هل نحن أقليات في مصر؟/ أنطوني ولسن

في الدول المتقدمة لا يعترفون بكلمة أقلية أو أقليات . لأن كل إنسان يعيش على أرض هذا البلد أو ذاك من الدول المتحضرة هو مواطن طالما يحمل جنسية الدولة التي ولد على أرضها ، أو حصل عليها بعد هجرته الي الدولة التي هاجر إليها .

بمعنى أنني مثلا هاجرت إلى أستراليا شرعيا عن طريق التقدم إلى السفارة الأسترالية طالبا الهجرة لي وعائلتي بعد أن أرسل صديق مخلص أوراق الضمان . تم بعدها إتخاذ الإجراءات اللازمة في لقاء مع مسئول الهجرة في السفارة لمناقشتنا في أسباب الهجرة والمؤهلات العلمية أو المهنية التي تؤهلني للعمل في أستراليا . بعدها الكشف الطبي و.. إلخ .

بعد وصولنا إلى أستراليا بالسلامة والتقينا بالأخ الحبيب نبيل شاكر الذي كان في إنتظارنا . بعد الترحيب وذهابنا إلى منزله الكريم أخبرني بأنه لن يستطيع أخذ أكثر من اليوم عطلة وبناء عليه يجب أن نبحث لك عن عمل .

بالفعل خرجنا لنبحث عن عمل مبتدئين بشركة جنرال موتورز لصناعة السيارات . طلب مني المسئول أن أملأ طلبا أذكر فيه تفاصيل البيانات المطلوبة . ملأت البيانات . إطلع عليها الرجل ونظر إلي قائلا :

** لا أظن أنهم سيقبلون طلبك هذا لأننا في حاجة إلى عمال يعملون في صناعة السيارات .

** نظرت إليه وسألته ماذا يريدني أن أفعل ؟

** جاءت إجابته أن لا أذكر مؤهلاتي ولا سابق عملي .

** قلت له أنا لا أحب الكذب . فلماذا تجبرني أن أكذب ؟

إبتسم وتكلم معي باللغة العربية وكان لبنانيا دمس الخلق قائلا :

** لقد وصلت اليوم إلى أستراليا ومتزوج ولك ثلاثة أبناء ولا بد أن تجد عملا نصيحتي إذا رفض طلبك هنا وذهبت للبحث عن عمل ولم تجد غير وظيفة عامل . أرجوك أن لا تظهر مؤهلاتك ولا تتحدث الأنجليزية ودع صديقك يتحدث .

شكرت الرجل . وبالفعل تم رفض طلبي .

توجهنا إلى مصنع زجاج وتفضل الأخ نبيل بالكلام مع الموظف المختص . في وسط حديثه طلب منه الرجل إن كنت أقبل العمل في الفترة المسائية . فإذ بي أوميء برأسي بلا ناطقا بكلمة ::

  . No **

 مما أدهش الرجل . ومع ذلك طلب من الأخ نبيل أن يخبرني بالتوجه إلى رئيس العمال إن كان يوافق على تعيني أم لا .

وافق رئيس العمل وتسلمت العمل وأصبحت عاملا في مخازن المصنع .

تنقلت في الثلاث سنوات الأولى من المصنع إلى العمل " كمحصل أتوبيس " " كمساري بالمصري " . وبدأت أبحث عن التدريس . وبالفعل تم قبولي مع المدارس الكاثوليكية . وأيضا بعد مقابلة مع المسؤولين في وزارة التربية والتعليم وإجراء إختبارات لمعرفة قدراتي على التدريس ، قبلوا تعيني مدرسا بالمدارس إلأبتدائية الحكومية لحين شفاء زوجتي من حادث وأحصل على دبلوم في التربية والتعليم ليؤهلني العمل في المدارس الثانوية . لكني رفضت .

عملي بالأتوبيس أوضح لي مدى الحرية التي يتمتع بها الأولاد والبنات . فكرت كثيرا في التدريس . لكن إختلاطي بالطلبة والطالبات تمنيت أن أجد عملا أخرا . وبالفعل وجدت عملا أخرا بعد 11 شهرا كمحصل .وكان ذلك العمل في مصلحة البريد موظفا .

بعد ثلاث سنوات حصلنا على الجنسية الأسترالية في إحتفالية كبيرة مع أخرين .

لقد أطلت عليكم في الكلام لربما ظننتم أنني إبتعدت عن عنوان المقال " هل نحن أقليات في مصر ؟ " . لكن الحقيقة لا لم أبتعد . لأنني أردت أن أطلعكم على هذا الجزء من حياتي في بلد إقتنع بالتعددية الثقافية أو الحضارية ويقطنه أناس من جميع خلق الله وبلاد الله .

دعوني أذكر لكم بعضا من المواقف التي واجهتني في الثلاثة أعمال لي في أستراليا .

** في مصنع الزجاج :

طلب رئيس قسم أخر في المخازن من رئيسي المباشر في القسم الذي أعمل به أن يرسل له عاملين للقيام بعمل عنده في القسم . أخبرني رئيسي وطلب مني أن أختار أيّ من العمال لمساعدتي . إخترت الشاب رفيق وهو لبناني . ذهبنا إلى القسم المطلوب منا العمل به . قابلنا رئيس القسم وهو إنجليزي الأصل وطلب مني أن ننقل كل ما هو موجود في منتصف الصالة أمامنا إلى جانب الحائط . مررت حول ما سأبدأ به العمل فرأيت كمية كبيرة من زجاج ألماني ثقيل . بدأت في نقل هذا التل إلى حيث ما طلبه مني رئيس القسم . مر علينا هذا " البوص " وعندما رأي ما فعلت إشتاط غضبا طالبا مني أن أعيد هذا التل إلى مكانه وأبدأ من أول الصف . صرخت في وجهه وأنا أقول " لم أعرف أبدا أن أستراليا حكمها يوما الأتراك " . نظر إلي وقال ماذا تعني فكان ردي .. أنا متأكد أنك لن تفهم . تركني غاضبا وذهب إلى إدارة المصنع . دقائق معدودات وإذ بأحد مدراء المصنع طالبا من رفيق أن يعود إلى عمله الأصلي في القسم الذي نعمل به . جاءني مادا عددا من الأوراق في يده متسائلا إذا كنت أستطيع أن أجاوب على الأسئلة . أخذت منه الأوراق وقبل أن أطلع عليها طلب مني الذهاب معه إلى مكتبه . جلست خلف مكتب في حجرته وبدأت في إجابة جميع الأسئلة والحسابات وانتهيت في 10 دقائق . جاءني ونظر إلى الأوراق . شد على يدي طالبا مني أن أعود إلى عملي الأصلي . جاءني رئيس القسم ضاحكا فصرخت في وجهه قائلا له إن أرسلتني إلى هذا الشخص مرة أخرى سأترك العمل في الحال . أخذ يضحك بصوت عالي وهو يقول لي لن تذهب إليه مرة أخرى .

ما حدث كان في شهر ديسمبر من نفس عام وصولي الذي كان في يوم الأربعاء 25 أغسطس 1971 . في هذه الفترة من العام كان المصنع يستغني عن من يرى فيهم عدم الكفاءة من العمال . ومع ذلك لم أعبأ وواجهت رئيس القسم الأخر دون تردد . قبل يوم الكريسماس إحتفل المصنع بالمناسبة وجاءني المدير الذي إمتحنني وبيده زجاجة شامبانيا واليد الأخرى علبة فتحها وإذ بها " طبق " مزخرف من إنتاج المصنع متمنيا لي ولأسرتي عيد ميلاد سعيد . كما قدم لي رئيسي المباشر زجاجة " نبيذ"  وبدأ الأحتفال بالأكل والشرب وكان ضمن العمال طالب في سنة تانية طب أسترالي ربطت بيننا نوع من الأرتياح والتفاهم . من الطبيعي أنه طرد من العمل . لأنه سيعود إلى الجامعة في أوائل العام . هذا عن مصنع زجاج عملت به لمدة 9 أشهر إزدادت فيه صلاحياتي " كعامل " إلى أن إستقلت لأبدأ العمل في مصلحة " الباصات " .

يوم السبت أنهيت العمل بالمصنع لأبدأ العمل يوم الأثنين بمصلحة " الباصات " . لن أطيل عليكم لكن سأذكر موقف واحد من عدة مواقف صادفتها في عملي كمحصل " كمساري " .

في صباح أحد الأيام وبعد الساعة التاسعة صباحا قل عدد الركاب فرتأيت أن أدردش مع السائق وخاصة أنه عضو نقابة العاملين في مصلحة الباصات . توجهت إليه وسألته عن الجو وما شابه ثم دخلت إلى الموضوع وهو .. لماذا لا يكون لنا " كرنيه " خاص نستطيع إستخدامه في المواصلات سواء " الباصات أو القطارات الداخلية " ليستدل منه على أننا تابعين للمصلحة ، لأنه غير مسموح لنا ذلك إلا في حالة إرتداءنا الزي الخاص بنا . نظر إليّ بعين فاحصة مستهزءة قائلا :

** لماذا لاتعود إلى بلدك ؟ وجاء ردي عليه

** أولا أنا أتيت على حسابي وعائلتي من مصر على طائرة . ثانيا أنت لو نقلوك من مخزن " باصات " تمبي إلي أي مخزن أخر ستفقد الطريق لأنك جاهل . ثالثا لو كنت متعلما تعليما إبتدائيا على الأقل ما كنت نظرت لي ّ هكذا أو تحدثت معي بهذه الطريقة . رابعا هل تعلم أي شيء عني وعن مؤهلاتي ووظيفتي في مصر ؟ بالطبع لا . لكن دعني أحذرك عندما تتعامل مع أي مصري، لأن أقل شهادة حصل عليها هي الثانوية العامة .

نظر إلي متأسفا .. لكني أدرت ظهري له واستمريت في عملي ولم نلتقِ مرة أخرى .

شيء هام جدا ألفت نظر حضراتكم إليه .. داخل الباصات مهما كان الباص مزدحما بالركاب .. لا ولن ترى حالة تحرش واحدة كذلك في حالة الأزدحام من حق السائق أن يستمر دون توقف على أي مواقف للباصات حتى لا يزدحم الباص .

أنتقل إلى عملي بمصلحة البريد .

** بعد نجاحي في الأمتحان الذي أجرته الحكومة مع المتقدمين لشغل وظائف خالية بمصلحة البريد . بدأنا نخضع لدراسات أخرى وإمتحانات في حفظ شوارع 5 أحياء محيطة بقلب مدينة سدني . أخذنا نتنقل من معرفة الشوارع إلى معرفة أصحاب الأعمال بالمنطقة و..و إلخ .

أنهيت كل الأمتحانات ماعدا إمتحان السرعة " سرعت فرز الخطابات وتوزيعها . رسيت 3 مرات وحاول المدرس المسؤول تهدئة أعصابي ويبث في الثقة أنني قادر على النجاح . غاب يوما وحل محله مدرسا أخرا . طلبت منه الأمتحان فوافق ، ونجحت . في اليوم الثاني عاد تريفر المدرس وإطلع على دفتر الممتحنين ووجدني قد نجحت . نادى علي وقال لي :

** نجحت إيه !.

** كما ترى .

** جميل جدا .. خذ هذا الصندوق به 500 خطاب و " وريني شطارتك " .

** نظرت إليه نظرة مستفهما .. فأشار لي أن أذهب وأقوم بالفرز .

قمت بالفرز في فترة أقل ولم تتعدى أخطائي واحد بالمائة . فشد على يدي مؤكدا لي أنه كان واثقا مني . بقي إختبار السرعة الذي يؤهلني لأخذ زيادة في مرتبي مباشرة والترقي . لأنه بنجاحي اليوم أكون قد حصلت بالفعل على الوظيفة . لكن عليّ أن أنتظر حتى ينجح أحد المتقدمين على الأقل حتى يمكن إستدعاء من يشرف معه على إمتحاننا . بعد إسبوع نجح ممتحن أخر أسترالي وتم إستدعاء المختص وبدأنا الفرز . الغريب في الأمر أن كلانا أنهينا الفرز في وقت واحد وكانت أخطاؤنا متقاربة جدا . ولكم أن تتخيلوا الدخول في معركة الترقي بيننا في صمت وهدوء دون مشاحنات وتحديات وضربات تحت الحزام .

نأتي إلى مصر لتكتمل الصورة دون إطالة .

قبل عبدالناصر واجهت مصر عدة تقلبات سريعة مع محاولات الأخوان للظهور والوصول إلى الحكم حتى لو تعاونوا مع الشيطان .

جاء عبد الناصر وأستطاع أن يقود المسيرة ولكن الأخوان ظلوا شوكة في ظهره على الرغم أنه حاول إشراكهم في الوزارة . لكنهم كانوا يريدون الحكم إما رئاسة الوزراء أو رئاسة الجمهورية . عندما فشلوا حاولوا قتله .

أيام السادات وبعد حرب 73 وقطعه العلاقات المصرية السوفيتيه وإخراج الأخوان من المعتقالات والسجون . لكنهم كانت لديهم أفكار أخرى مناهضة له وإتهامه بالخيانة بعد توقيع معاهدة كامب ديفيد . إنتهى الأمر بإغتياله .

في عصر مبارك كانت للأخوان شبه سيطرة على الشارع المصري وخاصة في الأرياف ، ثم سيطرة تامة على الشارع المصري مستغلين الفقراء ليكونوا الصوت الذي سيأخذهم إلى الحكم . وبالفعل تغير شكل مصر تغيرا غريبا على المصريين إن كان في الزي أو الأخلاق وخاصة تجاه من هم ليسوا معهم . ونخص بالذكر الأقباط المسيحيين تحديدا .

تغيرت المناهج التعليمية . تغير المناخ التوافقي بين أبناء مصر إلى نوع من التوتر وعدم الأستقرار .

قامت الثورة المصرية في 25 يناير 2011 وجاءت فرصة الأخوان لتولي مسؤلية إدارة شئون مصر . وهنا إنكشف المستور وظهرت الجماعة على حقيقتها التي تبغي التوسع والوصول إلى قيام الخلافة الأسلامية .

وصلت مصر إلى قمة التصنيفات العرقية بين أبناء مصر . ومن الطبيعي التميز الديني والطائفي .

إستطاعت مصر أن تعود إلى المصريين بعد ثورة 30 يونيو 2013 . لكن يافرحة ما تمت يحاول خطفها الغراب ويطير .

في الدستور المهلهل الذي يحاولون ترقيعه بالأصرار فيه على تقسيم أبناء مصر إلى فئات . وأسأل بنفس العنوان الذي وضعته للمقال .

هل نحن أقليات في مصر ؟

من الطبيعي حسب ما هو عليه الحال نعم الكثير من المصريين ينظر إليهم فعلا وعملا على أنهم أقلية .

النوبيون أقلية ولا حقوق لهم . السيناويون أقلية ولا حقوق لهم . الأعراب أقلية ولا حقوق لهم . الشيعة أقلية ولا حقوق لهم . البهلئيون أقلية ولا حقوق لهم . المسيحيون على مختلف طوائفهم أقلية ولا حقوق لهم . والمرأة التي هي نصف المجتمع أو أكثر أقلية .

لهذا طبقا لهذه النظرة الخاطئة نحن جميعا بما فيهم المعتدلون من المسلمين أقليات ولا نعامل معاملة المواطن الذي ولد ويعيش ويموت على أرض وطنه مصر .

كان هدفي من الحديث المطول عن أستراليا أن أثبت الفرق بين دولة الكفر أستراليا وإعترافها بحق المواطنة لكل من قبل العيش على أرضها حتى ولو لم يحصل على الجنسية الأسترالية مثل بعض البريطانين الذين ولدوا وعاشوا وماتوا على أرض أستراليا .

أستراليا ودول الغرب وأميركا ليسو كما رسم أفلاطون في جمهوريته المثالية . لكنهم بشر . الذي يميزهم هو إلغاء الدولة الدينية مع حق المواطنة لكل من يعيش على أرض أستراليا أو أي دولة غربية مهما كان شكله أو دينه أو البلد الذي أتى منه .

لو في مصر شخص واحد من كل الفئات المصرية التي سبق وذكرتها فهو مواطن مصري عندما يوضح الدستور المزمع الأنتهاء منه ثبوت حق المواطنة لكل المصريين وإعتبار مصر دولة مدنية وليست دينية .

فهل سيتحقق حلم المصريين الأحرار بتغير كل ما جاء وسمعنا عنه في الدستور الجديد القديم ؟ أتمنى .. وإلا سنعود إلى نفس التساؤل .. هل نحن أقليات في مصر ؟ وأخشى أن أقول ما نحن مقدمون إليه يثبت فعلا وعملا أننا أقليات في مصر .

CONVERSATION

0 comments: