نقمته على أخيه حين تذكر النصيحة الساخرة ثم قال لنفسه : لـِـمَ لا أجربها ؟ وإن فشلت سأحـَـمـِّـل ذلك الطاغية المتشاوف نتيجة تبعات نصيحته .
صَنـَّـعَ منذر مسننات خشبية وركبها في الساعات الإثنتين والعشرين فصارت تدور عقاربها عكس عقارب الزمن. تمتم لذاته : والآن ! كيف سأبيعها ؟ وراح يتساءل ويفكر.
اهتدى إلى فكرة التخلص منها دون أن تنكشف أعطال الساعات بسرعة أثناء بيعها. طلى بلور ميناء الساعات بدهان يصعب إزالته بسهولة وأعلن على باب دكانه بأنه سيبيع اثنتين وعشرين ساعة ملونة بسعر رخيص عصر يوم الخميس التالي. وفي اليوم المحدد باع الساعات الإثنتين والعشرين وأقفل دكانه وغادر بلدته "الخشيبية" قبل أن يزيل الشارون الطلاء ويكتشفون دوران عقارب تلك الساعات عكس دوران عقارب الساعات العادية.
في اليوم التالي لمغادرة منذر منطقة الخشيبية هرع زبائنه المخدوعين صوب محل منذر يهددون ويتوعدون ولكن أملهم خاب حين وجدوا باب الدكان مقفلاً .
اقترح أحدهم : فلنأخذ حقنا من أخيه عميد المخاتير !
ارتفعت الأصوات : هيا إلى دار عميد المخاتير !
حين عرف العميد الخبر قال لنفسه : لقد فعلها ذلك المجنون. فـَـكـَّـر العميد في حنينه إلى زمن الماضي الظلامي والجهل والأمية وثقافة القطيع والرأي الواحد وعبادة الفرد. ابتهج في سره لجنون أخيه وراقت له فكرتة التي ستسير بالزمن إلى الخلف. عـَدَّلَ ملامح وجهه المنشرح إلى التجهم الكاذب ليخفي على مواطنيه ما يضمره لهم. ثم اقترح عليهم عرضاً :
- سأدفع لكل منكم ضعف ما دفعه لأخي ثمناً لساعته شرط ألا تخلعوها من معاصمكم .
تبادل المخدوعون، أو ما صار أهل المنطقة يسمونهم "مجموعة الساعات الخشبية" نظرات تشي بالدهشة والإرتياب من ذلك العرض الغريب ثم وافقوا عليه.
بعد مضي أسبوع من ارتداء المخدوعين لتلك الساعات بدأوا يتصرفون بغرابة ، استقال منهم عدد من أساتذة المدرسة وموظفي الكهرباء والمياه والهاتف. طالبوا العميد بحل المجلس البلدي وتحريم التعامل مع الدولة وتجريم كل من يستفيد من خدمات الكهرباء والماء والهاتف ويشاهد التلفزيون ويسمع المذياع ويركب السيارة. صاروا يـُـكـَـفـِّـرُون من يدعو إلى انتخابات حرة ونزيهة. جذبتهم قاعة دار العميد فصاروا يتسكعون فيها . وكقناديل البحر المنجرفة مع التيار أضحوا يمتثلون لأوامره وتعليماته دونما أي اعتراض أو نقاش.
أدرك أهل المنطقة خطورة مؤامرة العميد وقرروا إنقاذ الضحايا المخدوعين من مخالب ذلك الذئب الشرس. سارعوا إلى إقناع "مجموعة الساعات الخشبية" للتخلص منها ولكن دون جدوى لأن المخدوعين اعتادوا عليها وهي تهدهدهم في خدرهم وتسير بهم إلى الخلف.
بحث الأهلون عن منذر، عثروا عليه بعد أسبوع في منطقة نائية وسألوه عن الحل. قال لهم بأن ينصحوا مستخدمي الساعات بغسلها إذ حين تصلها الماء سوف تتعطل المسننات الخشبية وتتوقف الساعة عن الدوران. أردف ضاحكاً : ومن يدري ؟ قد تسير إلى الأمام. قد تسير مع الزمن وتعوض ما فات .
حاول الأهلون إقناع أفراد "مجموعة الساعات الخشبية" بفكرة تنظيف الساعات بالماء ولكن المجموعة رفضت. حينها قرر الأهالي تنفيذ خطة اتفقوا عليها سراً فيما بينهم. جلس بجانب كل فرد من المخدوعين رجل قريب له وفي لحظة واحدة متفق عليها أمطروا الساعات بالماء فتوقفت وصحا المخدرون من غيبوبتهم فأغمي على عميد مخاتير المنطقة. وسارت عقارب الزمن إلى الأمام.
0 comments:
إرسال تعليق