الضبع يأكلُ لحمَهُ/ محمود شباط

قصة قصيرة
حين يوحش الليل تجوس الضباع لتلغ بدم طرائدها. ولكن ناموس الطبيعة سيحيل الضبع فريسة يوماً ما. ومن الضباع ما يأكل لحمه.
السمكري الغريب الأنيق الجدي المتجهم وأبو شاكر الحنتوتي يجلسان على كرسيين صغيرين أمام المحل الذي استأجره السمكري من أبي شاكر منذ أسبوع. الرجلان يتفيآن شجرة بيلسان تُسْدِلُ أذرعها البيضاء فوق الرصيف بغنج وكرم. أبو شاكر يدق بلاط الرصيف بعكازه و يثرثر بكلام ساذج أو بما يخطر في باله. السمكري يُعَلِّقُ بين الفينة والفينة بجدية واقتضاب. يستمع بنصف إصغاء بينما هو يستطلع ويستكشف ويُمعن النظر في جدران دار النشر الجاثمة في الجهة المقابلة، والتي من أجلها جاء إلى هذه المنطقة دون أن يُعْلِمَ أحداً بهدفه وخطته. ولن يفوته مشهد مكتب المقاولات الملاصق لدار النشر، والذي يديره صبحي ابن مربد الثقفنجي.
على الجانب الآخر من الطريق الضيق توقفت سيارة فارهة ترجل منها السائق وهرع لفتح الباب الخلفي لسيده، ترجل السيد الستيني المتأنق صاحب دار النشر ومديرها العام الأستاذ مربد الثـَقـَفـَنْجـِي،توقف للحظات يتأمل الرجلين الجالسين بكراهية، ثابر على رمقهما بمقت واستعلاء وتقزز. أطال النظر إلى السمكري الذي تشي ملامح وجهه بشبه شديد لرجل يعرفه مربد جيداً ولكنه لا يتذكر هويته الآن. بالتزامن كان السمكري يحدجه بغضب وكراهية تفوح منهما رائحة الثأر. وحين أوشك ذلك الخيط اللامرئي المشحون بالحقد الدفين المتبادل على الإحمرار عَدَّلَ مربد ربطة عنقه وشدها بعصبية ثم أدار وجهه صوب مدخل المبنى، عبره بتطاوس وخلفه سائقه يحمل له حقيبته.
بعد تفقده للبريد الوارد والرد على عدة مكالمات هاتفية مسح الأستاذ عرقه بنصف منديل وَرَقي ونادى على مزهر ليستفسره عن ذلك الصعلوك الغريب الجالس بجانب "العجوز الأفعى" أبي شاكر. أخبره مزهر بأن ذلك الرجل الغريب هو السمكري منصور.
- ماذا عرفت عنه ؟ صفه لي !
- هو نحيل قصير القامة جدي متجهم قلما يبتسم،قليل الكلام وإن حكى يُمَرِّر أبيات شعر في كلامه. يحتفظ في محله بعشرات الكتب. يقضي معظم أوقات فراغه في القراءة والكتابة. سمعته يسأل أبا شاكر عن مطبعة لطبع ديوانه الشعري.
بذل مربد ما بوسعه لطرد وإبعاد ذلك السمكري الذي كرهه من أول نظرة. اشتكى عليه إلى البلدية بأنه يبيع كتباً وبرأ منصور نفسه، اشتكى مربد ثانية بأن منصور يزعج الجيران . كذلك برأ منصور نفسه. حاول مربد الإيقاع بمنصور عبر تلزيمه أعمال تغيير شبكة المياه والصرف الصحي في الدار وفي نيته ألا يدفع له مستحقاته فقام منصور خفية بتلزيم الأعمال إلى صبحي، ابن منصور ، لم يدفع الأب لمنصور فلم يدفع منصور للإبن . نقم الفتى على أبيه فطرده والده وحمَّله تبعيات غبائه. اشتد أوار الغضب تفاعلاً في كيان مربد حين صدمه ارتداد كيده إلى نحره في كل مرة. مسح عرقه بنصف منديل ورقي وهو يفكر في حبك شرك جديد لمنصور.
عرف أبو شاكر بما حصل بين مربد ومنصور فعبَّر عن ابتهاجه لمنصور بقوله: عرفت من السائق بأن مربد في ضيق شديد لأنك هزمته في محاولاته الثلاث وهو الذي لم يعتد طعم الهزائم. واصل أبو شاكر ثرثرته. فهم منصور منه بأن الأستاذ مربد ليس سوى "دكنجي" ثقافة لا يهمه منها سوى ما يدخل جيبه، هو بالأصل صاحب مؤسسة المقاولات المجاورة لدار النشر. تَقَرَّبَ من مالكها السابق السيد صفوت الطيب إلى أن أمنه المسكين الطيب وأتمنه على ختم دار النشر وفوَّضه بالتوقيع فاستغلها مربد كونه ليس مسؤولاً عن العواقب. أوقع العجوزَ صفوت عمداً بمشكلات مالية وقانونية إلى أن أشهر الأخير إفلاسه وأُدْخِلَ السجن حيث مات بعد شهرين من سجنه. واستولى مربد على دار النشر.
دوت صرخة مربد في المكتب فهرع السائق نحو سيده الذي سأله: قلتَ لي بأن هذا الصعلوك الغريب يرغب في طبع ديوان شعر ؟
- أجل سيدي .
فكَّر مربد في رد الضربة إلى منصور عبر استدراجه والإيقاع به. عَرَضَ على منصور صفقة طبع ونشر ألف نسخة من ديوان الشعر بنصف سعر السوق ويكون الربح مناصفة، ثم وضع العقدَ الجاهز على طاولة منصور. الطُعْمُ المغري لم يغر منصوراً بل زاد في ارتيابه. وقطع الشك باليقين حين قرأ البند الجزائي وقدره خمسة وعشرون ألف دولار على من يُخِلّ بأي بند من بنود العقد.
سأل منصور مربداً : أي نوع من الخلل يستوجب تطبيق البند الجزائي ؟
- كأن يكون الشعر أو جزء منه مسروقاً. أو أن لا تباع كل الأعداد المطبوعة.
- سوف أوافق على شرطك إن وافقتني على شرطي!
- قل لي ما هو شرطك ؟
- إن ارتكبت أية مخالفة لبنود العقد عليك أن تتحمل قيمة البند الجزائي أنت أيضاً.
وافق مربد بعد تفكير وتردد ثم اتفقا، ولكن منصور وضع شرطاً آخر يقضي بتوثيق العقد لدى كاتب العدل. ثم وقَّعا العقد بعد التوثيق.
نفدت الألف نسخة الأولى من المكتبات خلال أسبوعين. اتصل مربد كالعادة بمسؤولي المكتبات لعدم إفشاء معلومات عن كميات المبيع. طبع ألفَ نسخة ثانية دون علم المؤلف ووزعها على المكتبات. وعند تاريخ استحقاق المحاسبة قال للسمكري بأن الدار خسرت ولم تبع من الكتاب سوى خمسة وعشرين عدداً وبأن على منصور أن يدفع البند الجزائي لدار النشر.
ابتسم منصور بوجه مربد بانتشاء لأول مرة وقال له : لم تسلم الجرة هذه المرة .
تلك العبارة أنزلت مربد من برج غروره، سَلَّطَ شرارَ عينيه بتركيز المندهش المبغوت على وجه منصور . أدرك بأنه وقع. الآن فقط تذَكَّرَ وعرف شبيه هذا الوجه: "لابد أن هذا السمكري قريب صفوت الطيب وجاء بعد كل تلك السنين ليثأر لقريبه مني" .
قرأ منصور ارتباك مربد فزاد جرعته الهجومية النهائية القاضية إذ أفْهَمَ مربداً بأنه اشترى من السوق بحدود ألفي عدد من ديوانه ولوَّحَ له بالفواتير كما يُلَوِّحُ الفاتح بأعلام نصره .
جُنَّ جنون مربد. انتفض وحاول خطف الفواتير فأبعدها منصور بسرعة. خبط الأستاذ مكتبه بقبضته وانهار في مقعده كغراب دون جناحين ولامنقار ولا مخالب ولا ذروة جبل. قبضته التي قرعت سطح مكتبه قبل لحظات استحالت إلى كتلة لحم وعظم.ضاقت تانك العينان اللتان أبكتا مئات الأعين،دمعتا ثم بكتا بصمت متوسل. احتقن الكلام في حنجرته وتراكم . يداه ترتعشان وشفتاه تتمتمان مناشدات استرحام لم يسمح لها جبروته بالمرور عبر فمه. لم يعد قادراً على القرار والحركة. أمسك منصور بيده وساقه إلى كاتب العدل. ليس لدى مربد سيولة وهو مدين لآخرين. اتفقا على أن يتنازل مربد لمنصور عن دار النشر مقابل تنازل منصور عن البند الجزائي. وحين استلم منصور الصك من كاتب العدل اقترب من أذن مربد الـثقَـفـَنـْـجي وهمس له بتشفِّي المنتصر:تلذَّذْ الآن بنكهة لحمك وتذكَّر لحم ضحيتك صفوت الطيب.

CONVERSATION

0 comments: