الفرير غبريال وقبعة باريس/ انطوان السبعلاني

الى معلمي بمحبة: 
- 1 - 
ليلة قرأت صلاتك للمرة الأخيرة، وانت ترحل من ها هنا الى دنيا الحق والجمال، مخبئاً في ثوبك الأسود اللون، ورداً أبيض، وحباً وشعراً... في تلك الليلة صلّيت انا للقديس (دو لاسال) ليضوي دروبك في عتمة المطاف
 ولسيدة سبعل، أنا صلّيت! 
ثم بكيت لأنني لم أنعم بوقفة أخيرة بجيرة سريرك، ويدي بيدك! 
فالتسليم على الرجال حدث، زمان عددهم قليل! 
وأبوس يدك، يا معلّمي، فيمتلئ صدري من شميمها، ومن عبقها.
 تلك الليلة، يا أخي (غبريال) هبّت عليّ الذكريات الألف، وإذا بي في معهد الفرير ، طرابلس. 
في الصف أنا، في الملعب الكبير، المسرح الكبير، عهد المدير الكبير! 
تلك الليلة، كان رسمك في يدي، وقلمي، وهذه الرسالة المكتوبة على ضوء الشمعة، والجوانح: To Sir With Love! 
- 2 - 
عدت الى أول المشوار، منتصف الخمسينات، يوم أنا آخذ عنك الأدب الفرنسي ، البكالوريا ، ويوم أنت على كرسيك كأنك في (السوربون)، أستاذ أدب، ترفع باريس له القبعة! 
لغتك الباريسية الطعم ،واللون، والنكهة، وانت ابن (براغ) الله ما أطيبها! 
وانطوى فيك راسين ، وفولتير، وشو. 


وكان تعليم الأدب شيئاً عظيماً.
 وشيئاً صعباً إلا على أهليه! 
في الستينات صار التلميذ معلّماً. والاستاذ مديراً، المدير المحطة في تاريخ المعهد الكبير الذي ارتبط بتاريخ طرابلس، والشمال لمئة مضت! 
انا في الطابق الثالث: المكتب الفخم. الكرسي يملأه رجل عريض المنكبين. واذا حضوره يسري في الشجر، والحجر، والنازلين في القلعة التربوية، تلاميذ، ومعلّمين، وعمالاً. 
وساعة انت تمشي في الملعب، بطلّتك الحلوة، وقامتك الطويلة، كان زهو في الملعب وفي ناسه . والمدير العملاق هدية سماء! والسماء في هداياها، هذه، بخيلة! 
- 3 - 
ويا حضرة المدير، و"تلبق" لك التسمية، أراك الآن في قلب الحياة الاجتماعية، تمشي ملكاً. في الصالونات كنت قطبها . تخاطب المرأة الجميلة بلغة تدغدغ منها الشعر، والعين، وعطرها الباريسي ولا يحمرّ لها وجه.
 فالكلام الجميل موهبة السماء أيضاً وقد أعطاك ربّك منها نصيباً كبيراً! 
وكان "يلبق" لك صدر المجالس الإجتماعية ،والأدبية. 
ولو لم تكن، يا صديقي، رجل الله الناذر على صدق، العفة ،والطاعة، والفقر، لكنت في اعتقادي واحداً من نجوم الفن السابع. أو سابقاً (Bernard Pivot) بعشر سنين! 
آمنت بأن رجل الدين في السنة 2000 عليه أن ينزل الى أرض الناس، فنزلت، بأن يدخل بيوتهم فدخلت، أنديتهم فكنت رئيساً لروتاري الشمال . وكان "يلبق" لك ذلك كلّه. 
ويوم حوّلنا، أنت وأنا، مسرح المعهد الى لعبة جمال كبيرة، أيقنت ان كتفيك العريضتين تحملان كثيراً، وان الأديب فيك والإيمان بالله شيء احد. 
الله على عهدك. العهد الذهب! 
- 4 - 
وفي البال الآن مسيرة نقابي ذهب من الشمال الى بيروت، مدفوعاً بقوة المعلّمين، ليسقط النقابة المزرعة ويبني النقابة المؤسسة!
 وكان الذي كان. هذا النقابي، الذي تربّى على يديك تلميذاً أشبعه الادب الفرنسي حباً مجنوناً للحرية، والكلمة الحق، وشهر الأصابع العشر، في وجه المغتصبين حقوق الضعفاء. تلميذ الأمس كم واجهك نقابياً بسلاحك نفسه.
 وكانت مواقف رجال. وكانت الغلبة فيها للحق وحده .
 ونقابة المعلّمين في لبنان تشهد أنك كنت المحترم العمل النقابي الحرّ كل احترام!
 ولأنها تحترم الرجال أرسلت عليك دمعة، من خلائقها الكبر. 
في مطلع السبعينات، كنا معاً في قاعة، المنتزه، طرابلس . انا أحاضر في جماعة الروتاري، ناديك ونديك، عن تجربتي النقابية حاضرت. 
وباللغة التي أخذتها عنك حاضرت. ويا معلّمي، ومديري وصديقي، أتذكر باعتزاز وبكبرياء ما قلته أنت في مسمع الحضور: ان اول نقابي في العالم كان الفرير جوزيف ، فرنسا ، عهد القديس دو لاسال .1680 وقلت:
 ان مدرسة الفرير تعتز ،بكون نقيب المعلّمين في لبنان، طلع من صفوفها.
 وقلت: لو كان السبعلاني في بريطانيا لكان واحداً من القادة النقابيين الكبار...
 أتذكر كلامك الليلة على عزوة ،واغضاءة طرف. اتذكر عهد الرجال ،وان لبنان ليس بريطانيا.
 وأكثر ما اتذكر انك رفضت بشدّة، استعمالهم يدك ،لطعن نقابي احترمت! الله على يد الرجال! 
ويا فرير غابريال، ليلة رحت من ها هنا الى هناك، الى ملكوت السماء، مرّت ببالي ذكريات حبيبات. في السلم كما في الحرب كنت مديراً انساناً . اقولها وسع فمي. 
الصرح التربوي الذي أحبّ طرابلس، وأحبته هي، ظللت فيه طوال سني الحرب ،تخلع عليه حباً وعطفاً. وكذلك الفيحاء تفعل! وتبسط فوقه الجوانح الحواني، وحكمة الملاح، وتبسط يداً   في آن على الفرع الذي أنشأت في زغرتا! 
بيتان بمدير واحد، وشعار واحد: بناء الانسان اللبناني. ونجحت. آه كم نجحت، والزمان العصيب! 
وتجيئني الآن الدموع ،وأنا أراك في حرب السنتين، تصل اليّ في بشرّي، على غير موعد، يوم الدروب كلهن المسلك الوعر بين الشط ، والجبل!
 تصل حاملاً مثل، بابا نويل ،في حقيبتك الأموال لمعلميك النازلين فوق، بين بشري ،واهدن، والجوار! وبت ليلتك معنا! وعدت الى طرابلس مرتاحاً منك القلب والضمير: ان عيال المعلّمين، أولاد المعلّمين هم بخير.
 هكذا تكون الرسالة أو لا تكون. 
ويا معلّمي غبريال، أمّا ما قلت لي، يوم تغدّيت معك، في ،فرير فرن الشباك، بعد طعنة الجبناء، فأشياء أتركها في صدري -،سرّ اعتراف! 
يبقى أن أقول لك، ان ليلة ملت من صوبنا لتصعد الى السماء.. كنت أصلّي! 
للقديس دو لاسال، للطوباويين من جماعته، أصلّي. لآخرهم ،سكوبليون، أصلّي، فالقديسون الجدد يسمعون أكثر من غيرهم! 
ويا معلّمي، ثق بأن تلميذ الأمس، لم يقطع يوماً علاقته بدو لاسال العظيم. وأنا وعائلتي إليه ننتسب!
 وذنبي الوحيد أن ما حدت ساعة عن تعاليمه.  هم الذين حادوا...
 وحين أمر بمدرستنا في طرابلس ،يتهدّم قلبي لرؤيتها متهدّمة بعد أن باعوها. من الاشياء ما يصبح بيعه ممنوعاً لأنه ملك قلوب مليون تلميذ. ومئة سنة من تاريخ شعب. 
السلام عليكما يا مدرستي، ويا فرير غبريال بمحبة.                                                                         

CONVERSATION

0 comments: