هل مات جبران؟/ محمود شباط



لم نلتقِ منذ أمدٍ بعيد، مذ طيرتنا عواصف الحاجة وأخواتها من دفء الطمأنينة وحضن الوطن وصيَّرتنا نورسين مهاجرين. مذ صار جرحنا يتفاعل صوب أربع جهات الأرض، يتمدد ويبتعد بنا كلما اقترب الوطن.
عدت منذ أيام لأقضي إجازتي السنوية، وعرفت بأن صديقي وجاري أبي يزن في الضيعة أيضاً فعزمت على زيارة صديق الطفولة والشباب، ورد أمانة هي عبارة عن رائعة "الأجنحة المتكسرة" لجبران. يومها أعارنيها وأوصاني أن أردها خلال يومين ولكني لم أفعل. ثم رحت صوب المغسلة لأهندم ما تبقى من فـُتات الشباب.
في خضم ابتهاجي بصدفة لقائنا في البلد هذا العام، كان مناخ ما قبل الزيارة مُشَرَّباً بالأسئلة والحيرة والشوق والقلق المترع بالحوارات المستحضرة والصور المسترسمة عما يمكن قد طرأ من تَغَيُّرٍ على مظهر أبي يزن طوال تلك السنين الثلاثين، بدءاً بشيب الشعر وندرته إلى تجَعُّدِ الوجه والنظارات السميكة. وبينما كنت أحلق ذقني كنت أستشير مرآة المغسلة فبدا لي بوضوح لؤم ابتسامتها الشامتة من استضافة وجهي لبصمة جديدة من بصمات تـَغَضّن غسق الكهولة، غضبت منها وحملت عليها وكنت على وشك تحطيمها لو لم يُكَوِّرِ الرجلُ الذي يشبهني تماماً قبضته حين كـَوَّرْتُ قبضتي، ولو لم يبتسم لي حين ابتسمتُ ساخراً من ضعفنا حيال جبروت السنين.
حين وصلت إلى المدخل الخارجي لمنزل أبي يزن ترك ضيوفه ولاقاني عند باب الدار، لَـوَّحتُ له بالكتاب الذي يعشقه، بدا لي بأنه لم يعره كبير اهتمام فظننت بأنه لايبصر جيداً ، غمرني بعاطفة صادقة نقية كينابيع ثلج الجرد. وبينما نحن مقبلان على الضيوف نتحادث ونتذكر نوادر نخجل من التطرق إليها اليوم أقبل شابان فسألني أبو يزن : أتعرفهما ؟
- سوف أحاول .
وبعد تخمين وتقدير وتشبيه وجهد جهيد اعتذرت قائلاً بأني لا أعرفهما . فعرَّفني عليهما فاكتشفت بأنهما من أقاربي. ولكني ، وللأمانة ، لا أتذكر اسميهما الآن.
وبينما نحن جالسان ، وبينما كنت أهمُّ بتذكيره بالكتاب شد نظره فجأة زعيق "محلحل سياسي" على التلفاز فتابعه باهتمام وانتظرته إلى أن ينتهي منه ويتفرغ لي كي نتحادث ولأذكِّره بأسطورتنا الجبرانية الذي طالما كان كل منا يفسر على هواه ما يقصده جبران بهذه الومضة أو تلك، نقضي سهراتنا تسامراً ، سهرات بكر سقاها الله خيراً. انتهت "فلسفة المحلحل السياسي" ، ظننت بأن بإمكاني البدء بحديثي مع أبي يزن .على حين غرة رن الهاتف الجوال بجانبه فرد وطالت المكالمة، تعب فأسند الجهاز على كتفه الأيسر ومال برأسه نحوه كي يَحُولَ دون انزلاقه وسقوطه على الأرض. وبعفوية وتلقائية راح يسجل على غلاف الكتاب أسعار سلع وأسهم وأرقام هواتف وأسماء شركات وعناوين. كتمتُ جمرة استهجاني وعذرته بكلل عين المحب.
بينما هو منشغل في المكالمة، شرعت أسترق النظر إلى وجهه لأتحقق مما استحضرتُ واسترسمتُ من أحكام مسبقة بخصوص التغيرات في هيئته. لم أكد ألحظ في وسط تلك الوسامة الخريفية سوى الطفيف من الإنتفاخ تحت العينين والقليل من الشيب في الفودين.
انتهت المكالمة فاعتذر لي الحبيب "أبو يزن" بابتسامة طيبة. رحَّب بي بصدق لاأشك بصدقيته، كان يرشف القهوة ويحادثني ويزغرد بضحكته المترعة ببراءة الطفولة الناضجة . وبينما هو يدردش ويتندر ويتذكر ويضحك لاحظت بأنه غير مهيء بعد للحديث عن الكتاب إذ كان يضغط أزرار "الريموت كونترول" الواحد بعد الآخر متابعاً الفضائيات بغثها وسمينها دون كلل فاكتنفني هاجس هيمنة الهجين على الأصيل، حيث بحت لنفسي بخشيتي من وباء يستوثننا بعد أن غدت الشاشة حكواتي كل بيت، ننصت إليها، تلقننا، تمسخنا ببغاوات نقلد ونقلد إلى أن ننسى مَنْ نحن وإلى أن يترمد رونق الموروث.
استمر مضيفي يحادثني بنصف انشغال ونصف إصغاء غير متعمدين. تقافز عشرات المرات بين برامج تستقطبنا كالفراش، يجذبنا نور معظمها، وتجرفنا كقناديل البحر مع التيار. ثم التمعت الشاشة بمقدمة برامج أفضل ما فيها شعرها المستشقر، ترقص جلوساً وتبشرنا بالمزيد من التأزم بين فريقي الوطن. ولكم تمنيت حينها ألا يفلح النصل في الفصل بين العنق وحبل الوريد.
رنا أبو يزن نحوي ببسمة أليفة ودودة وهَمَّ بالكلام، رجَّحْت بأنه كان سيسألني عن الكتاب وعن عائلتي وأولادي وظروف عملي . في تلك اللحظة التي طالما انتظرتها ولا ريب بأنه كان يتوق إليها بقدر ما تقت إليها . قـَطَعَتْ عليه بادرته مكالمة أخرى عبر هاتفه الجوال . طالت المكالمة التي كان يجهد لتقصيرها وأفلح بعد دقائق. وما إن هَمَّ مرة أخرى بالكلام والترحيب حتى باغته اتصال آخر. ومع تقاطر الضيوف وانشغال أبي يزن وبينما هو غارق في مكالمة عمل. استأذنته بالإشارة فهب كالممسوس وأمسك بيدي يشدني أَنْ أجلس فجلست. ولبث بضيق يكلم الشخص على الطرف الآخر ويتواصل معي بابتسامة اعتذار. انتزع من الكتاب دون انتباه ورقة وراح يسجل عليها ملاحظاته، تحسست الكتاب الجريح بيسراي وكتف صديق العمر بيمناي كما لو كنت أبثه تفهمي التبريري لانشغاله القسري عن ردي للأمانة وانتزاعه لصفحة من "الأجنحة المتكسرة" . عذرته وفي البال غصة وحنين إلى جرس حس أبي يزن وولعه بجبران فيما مضى. وإلى عبق التسامر معه في إنس الأماسي على ضوء قنديل يزينه سخامه.

CONVERSATION

0 comments: