كانت جدتي، رحمها الله، عندما نحشرها بسؤال، تقول: بلا أكل هوا! وأكل الهوا، حسب اللهجة اللبنانية، تعبير مهذب بمعنى أكل الخَ... وكنت اعتقد ان وصفة جدتي هي من باب المداعبة، ولم أكن أتصوَّر ان أكل الهوا اصبح أكلة شعبية لبنانية بامتياز. مما أجبر وزير الصحة ان يعلن في مؤتمر صحفي، أُعتُبِرَ قنبلة الموسم، ان اللبنانيين يأكلون البراز البشري ويأكلون من المجارير أو يأكلون المكروبات والجراثيم في المطاعم. أو يشترون الامراض تحت اسم اللحمة.
بعد المؤتمر تكاثرت التعليقات على مواقع التواصل الاجتماعي وفي الصحف مثل:"أكلت في مطعم لبناني وبعدني عايش". أو "الشاورما هي كتلة بكتيريا بشكل لحمة" او " سندويش دجاج من فضلك مع سيارة اسعاف" أو سندويش خً.. بلا كبيس لو سمحت" او " بعد المؤتمر اتضح اننا كلنا عم ناكل هوا..." منهم من اعتبر الوزير ابو فاعور وزير كل لبنان. ومنهم من اعتبره " وزيراً استثنائياً بنظافته في حكومة استثنائية في وساختها". وعلّق احدهم:" قلت هناك اطباء تُرفع لهم القبعة، وأطباء ترفع لهم العصا. تماماً كما الوزراء. ولكم ترفع القبعة". وآخرون اعتبروا الامر تشهيراً وابتزازاً لانه لا يوجد حالات تسمم. في جلسة مجلس الوزراء شكَّكَ الوزير فرعون "باجراءات ابو فاعور الاستعراضية وطالب بمحاكمة الوزراء الذين توالوا على وزارة الصحة" لم يتوقع ابو فاعور ان "يُطعن من اهل بيته الحكومي". وحسمت الحكومة امرها وشكَّلت "مقبرة"، عفواً لجنة، وزارية "لدفن"، عفواً لملاحقة الموضوع...
معظم القوى السياسية باركت خطوة الوزير وطالبت بالتشدد والملاحقة والاستمرار بالحملة وتوسيعها. غريب! إن كان الكل موافقين، فمَن يحمي الملوثين والمفسدين؟ وتساءل الكثيرون أين كانت أجهزة الرقابة؟ وماذا كانوا يراقبون؟ ولماذا كانوا يقبضون رواتبهم؟ وكيف كانوا يوافقون ويختمون؟
اتضح من العينات التي جمعها المراقبون بأمر من الوزير ابو فاعور، بعد تحليلها، ان جرثومة E-Coli ، البراز البشري، موجودة في مأكولات كثيرة وتسبب الاسهال ونزيف الامعاء وتوقف الكلي. أما جرثومة السلمونيلا، المنتشرة في الدجاج والبيض فتتسبب بالاسهال والتقيوء. اضافة الى جراثيم كثيرة متواجدة في المعلبات المنتهية الصلاحية وفي المياه والخضار والفواكه وفي كل شيء تقريباً.
زرت لبنان مع عائلتي مرتين. كنا نقضي نصف وقتنا بين الحمّام والاطباء والمستشفيات. وكم عانى بعض افراد الاسرة من المضاعفات بعد عودتنا الى استراليا. وهذه حالة الكثيرين ممن اعرفهم. في زيارتي الثانية ذهبنا خصّيصاً لحضور عرس قريبة. في منتصف العرس، وكان في مطعم مشهور على شاطىء جبيل، انتاب ابني وجع حاد في المعدة واسهال شديد ولم يعد باستطاعته الوقوف. وقضينا بقية السهرة في احدى المستشفيات. وكثيراً ما سمعت العاملين الصحيين يشخصونه " بمرض السوّاح!".
ابو فاعور هو من القلائل الذين أتوا الى الحكم وتعاملوا بجدية مع مسؤولياتهم. وضع المصلحة العامة في اول سلّم اهتماماته كما فعل زميله، المبعد اليوم عن جنّة الحكم، الوزير السابق زياد بارود. ورغم ذلك لن اهنئه على ما فعل حتى الان، رغم اهميته: لقد أكَّدَ للبنانيين، بنتائج مخبرية، ان امنهم الغذائي مخترق بشكل خطير وكأنه لا يكفيهم كل الخروقات الاخرى وكل الاخطار المحيطة بهم. ولأنه تجرَّأَ وأخذ خطوات جديّة وأثار الموضوع علناً من أجل تأمين اللقمة النظيفة لكل المواطنين كما قال. لن ترتفع قبعتي بالتحية له إلا اذا خرجت هذه القضية الهامة من "مقبرة" اللجنة الوزارية سالمة. أوعندما يذهب السائح الى لبنان ولا يضطر لقضاء نصف عطلته في الحمّام. وإذا حقّقَ ما وعد به: اللقمة النظيفة لكل المواطنين، عندها يجب على قبعات جميع اللبنانيين، من كل المذاهب والاتجاهات، أن ترتفع بالتحية. كما يجب ان ترتفع ايضاً "العصي" في وجه المقصّرين من بقية المسؤولين.
كلام الوزير ابو فاعور، رغم انه لا يغطي مختلف نواحي الامن الغذائي المُستباح،، كلامٌ لا يقوله مسؤول وهو متربع على كرسي الحكم. كلامٌ جدّي وخطير ومسؤول. أما كلام الكثيرين من زملائه، كما أفعالهم، فيا ليت جدّتي لا زالت على قيد الحياة لتقول لهم: بلا أكل هوا...
1 comments:
أرجوكم حبوا بعض
إرسال تعليق