في واحة "المسيد" تمعنت المشهد جيدا وفهمت الكثير ، وواصلت المسير، لأتوقف عند نصب يجسم تلك المقاومة العريقة التي جعلت الاسبان ينقشون في ذاكرتهم وللأبد أن للصحراء أصحابها هم في ساحات الوغى ، أسَدٌ بجانب لَيْث ، بجانب ضِرْغام ، خَطٌ منهم ثابتٌ في الأرض ، ورؤوسهم عالية علو الكرامة الصحراوية الأصيلة وأياديهم مشدودة على شرف أغلى رمل افتخرت به البسيطة لُُوِّنَ باحْمِرار دم الشهداء، ليظل في خيلاء الفضلاء، بمثابة العهد على الوفاء، في عقول من بقي في تعداد الأحياء، موثق بأنبل وأجمل الصور، شبهته في يُتمه وعدم الاكتراث بقيمة ما يرمز إليه بنصب آخر في الشمال وتحديدا في جماعة السواكن القريبة من مدينة القصر الكبير ، يجسم ذكرى عطرة من ذكريات مغرب السلف الصالح صانع ملحمة وادي المخازن الشامخة ما بقي التاريخ الحقيقي للشعوب المجاهدة معلمة من معالم التشبث بالدين الإسلامي ، وما بقى الآذان من فوق مآذن دور الله يعلن للصلاة حمدا وطاعة وتقربا لله الحي القيوم ذي الجلال والإكرام ، ومع النصبين التذكارين يتجلى إهمال المسؤولين عن التراث الحضاري لبلادنا مقومات وأسس التحام شعبنا العظيم بأرضه ومدى التضحيات التي بدلها من أجل البقاء مصان الجانب مهاب الطلعة محفوظ الوحدة الترابية التي صنعها باسترجاع حقوقه بكل الوسائل المشروعة .
... اعتقدتُ ما مرة على امتداد ثلاثة عقود ونيف أن الصحراء انطلاقا من "الطاح" إلى "الكركرات" قد أصبحت جنة تتكدس فيها المشاريع الضخمة ، والناس سعداء بما يملكونه من شغل وتعليم وصحة وثقافة ، وما هم محاطون به من رعاية الدولة في الحد الأقصى ، لكن الصدمة كانت السمة التي جعلتني ألوم تلك الدعايات التي تركتنا في الشمال ننام في العسل وكان علينا أن نتخبط في الوادي الحار ذي المياه المضروبة ، كذب علينا من كذب وخذلنا من خذل ، وأبعدنا عن إدراك الحقائق كما هي مَن أبعد ، وكل ذلك من أجل منافع استحوذت عليها أقوام لا صلة لها بالمكان إلا بما تستغل فيه أكان عقارا أو تجزئة أو منتوجا بحريا أو مصنعا مهربا من أداء حتى واجب الدولة ، كيف تكون لهم الصلة وهم على هذه الدرجة من الجشع والتكالب على أرزاق هي للجميع إن كانت ثمة عدالة ، الآلاف من شباب الصحراء يتسكعون في الطرقات بلا عمل وبلا مستقبل وقلة من المحظوظين يتمايلون نشوة وبطونهم منتفخة بما ازدردوه ظلما وعدوانا ، انها معادلة مصابة لا محالة بعلة البرص، قطعة سوداء ملتصقة بأخرى بيضاء وهكذا لمتم آخر شبر في الصحراء ، فأي منطق هذا يجعلنا نرتاح لاستقرار داخل هذا الجزء الغالي من والوطن ؟ .
... العيون العليا بتجزئاتها المتعددة المكونة لأحياء كالأمل والعودة وغيرهما كثير ، والعمارات المتصاعدة فيها والمؤسسات التعليمية المتوفرة بسخاء جنب البنايات الرسمية ، كالعيون السفلى المزدحمة باقامات وثكنات الجيش وما يرتبط به من مصالح ، كل هذا موضوع في كفة ، وعقلية الأهالي في كفة مقابلة ، بلا انسجام بينهما ولا اندماج فكري بالمفهوم الصحيح السليم للكلمة ، الأمر ذو دلالات لا تنأى عما أشرت إليه آنفا ، وإنها لوضعية مؤثرة لو أردنا صراحة وضع الأسباب على محك الدراسة للخروج بنتائج تؤدي لمحاسبة المفسدين الذين ساهموا لحد كبير في زحزحة صورة الدولة عن مكانها المعهود في بدايات التعمير والتشييد وإلحاق الحال بأحسن مآل ، والتعامل من جديد بما يصون كرامة الصحراويين في مجالات حيوية لسنا في حاجة لذكرها جملة وتفصيلا ، والتقليل من ممارسات لا تليق والبيئة الصحراوية المحافظة الميالة للحياء والحشمة ، التطور ليس معناه إبعاد ثقافة لتحل أخرى مكانها لاستيطان ميوعة ما كانت من جدية المقام في شيء ، أما المقاربة الأمنية فتلك حكاية أخرى الواجب إصغاء فصولها لضبط وقائع على أحداث ومقارنة الجميع بتصرفات تحدثت في شأنها الركبان جعلت ما أظهر المجمع في بعض الأحياء المغضوب عليها وفي جوهره بان من رفض قاطع لكل استفزاز المقصود منه حصر طموح شباب يرون خير بلدهم يقتات منه في فوضى عارمة قطيع من الغربان .
مصطفى منيغ
مدير نشر ورئيس تحرير جريدة الأمل المغربية
مدير فرع المملكة المغربية لمنظمة الضمير العالمي لحقوق الإنسان (سيدني / استراليا)
شارع محمد الخامس، العمارة 81 مكرر، الطابق الأول رقم 5، سيدي قاسم، المغرب
البريد الإلكتروني :
mustaphamounirh@gmail.com
0 comments:
إرسال تعليق