لقد اقتحمت المرأة العربية عالم الكتابة من أجل فرض ذاتها كأنثى لها الحق في ممارسة حريتها مثلها مثل الرجل و استعادة موقعها من اللغة للتعبير عن مواقفها داخل مجتمع عربي لا يزال يتخبط في الفوضى السياسية و الدينية و الاقتصادية و الثقافية الى يومنا هذا.
من هذا المنطلق تستوقفنا روايات الجزائرية مليكة مقدم عموما التي تقدم إجمالا تلك التأثيرات السلبية على أفراد المجتمع من خلال جملة شخصياتها التي تحاول الخروج عن صمتها لتبحث عن هويتها المفتقدة بحرية مطلقة، و هو ما عبرت عنه البطلة "سلمى مفيد" في رواية "أدين بكل شيء للنسيان" بوسيلة يصعب تجاوزها أو استبعادها للعودة إلى الماضي البعيد ألا و هي النسيان.
كلنا يفهم معنى النسيان كونه أمرا لم نعد نذكره أو نذكر صورته على عكس بطلة رواية مليكة مقدم التي بات النسيان يعاندها، لتبقى سجينة لذكريات الماضي الأليم و مشاهد من مرحلة الطفولة مليئة بالأسى و القهر لم تستطع تجاوزها حتى بعدما أصبحت مغتربة في فرنسا.
إن سعي البطلة "سلمى" إلى إعتاق نفسها من تلك الذكريات بفعل السرد الروائي، يعد خطوة جديرة بالتقدير تتجلى فيها صورة المرأة المسكونة بهاجس التمرد شأن المبدعة مليكة مقدم حيث صنف النقاد روايتها "أدين بكل شيء للنسيان" في خانة السير الذاتية. لكن هناك من يرى بأن الرواية هي الأصل كجنس أدبي و السيرة الذاتية فرع لا يكاد ينفصل عنه، حتى أن بعض النقاد يعتبرها مقاربة ينصهر فيها الواقع الإجتماعي العام بتجارب حياة الأديب الذاتية لتصبح منظومة سردية تلتقي في معمارها الفني بالرواية.
و بناء على ذلك نجد مليكة مقدم لا تولي أهمية للحواجز الفاصلة بين الذاكرة و الحياة، فكل ما عبرت عنه في عملها الأدبي "أدين بكل شيء للنسيان" له أوثق الروابط بالذاكرة على نقيض قصدية العنوان حيث يكاد ينتفي المتخيل الذي يشتغل بهدف إعادة كتابة الحياة كتابة مجردة عن الذات.
إن وجود شخصية الطبيبة "سلمى مفيد" في هذه الرواية ليس اعتباطيا و إنما استخدمتها الروائية مقدم كوعاء لحمل أفكار معينة تريد إيصالها بذكاء الى القراء و أكبر مثال على ذلك هو تلك الحادثة الفظيعة التي بقيت ملتصقة بجدار الذاكرة حيث تقول الساردة: "ألصقت سلمى وجهها بشرم ما بين الألواح الخشبية على أهبة مناداة الأم. لقد بهتت إذ أبصرتها تشد وسادة و تضعها على رضيع زهية، البنت الصغيرة لا تعرف شيئا عن الموت، لا تدرك مغزى هذا الفعل، لكن العنف استولى عليها مباشرة فابتعدت متراجعة." (ص 14). وجدت هذا المقطع يذكرنا بإحدى مشاهد المسلسل المصري "ريا و سكينة" المأخوذ عن كتاب "رجال ريا و سكينة" للمبدع صلاح عيسى حين تقف الطفلة "بديعة" مبهوتة و هي تشاهد جريمة القتل من خلال ثقب الباب التي يقوم بها والدها و رجال أمها "ريا" و خالتها "سكينة".
حادثة رؤية "سلمى" لخنق ذلك الرضيع الذي كان سيحدث زلزالا لجلب العار للعائلة ظلت تزاحم البطلة لتعود بعد سنوات لإسترجاعها و النبش في خلفياتها حيث تقول الساردة متساءلة: "كم هو عدد الأطفال غير الشرعيين الذين خنقوا في هذا البلد؟ في سبيل فداحة إكراهين متعارضين: الاختلاط و الكبت الجنسي. يقين مخيف تدخل ليرصص أكثر ليل سلمى بعدد السكان الذي تضاعف أكثر من ثلاث مرات منذ الاستقلال، النزوح الريفي الجماعي، الإفقار، نقص المساكن الذي يجعل عدة أجيال من عائلة واحدة يتراكمون في مساحات ضيقة. لا بد أن الجزائر تحطم الرقم القياسي في زنى المحارم و قتل الأطفال." (ص 49-50).
و رغم إحساس القارئ أثناء قراءته لهذه الرواية بأن المبدعة مليكة مقدم كانت تسرد جزءا من سيرتها الذاتية لكن لم تقتصر على ذلك فقط بل تحدثت عن معاناة الشعب الجزائري من خلال تقديم معطيات دقيقة عن تفشي الآفات الإجتماعية كقضية الأطفال الغير الشرعيين و زنى المحارم و غيرها من المواضيع الحساسة و الشائكة في آن واحد لا تزال مرفوضة الطرح و المعالجة في مجتمعاتنا العربية.
من خلال جملة هذه الموضوعات التي عالجتها الروائية مليكة مقدم في مجمل رواياتها و بشكل خاص في "أدين بكل شيء للنسيان" تخترق الخطوط الحمراء بتناولها مضوع الشذوذ الجنسي و الحالة النفسية التي تعاني منها هذه الفئة المنبوذة من المجتمع العربي عموما و الجزائري على وجه الخصوص من خلال شخصية "فومي" ابن العائلة الثرية صديق البطلة "سلمى" التي تتعاطف معه لكونه منبوذا من وسطه الإجتماعي حيث تقول الساردة على لسانه: "تخليت عن والدي ليتوقفا عن التفكير في تزويجي لأشعر بالراحة. أنا لواطي. هل أقول لوالدي المتخلفين، سواء كان ثريين أم لا: لن أتزوج أبدا أنا لواطي؟." (ص 20).
لقد استطاعت الأديبة مليكة مقدم تصوير حالة هذا الشاذ بإمتياز من خلال التمرد على كشف المستور و الإبتعاد عن شهوة الصمت كونها تناقش قضية هامة متفشية في المجتمع العربي اليوم و لم تعد منحصرة في العالم الغربي المتفتح بآراءه المختلفة و الصادمة في آن واحد على خلاف العالم العربي الذي يفتعل تمسكه بمفاهيم دينية لا تجرؤ على فتح باب المناقشة و الحوار على حد تعبيره.
إن تناول الروائية الجزائرية مقدم لمواضيع الجسد و الجنس مجرد إشكالية من جملة الإشكاليات المطروحة في حياة الفرد (ذكرا أو أنثى) و المجتمع، فهما يمثلان علاقة من مجموع العلاقات التي يتفاعل معها السارد و القارئ معا، سلبا أو إيجابا، بإعتبارها إفرازا طبيعيا للمجتمع الذي نعيش فيه.
احتل الفضاء المكاني في رواية "أدين بكل شيء للنسيان" حيزا مهما في سرد الأحداث، حيث اعتمدت الكاتبة مليكة مقدم على ثنائية (القرية-المدينة) أين تتمازج الوقائع بداخلها بإمتياز فمثلا نشهد حضور الصحراء، وهران، الجزائر العاصمة، قرى و أرياف أخرى تكشف للقارئ بؤرة الصراع الذي عاشته البطلة "سلمى" و رؤيتها لفضاء القرية، و رغبتها في إقامة علاقة حميمة مع فضاء المدينة من خلال الإنتقال إليه و العيش فيه. و هذا الأخير إختارته الروائية بذكاء كونه فضاء حضري مفتوح على صراعات و مجالات سياسية و فكرية و اجتماعية و ثقافية ستلقي بظلالها على الشخصيات و الأحداث بشكل عام كما تعود الساردة مرة أخرى للتساؤل: "و لكن كيف نثق بكفاية ديمقراطية حقيقية، بتعليم نوعي يطور العقل النقدي، بالحريات و المسؤوليات التي تنتج عن هذا الفضاء على مصدر الظلامية في الناس؟ حدث عنف كبير هنا دون أن تقتص العدالة. صدمات نفسية كثيرة ما تزال خبيئة، ما تزال مخفية." (ص 56).
و بينما يأتي الزمن الماضي متناوبا مع الزمن الحاضر في هذا العمل الأدبي حيث استعانت الروائية بتكنيك الإسترجاع إجمالا و هذا ما يؤكد أهمية الذاكرة في صياغة النص السردي على خلاف الحالة التي تفصح بها في العنوان من جهة ما تدين به للنسيان الذي تتحايل عليه الذاكرة ليجد القارئ نفسه مستسلما للقراءة أمام عملية التذكر و المحكي الذاتي للروائية الفرنكوفونية مليكة مقدم.
0 comments:
إرسال تعليق