كلمة الدكتورة نجمة حبيب في حفل توقيع كتاب المربي جورج الهاشم

خارج السرب: كشف جريء للذات العربية 
سيداتي آنساتي سادتي  أيها الحفل الكريم. 
يشرفني في هذه المناسبة ان ألقي الضؤ على بعض مضامين هذا الكتاب المميز الذي نحتقل يإطلاقه هذا المساء، عنيت به مؤلف خارج السرب للأستاذ جورج هاشم. ومنعاً للإطالة والتكرار فإن ورقتي ستكتفي بعرض سريع لقيمة الكتاب الإبداعية ولرؤيته الأساسية التي دارت حول أزمة الذات  العربية وما فيها من شروخ وثلوم تعطل مسيرة تقدمنا الحضاري.   
أجمل الكتب هو الكتاب الذي يُقرأ من عنوانه. وخارج السرب عنوان مقتبس من مثلٍ عربي هو: "طائر يغرد خارج سربه". وهو قول ملتبس. قد يقال في معرض الذم لما فيه من اعتزال وخروج عن الجماعة، ويقال أيضاً في معرض المدح لما فيه من ثورية ومشاكسة وخروج عن المألوف. 
فهل ثار وشاكس استاذ هاشم وخرج عن المألوف الممجوج وإلى أي حد؟ 
لا تتطلب الإجابة إعمال فكر. مجرد تصفح سريع لعناوين النصوص تنبئنا عن ماهية الكتاب. 
المألوف في هذه الأيام هو الفردانية والقوقعة على الذات والخوف من الآخر (كمثل ما هو حاصل في الموقف من لاجئي القوارب مثلاً). ونصوص خارج السرب عكس ذلك تماماً فهي متمردة خارجة عن المألوف، تقول ما تريد قوله بجرأة  خلاقة. والجرأة الخلاقة، هي عندي الجرأة الهادفة التي تسعى إلى التثوير والتحريض والتنوير، والتي هي عكس الهجاء الذي يشوِّه ويحقد ويشتُم. مثلي على ذلك مقالة: "لماذا جائزة جبران لرادوك". في هذه المناسبة، مناسبة منح الوزير السابق فيليب رادوك جائزة جبران خليل خبران التقديرية العالمية للإيداع، كان التيار العام يساير رجل السياسة اللامع، صاحب الاسم الرنان. اللجنة تمنح. والإعلام يشيد ويمدح، والجمهور يؤيد ويصفق، وجورج هاشم يخرج عن الجماعة يسائل وينتقد ويدعو إلى سحب الجائزة من الوزير فيلب رادوك. وفي انتقاده لم يكن متجنياً ولا شاتماً، وإنما جريئاً يضع النقاط على الحروف ويدعم رأيه بالأدلة والبراهين. وقد ذكّرنا بما نسيناه من مواقف وصفات لرادوك لا تليق باسم جبران وجائزته العالمية. وإني لأعتقد أن المقالة حققت غايتها: لقد حرك هاشم مجتمع الرابطة ونشّط ذاكرة أعضائها وكشف مستوراً كان غائباً عن ذهنهم. وأني لأعتقد أنهم بعد اليوم سيتريثون كثيراً قبل منح جائزتهم. 
إن أكثر ما يميز هذه النصوص هو جمالية السرد وإبداعه. فالمقالة عادة نص مستعجل
 يهدف إلى الإخبار ويتغاضى عن القيمة الفنية للعمل. أما مع نصوص خارج السرب فإننا نستشعر الإثارة ولذة الإدهاش والإمتاع كأننا نقرأ متخيلاً أدبياً فيه كل مقومات الجدة والأصالة: فيه السخرية التي هي (على حد تعبير ميلان كونديرا) بريق إلهي يكتشف العالم بالتباسه الأخلاقي، والإنسان في عجزه عن ان يحكم على الآخرين. وفيه الصورة الكاريكاتورية التي ترسم بالكلمات شخصيات ومواقف وحالات تخاطب حواس القارئ وتثير خياله من خلال التلاعب بملامح الأشخاص والأشياء والحالات. 
نقرأ نص "الجندي الاسرائيلي المختطف في غزة"، فنشعر أننا امام قصة أدبية مبدعة. فيها الخيال النشط والعاطفة الصادقة المترفعة عن الابتذال، والصورة الشعرية المكثفة الثرية الدلالات. وفيها استخدام للاسلوب الحداثي المتمثل بتيّار الوعي، وهو أسلوب يمكن الكاتب من الغوص في أعماق شخصياته ومكنوناتها الداخلية وما فيها من رفعة وضعة.  
"شاؤول آرون في الواحدة والعشرين من عمره. لا شّك فرح به أهله حين بشروا بمولده. فرقوا الحلوى رغم اشتهارهم بالبخل. ربوه "كل شبر بندر" سهروا عليه الليالي، أدخلوه أحسن المدارس. علموه أن بيت الفلسطيني بيته. . . أليس لكم أولاد في عمر شاؤول؟ أم أن أمثال شاؤول لا يدعون أطفالكم يبلغون هذه السن؟ لماذا لا تطلقون سراحه ليواصل أنشطته على الأرض. وما هي هذه الأنشطة ؟ تهديم منازلكم؟ مدارسكم؟ مستشفياتكم؟ أحيائكم السكنية؟ تفجير أطفالكم؟ شيوخكم والنساء؟ ما هذه التفاهات مقارنة بحرية الإنسان؟" (53). 
لا يسمح المجال بشرح مُفصّل للقيم الفنية الموجودة في هذه الفقرة، ولكنني أدعوكم لمقارنتها بقصة مشهورة لغسان كنفاني بعنوان "إلى أن نعود" التي يعتبرها الباحثون ملحمة من الملاحم الإنسانية البارعة.  
ليست هذه الفقرة إلا مثل صغير من عشرات الفقرات أمثالها أترك لكم متعة اكتشافها.
الفكر الشائع في ثقافتنا أننا عندما نريد ان نثني على جهد أو فعالية فإننا نصب اهتمامنا 
على الأسماء البارزة: قادة العمل ورؤسائه ورعاته. أما أن نتوّجه إلى أصغر خيوطه، فهذا شيء لم نعهده في فعالياتنا. أما في نص "ميراث في البال... أم وسام على صدر الجالية". فالكاتب يتوجَّه إلى كل طفل وطفلة ساهم في المهرجان. إلى الجنود المجهولين، إلى ربات البيوت الأمهات اللواتي وقفن وراء العمل ودعمنه بصمت.  وهو عندما أتى على ذكر الرؤوس لم يتطرق للأفراد بل للجماعات. للجنة المهرجان. للمدرسين ككل. للمدارس ككل... وهكذا. ولم يأت على ذكر الأسماء الفردية ألا لماماً وبكلمات قليلة خجولة.
          هذا في الشكل. اما في المضمون فالكتاب محكوم برؤية تثويرية تحريضية. فالاستاذ هاشم يكشف بجرأة عن الشروخ المتأصلة في الذات الجماعية العربية. وهو يتحسس صادقاً هذه الشروخ في كل قطر وكل شريحة وكل طبقة: من لبنان إلى العراق إلى مصر إلى سوريا، ففلسطين، فدول الخليج وليبيا والسودان. ويتناول مختلف الميادين السياسية والاجتماعية والوطنية. يضع يده على الجروح الأشد نجاسة: الطائفية والمذهبية والإقليمية والطبقية، فيكشف عن قصور الذات العربية في مسايرة الركب الحضاري فهي لا تزال تعيش بعقلية القبيلة وتتكلم لغة العماء التي هي حسب غسان كنفاني لغة القمع والتضليل والإقصاء.  
ففي نص: "وإن زنى وإن سرق" خرج هاشم عن الخطاب السائد في هذه الأيام في مجتمعنا الأسترالي الذي ينسب العنف والتخلف للإسلام، فجزم أن هذا الحديث مدسوس على الإسلام بدعوى أن النبي محمد صلى الله عليه وسلم، جاء بثورة على كل قيم الجاهلية. وجزم هاشم أن هذا الحديث امتداد للعقلية القبلية التي كانت مسيطرة في الجاهلية حيث كل شيء مبرر لمصلحة القبيلة: الكذب الخداع، نكس العهود، نقض المعاهدات، الوشاية، الحرب النفسية... ومن ناحية أخرى نوّه إلى طمس آخر لعقوبة الزنى في الإسلام. أبرز المنظرون العقوبة التي تطال المرأة وتغاضوا عما يطال الرجل. وهذا أيضاً شرخ في الذات العربية التي تراجعت عن الركب الحضاري الذي كانت سائرة فيه في ستينيات القرن الماضي فاغمطت المرأة أبسط حقوقها ورجعت بها القهقرى إلى عصر الانحطاط والحريم. 
نردد في مجالسنا وعلى المنابر وفي المناسبات الاجتماعية عبارات توحي أننا قوم متجانسون 
منسجمون مع بعضنا البعض: كلنا إخوة: كلنا عرب. كلنا مسلمون. كلنا أبناء حوّا وآدم، أما على أرض الواقع فنحن متقوقعون على الطائفة والقبيلة والطبقة الاجتماعية. مأزومون في هويتنا، ضبابيون في انتمائنا. التقط جورج هاشم هذا الشرخ وأبرزه في العديد من النصوص, ساكتـفي باثنين منها منعاً للإطالة: 
"الذكاء اللبناني؟ فضحونا فضحهم الله". وفيه يقول على لسان لجنة بحثية دولية: 
تنقلت اللجنة من النهر الكبير شمالاً إلى أقصى الجنوب، ومن الساحل إلى الجبل والبقاع، فلم تجد من يقبل بالمشاركة على أنه لبناني. فهذا محسوب على سوريا وذاك على افغانستان وأخرى على "فغنسا"، ورابع على أميركا وخامس على امير مؤمني داعش او النصرة، وسادس استبعدته اللجنة لأن زيّه أو لحيته أو إيمانه يدل على أنه باكستاني أو أفغاني أو شيشاني. وسابع اجاب أنّه من ولاية الفقيه وهو يقيم مؤقتا في الدولة اللبنانية. وتاسع لاجئ بدوام كامل أو لاجئ بدوام جزئي و و و الى آخره. 
وإن كان هاشم قد خص لبنان أكثر من غيره في هذا النوع من المقالات، ولكنّه لم يهمل ولم يستثن الأقطار العربية الأخرى من الفضيحة اللبنانية. نأخذ مثلاً مقالة: "عيد بأية حال عدت يا عيد" التي تستعرض أزمة المواطن المصري والعراقي والسوري والليبي والجزائري والسوداني والفلسطيني فاذا حالهم ليست باحسن من المواطن اللبناني. ففي مصر أم الدنيا لا زالت نواطير مصر نائمة عن ثعالبها. وفي فلسطين نزاع مخزٍ على شبه سلطة مكبّلة بالاحتلال. وفي العراق استئصال أقليات ومعارك مستمرة بين علي معاوية، بين الحسين ويزيد. دولة كردية، دولة شيعية، دولة خلافة. وفي سوريا، انحصرت المعارضة الشريفة بين مطرقة النظام وسندان الارهاب. وفي ليبيا يتقمص القذافي بالمئات. والجزائر يحكمها عاجز، وكأن بلد المليون شهيد نضبت من الاحرار. وهكذا... 
والمغتربون العرب في أستراليا ليسوا أفضل حالاً من إخوانهم في الأوطان الأم. فهم رغم مناخ الحرية والديمقراطية والمساواة الذي يعيشون فيه لا يزالون في دواخلهم دكتاتوريين وعنصريين وطبقيين وطائفيين. أترك لكم مستمعي الأعزاء فرصة اكتشاف هذه الرؤى والاستمتاع بها لدى قراءتكم لهذا الكتاب المميز      
    هذا غيض من فيض مما جاءت به نصوص كتاب خارج السرب
لقد أثلج هذا الكتاب صدري وأبرأ سقمي ورأيتني أقول: إن عقلاً نيراً وطاقة ثقافية واعية مسؤولة موجودة بيننا كأستاذ هاشم، لعلامة أن دنيانا بخير وربيعنا العربي لا بد له أن يزهر.  

نجمة خليل حبيب 
سدني استراليا 
‏2015/07/06           

CONVERSATION

0 comments: