منذ اسرج الليل خيوله، ايقظته الغربة على اوجاع لبنان الطويلة، صارخًا أين داري؟ أين لبناني؟
أجل، افزعته الغربة على سؤال ٍ: من يداوي الجرحَ في صدر زغرتا؟ ومن يُنير عتمة الظلام عن دروبِ اهل لبنان؟
بنى للصمتِ مذوذًا وشيد للكلمة الثائرة قلاعًا لئلا يبقى ليل لبنان بلا صباحات. علّق الحبرَ أقلامه في سقف الليل، لينير سكون الظلمة، لأن إشعال شمعة واحدة خير ألف مرّة من الصمت في لعنة الظلام، فكانت ومضات كلماته قناديل تنثر الأضواء. ترك ابجديته تهذي، فامتطى جواده واستل سيف الكلمة، فكان الحق، وما اجمله في عباراته والحق يقال، بعد أن غدت حرفته الكلمة، وأمسى عمله إطفاء نيران الساسة التي أضرموها في ملكوت الأرض لبنان. فعبرَ ينابيع ذاته وامواج قلمه اطاح بخفافيش الظلام.
غارقٌ هو في أزمنة الأمسِ الجميل الذي يبدو أنه مضى بِلا رجعة، فاتحًا الذراعين ليحلق في الهواء نحو الارز في لبنان، صارخًا من يعيدني إلى مرابع صباي، فزغرتا لم اعشق عروسًا سواها. بكى بلده بكلمات في خواطره " في كل الأحوال..لبنان في البال" ( خواطر وأحلام ص 60). فلطخت أحزان بلده بياضات الورق في كتابات باحت عمّا يجول في الأعماق، يوم غدا حنين قلمه في ليالي سيدني إستغاثات، بل قُل تؤامًا ملازمًا لصيحات الناس يزامل صباحات لبنان. وكيف لا؟ فهل يُسائل الطين عن دموع التراب!.
طغت السياسة وشؤون بلاده على كتباته باللغة العامية، فشغلت حيزًا ليس بالقليل منها، هو الذي اطلق العنان لحنجرة قلمه ليدون للجميع صرخة من مرافئ غربته الطويلة : لبنان سلّم، وقُل لشعبي أبدًا دموع المحبة والإشتياق غدت قممًا. في صراخه ذاك سمعت صدى أنينه، فكانت صرخات صامتة لاوجاع في غربة لا متناهية.
حلق خارج السرب وسبح عكس التيار بعد أن رصد قلمهُ على حكاية فجرٍ جديد، علّها تمحو الخطيئة الموروثة لحكام لبنان، لتزرع الفرح على شبابيكِ الناظرين. صارخًا مع المنتظرين: لسنا بحاجةٍ إلى حُكام بل إلى حكماء مقتدرين، يوم غدت الأوطان حالكة الظلام بَلا قمر ولا نجوم... فالمصير واحد منذ أن عانقت النخلة العراقية الباسقة أرز لبنان الشامخ. ولا زال الشعور ذاته يُخالجني بأن كلا الصرختين استغاثات، كاستغاثات السفن قبل الغرق!
اوحت لي صورة غلاف كتابه الأخير بجبران الالف الثالث، له ملامح وجه تنطق بخريطة حياة مفعمة بجلجلةٍ طويلة، متحدثة عن شخصيةٍ متمردة إزاء ظلم وأباطيل الساسة، يغلفها تواضع المحبين، فنصح واحدهم ( الساسة) بأن يكون خبيرًا لا مخبرًا، رسول محبة وسلام، لا مرسالاً لابوام الشؤم، وعظيمًا بين أبناء جلدته لا مُعظّمًا.
كتابته تروي ذاته للقرّاء، واقفًا امام مرايا الآخر مستفسرًا لا حاكمًا. أوَليس هو من دوّنت انامله تلك الحكمة الذهبية:" أصدق أنسان هو من يعاتبك في حضورك، كونه يمنح نفسه فرصة معرفة الحقيقة".
إنه سركيس كرم الذي عرفته متأخرًا، فقرأت له ممّا قرأت، وزاملته في امسيات ثقافية كلّما سنحت الأوقات، فادركته متواضع النفس، دمث الأخلاق. ولمست فيه ذلك الشخص الهادئ الرزين الذي يجمع بين الأصالة والمعاصرة، وبين بلده الأم ووطنه في المهجر إذا جاز التعبير، وعرفت عنه ايضًا أنه مسيحي ماروني، ملتزم يقرأ ويتحدث ويعمل بلغة المحبة مثلما يقرأ كلمة الإنجيل في كتاب الحياة بالعربية والإنكليزية. وهو أيضًا مثقف عصري، منفتح على كلّ ما هو إنساني وراقٍ .
أدرك سركيس نعمة الحياة في زغرتا – لبنان الشمالي عام 1959 ، من أبوين حنّا طنوس كرم و زكيا طنوس الطبيش، فضلاً عن زوجة لبنانية فاضلة ارتبط بها بزواجٍ ابدي مُقدس عام1981 وكان اسمها صابات طنوس أبشي، ثم أنجب منها ثمار حبّهما: حنّا وزكيا وماركوس وميراي. لديهما اليوم 3 احفاد، هم: ديستني حنا كرم، أناليز وإيزابيل هوتزنغر.
تطوع في كتيبة "لبيك يا لبنان" – لواء المردة الزغرتاوي عامي 75-76 ثم هاجر من لبنان إلى استراليا عام 1977، ودبج أولى مقالاته هناك في نفس العام في صحيفة التلغراف عن الكتب العربية في سيدني. حائز على ديبلوم وإجازة جامعية من جامعة غرب سيدني في الترجمة الخطية وديبلوم في الترجمة الشفهية. كما وله شهادة في الصحافة من الأكاديمية الصحفية في سيدني.
حبر قلمه مئات المقالات باللغتين العربية والإنكليزية أبتداءً من عام 1977 إلى يومنا هذا ونشرها في عدة صحف أبرزها: التلغراف، النهار، الهيرالد، البيرق،المستقبل،الأنوار،الشرق، صدى لبنان،العالم العربي، الشرق الاوسط ،صوت لبنان وعدد من المجلات والمنشورات والمواقع الإلكترونية. . كتب في الشأن الوطني اللبناني والفلسفة والروحانيات وشؤون المجتمع.
خدم في الجمعيات والمؤسسات التالية في سيدني منذ 1977: رابطة آل كرم (مسؤول الشؤون الإعلامية)، جمعية بطل لبنان يوسف بك كرم الزغرتاوية (أمين سر وعضو ادراي) ، نادي مار يوسف زغرتا ( من مؤسسي النادي، أمين سرّ. لاعبًا ومدربًا)، الجامعة الثقافية اللبنانية (عضو ادراي)، الرابطة المارونية (عضو ادراي)، التيار الوطني الحر (أمين عام فيدرالي)، التيار السيادي (من ممثلي التيار الوطني الحر)، الحركة الثقافية اللبنانية (عضو مؤسس) ، تيار المردة (مسؤول الشؤون الإعلامية). رئيس جمعية بطل لبنان يوسف بك كرم الزغرتاوية في استراليا للأعوام 2011، 2012، 2013 .
كما وعمل في مهنة الصحافة وتحديدًا في جريدة "الهيرالد" اللبنانية في سيدني كعضو في أسرة التحرير من 1997 حتّى 2004.
ومنذ عام 2004 إلى عام 2006 كان يستعد للدخول في عالم تأليف الكُتب ونشرها، فأصدر اربعة مؤلفات:
يوسف بك كرم، الأمير الثائر بالانكليزية 2006
تجربتي مع التيار – لبنانية لبنان 2010
يوسف بك كرم أمير الأبطال بالعربية والأنكليزية 2013
خواطر وأحلام من غربة لا تنتهي 2014
وقد حصد العديد من الجوائز في مشواره الواطني والأدبي، ولعلَّ ابرزها:
شهادة تنويه من برلمان ولاية نيو سوث ويلز -اوستراليا بكتاب "يوسف بك كرم أمير الأبطال” 2013
درع القنصلية اللبنانية في سيدني تقديرًاً للأعمال الفكرية 2010
جائزة الجامعة الثقافية اللبنانية في نيو سوث ويلز الأدبية 2010
جائزة لأفضل بحث بالعربية من جامعة غرب سيدني 2011
درع جمعية بطل لبنان يوسف بك كرم الزغرتاوية في استراليا للعامين: 2006 و 2012
ميدالية اللجنة الأولمبية اللبنانية 2000
شهادة تقدير لتغطية أولمبياد سيدني من اللجنة المنظمة 2000
رجل العام في نادي مار يوسف زغرتا سيدني 2002
شهادة تقدير من حركة شباب زغرتا الزاوية 2013
درع متحف يوسف بك كرم في زغرتا 2013
إنه سركيس كرم أبو حنّا ذو القلم اللمّاح الذي تلمست عبرَ صفحات كتبه ومقالاته تلك الإنسيابية الفكرية النابعة من ثورته وتمرده على العادات والتقاليد التي عفا عنها الزمن وعلى الأمراض الإجتماعية السائدة وعلى رعونة الحكام، فسرق ذاته ليُعلق خواطره أيقونات على سواري الآفاق، بعد أن ايقطه الضمير على وجعِ إنسانية مستلبة في مجتمعٍ اتعبه الساسة المتصارعين على كراسي الحكم، وفي بلدٍ انهكته الحروب ومزقه تعدد الأحزاب والتيارات؛ بلد اسمه لبنان، فهرع ليضمد جراحه بدفءِ سطوره وحنين معانيه، فدُرر الكلام ما ابهاها لديه، بعد أن رسم بالكلمة صورًا إنسانية عن واقع معاش لا تضاهيها ريشةُ جبران يوم أمتهن الرسم.
يتمتع بدائرة معارف واسعة اهلته ليكون شخصية مرموقة من شخصيات الجالية العربية في المهجر الأسترالي، فهو رجلٌ مستقيم الخلق، وطني النزعة مع انفتاح شديد ومعتدل على المجتمعات الغربية وتياراتها الفكرية الحديثة. كما ويتميز أبو حنّا بالجرأة في قول الحق والصراحة في أبداء الرأي السياسي والوضوح في المواقف، والطيبة في السلوك.
ولا أنسى يوم أن دق هاتفي الشخصي المحمول( الموبايل) فإذا هو صوت سركيس يتحدث إليَّ في خلق رفيع ولهجة راقية، مستفسرًا عن تاريخ إطلاق كتابي ( أحاديث قلم) بعد أن نشرت صحيفة التلغراف الغرّاء مشكورة إعلان حفل توقيع الكتاب بجانب إعلان توقيع كتابه الموسوم( خواطر وأحلام من غربة لا تنتهي) الكتابان كانا سيصدران في يوم الأحد 21/9/2014 ممّا دفعني لتقديم حفل إطلاق كتابي إلى يوم الجمعة 19/9/2014. وإن نسيت فلا يسعني نسيان مداخلته الجميلة على مقابلة اجرها معي الإعلامي والأديب الكبير شربل بعيني في تلفزيون الغربة بتاريخ 17/9/2014 حيث كتب:" كم يحتاج الوطن العربي الى الكثير من أمثال الأب يوسف الجزراوي.. هذا الأديب الذي يحمل رسالة الإيمان والمعرفة بإمتياز..أدامكم الرب أبونا في مسيرتكم الرامية الى نشر الوعي والمحافظة على القيم الحضارية..". وكان له طلة مشابهة في حفل توقيع كتابي المشار إليه مسبقًا؛ حيث دخل قاعة الحفل وجلس في المقاعد الخلفية بكلّ تواضع وفي أدبٍ جم، رافضًا الجلوس في المقدمة.
ولا أنسى اشادته بشخصي وبالوفد العراقي الذي كان حاضرًا في حفل توقيع كتابه (غربة لا تنتهي) خلال كلمته التي تحدث فيها بالعامية اللبنانية، ثم فاجئني فيما بعد يوم شرفني بإعداد خلاصة موجزة كانت حصيلة قراءة عميقة لكتابي (احاديث قلم) ونشرها في موقع الغربة والصحف اللبنانية.
جمعتني بالكاتب الموهوب سركيس كرم لقاءات قليلة وقصيرة، لكنها عميقة المحصلة وثرية الخلاصة، كان اخرها في حفل تأبين العملاقين صباح وسعيد عقل، فوجدته حادًا وجادً، بسيطًا وعميقًا، متواضعًا رغم اعتزازه بنفسه.
تحيةً لذلك القارئ النهم والكاتب الانيق، والزميل الجميل الذي يتمتع بلسان عفيف وضمير مستقيم واعمال تتحدث عنه في غربته التي لا تنتهي، وقد جسدَ تلك الصفات في كتابه الآخير يوم خط قلمه للقرّاء: " في غربة لا تنتهي نعيش لبنانيتنا في أوستراليا، ونعيش أوستراليا في لبنان". " ما يشهد عليه الضمير هو أدق بكثير من الكلام، لذلك دعوا أعمالكم تتكلم".
من بليغ الافكار ادركت في كلماته المنطوقة والمكتوبة، شذرات عن خواطر فكره وخلجات لمعت في ذاته، عرضها للذات وللناس أجمعين، جاءت من ينابيع الذات ومسارات القلم في مرايا الذات والمجتمع، لتعكس وميض الفكر والقلب وعوالم كاتب كتب بلغة إنسانية دون أن يكترث لابجدية اللغة ، لكنها لغة جميلة، منبهة عن اخطاء ساسة وأحزان بلد ومحنة شعب، جعلته في ترحال يكاد لا ينتهي.
إنّه سركيس كرم الكاتب والانسان الذي لا يتكلّف ألفاظه، ولا يدّعي نبوّة الكلمة، الذي كتب عن قضايا مهمة من تلك المسكوت عنها، فكأن ولاءه للقارئ يدعوه إلى كشف المستور السياسي فناقش العيوب في مجتمعه وتصدى للأمراض السياسية في شجاعة مباشرة تؤكد أنَّ ذلك الكاتب يستخدم مساحة الحرية المتاحة إلى نهايتها ويتابع في رصد أمين كلّ ما يدور حوله لبنانيًا ومهجريًا. لا تشعرُ معهُ إلا بالبساطة، يحدثك دونَ ترفع أو تعالٍ رغمَ أن تقاسيم وجههِ توحي لك بالحدة والشدة. كتبت هذا لاقول له: لقد استقيتُ من ينابيعِ مؤلفاتك وحضورك بجانبي، هذه الصفحات. لكنني أدعوك كقارئ بالإبتعاد عن دمج اللغة الفصحى بالعامية في كتابٍ واحد.
أتعلم يا سركيس أنني أقرأ للكثيرين من اللبنانيين في المهجر الأسترالي بدءًا بكبيرهم شربل بعيني وصولاً إلى أبن زغرتا البار سركيس كرم. تحية إليك وإلى كلّ الشرفاء في لبنان والعراق واستراليا، تلك البلدان المعطاءة.
2 comments:
أبونا يوسف الجزراوي..
تعجز الكلمات عن التعبير عن مدى تقديري لكلامك الرائع الصادر من قلب مسيحي كبير بوطنيته وفكره وإنسانيته.. أدامكم الرب يسوع بهذا العطاء والإبداع والتألق والمحبة.. تحياتي وشكري لشخصكم الكريم وقلمكم الحر المشع بالكلمة التي تنير الدرب وترشد وتعلم.. كلامكم أوسمة أعلقها على صدر أفكاري.. وصداقتكم أخوة أعتز بها وأكبر..
مع احترامي ومحبتي وتقديري.. - سركيس كرم
عميق الشكر للأستاذ سركيس كرم اشادته بالمقال.... متمنيًا له المزيد من الإبداع والتقدم في حقل الأدب.
وكما أسدي عميق شكري إلى استاذنا الكبير شربل بعيني عميد الأدب العربي في المهجر الأسترالي على ما يقدمه لنا من كتابات خلاّقة وعبرَ موقعه الذي اثرى المشهد الثقافي العربي استراليا.
محبتي للجميع
الأب يوسف جزراوي
إرسال تعليق