تجليات اللغة في منحنيات الألوان الساقطة/ خليل الوافي

اللغة العربية بدأت تشعر بالخوف والحسرة، وبخطر المطاردة والانقراض ,وبمرارة أحوالها المتدهورة في مظاهر الإقصاء و التهميش ،خلافا لما كانت عليه في السبعينيات و الثمانينيات من القرن الماضي ،وكلما توغلنا و تعمقنا في تاريخ اللغة ،نجد تجليات الابداع في محاسن القول ،وبلاغة الصور و المعاني ،وسلامة العبارة ,وطراوة الأسلوب البديع في أصناف التعابير الراقية ، وجمالية المحسنات اللفظية والمجازية ،وفي أنماط السرد الأدبي ، التي تجلت من خلال المقامات , والصور الشعرية و طرق النثر ،وتعددت مظاهر اللغة في تداولها اليومي ،وحسن اداء متكلمها , ووقعها على سامعها حيث تصل الى القلب مباشرة ,والى الوجدان العربي في فترات عصره الذهبي , الذي لم يخرج عن سياقه العام الذي كانت تغرف منه ،ولم تتأثر بالروافد الأجنبية ، الدخيلة مثل الفارسية و الأفرنجية و العثمانية ,ورغم التبادل الثقافي والتجاري ، والفتوحات المتتالية التي عززت قيمة اللغة العربية عند المستشرق ،و المتتبع للشان العربي الذي كان ينهل من أمهات الكتب و المجلدات و المخطوطات النفيسة التي تضم العلوم العربية و آدابها الخالدة .


وتجد اللغة نفسها حائرة وحيدة ,تسخر من هذا الواقع المزري والهش الذي وجدتت تاريخها الحافل يتساقط مثل اوراق الخريف .وتواجه مستنقع الجهل والامية يحاصرها من كل جانب , وتفقد خصوصيتها اللغوية و الثقافية في زمن العولمة ,وهدم كل ما هو محلي بكل مكوناته التراثية ،و خصوصية اللغة العربية في تأقلمها مع الأزمنة و الحقب التاريخية ، التي تخول لها التعايش مع المتغيرات الحضارية ، و التقدم العلمي المتسارع بوتيرة مذهلة لا تترك المجال للتفكير و التأمل ،بل تحتاج الظرفية الحالية التي يعيشها الواقع العربي المنقسم على نفسه ،ويتخبط في مشكلات متعاقبة ،في إطار مشروع التبعية العمياء لصانع القرار العالمي ،وإفشال مظاهر المشروع القومي ،وإنشاء تكثل عربي في مواجهة التجمعات الأخرى في الشمال الغربي للقارة الأوربية ، وبموازاة مع المشروع الأمريكي في حماية مصالحه الإستراتيجية في الشرق الأوسط ،والحفاظ على أمن إسرائيل . وتطوير المجال الإعلامي في خدمة نوايا إدارة البيت الأبيض . ونحن نمارس سياسة الإدعان و الإستسلام لما يجري من حولنا , كاننا دمى او كراكيز تستخدمها انامل خبيثة ,وسلمنا بعدم التحرك للدفاع عن لغتنا من الغزو الثقافي في شتى مجالات الحياة اليومية للمواطن العربي الذي استهوته بضاعة الغرب بكل سلبياتها وايجابيتها ,وتركته عديم القيمة مستعد لاستهلاك ماهو اجنبي ,رغم الضرر الواضح في كيفية استعمال هذا المنتوج او ذاك ,وهناك من يتساؤل عن جدوى وجود بديل عربي ينافس ما تجيد به السياسة الغربية في اجهاض معالم النهضة والتفوق التي يتمتع بها بعض الفئات المهمشة التي تنتظر من يزيل عنها غبار الاهمال,و تعزيز ثقافة القرب والحوار مع كافة مكونات المجتمع المدني في فتح اوراش التغيير ضمن محددات السلوك والوعي الحضاري بقيمة المواطن العربي بنفسه .وهذا يحيلنا الى اعادة النظر في تعاطي السلطة السياسية مع مقدسات الهوية اللغوية ,واسباب تطوير المناهج الدراسية في تجاه ترسيخ مبادئ المواطنة في مظاهر الحياة العامة .
ناهيك عن مجموعة من المعطيات المتشابكة ,التي تسهم في احداث فجوات عميقة بين العربي ولغته الاصيلة , وتعمقت اكثر في انسداد افق رعايتها , والاهتمام بها من ترسبات الداخل ,وذلك من خلال اعلام قطري الذي يستنسخ ثقافة الاخر في تربة لا تنسجم والتقاليد والاعراف , والمبادئ الاخلاقية , التي تتسم بها الحضارة العربية قبل ان تصيبها رياح التدجين والتهجين , والاستلاب الفكري , ومساهمة قنوات الفضاء السمعي البصري في تكريس صورة مشوهة عن لغة ظلت تقاوم لقرون اشكال الاقصاء والتهميش , وتتجلى مظاهر هذا الانزياح اللغوي في موجة المسلسلات التركية المدبلجة والمكسيكية التي ترجمت الى اللهجات المحلية , ولا حديث عن الانحطاط الاخلاقي والتفسخ الاجتماعي الذي تتميز به هذه المسلسلات , ومواقع التواصل الاجتماعي التي تعتمد على _ الدارجة _ في علاقات التواصل والتفاعل ,وفي احيان اخرى تكتب الجمل بصيغة عامية ,لكن بحروف فرنسية وانجليزية ,ولا يمكن ان تجد طرفين يتجاوبان بلغة عربية سليمة وليس فصيحة . وهذا ينم عن قمة الاستهتار بها , وفرض حصار عليها , وتقليص دورها في الفكر العربي المعاصر ,لان المنطق المتداول يفرض التعامل بلغة اجنبية غير العربية , وذلك يتجلى في مجالات الادارة ومؤسسات الدولة ,وحتى جمعيات المجتمع المدني ,تجد المراسلات باللغة الفرنسيي او انجليزية في امكنة تنطق عربي , وتكريس واقعا بات مالوفا نظرا لاثار الاستعمار الاجنبي على هذه الاقطار العربية , وتحديد دورها في كتب الادب والفقه الاسلامي ,وفي ندرة البرامج الثقافية والمسلسلات التاريخية ,والبرامج الوثائقية .وكلنا يتذكر برامج المسابقات الثقافية التي ظهرت لفترة واختفت او حجبت....

مثل "المفاتيح السبعة" و"بنك المعلومات" واخرها "من سيربح المليون؟
وأمام هذا الواقع الجديد ،الذي تعيشه اللغة العربية ،جاء مؤتمر المجلس الدولي الخاص بلغة - الضاد - الذي وقف عند الاخطار المحدقة بها في ظل التكنولوجيا الحديثة ،حيث أصدر المجلس وثيقته الأولى حول واقع اللغة ،وقد شاركت فيه أكثر من 47 دولة في العاصمة اللبنانية ،وتؤكد هذه الوثيقة الرسمية عن خطورة الموقف الذي آلت إليه اللغة ،وحذر من المخاطر التي تهدد بقاء اللغة ،وإمكانيات الحفاظ عليها ،والبحث عن وسائل تطويرها حسب التطور التاريخي الذي يمر منه كل جيل على حدة٠
اللغة العربية في خطر ،هكذا يبدو المشهد العام بتدارك ما فات ،ووضع برامج مسؤولة لإنقاذها من مخالب الإهمال والتقاعص الممنهج الذي تمارسه السياسات العربية التي لا تحمل بذرة غيرة على لغتها القومية ,لأنها ثمرة عزتنا وعروبتنا ،وتاريخنا الحافل بالأمجاد ،ونفتخر بها أمام الأمم الأخرى .وفي ظل الحالة الراهنة التي تعاني منها الأمة العربية والإسلامية ،فقد حان الوقت -في خضم التحولات التي يشهدها الواقع السياسي -لإعادة النظر في التركيبة المؤسساتية التي تسهر على خدمة اللغة العربية ،وفروعها الثقافية والفنية ،وفي شتى ضروب المعرفة التي تنتمي إليها .
وهذا لا يتحقق إلا بوجود إرادة قوية في إصلاح منظومة التعليم والتربية ،وخلق مناهج علمية وعملية لمواكبة التطورات الحاصلة في العالم ،وتطوير آليات الحكامة وخلق فرص تنافسية أمام الجميع ،ودعم قطاع الثقافة بالإمكانيات المادية الحقيقية ،ودمج اللغة العربية ضمن وتيرة التكنولوجيا الرقمية ،وذلك لا يتأتى إلا بوجود وعي معرفي شمولي ،وإنتقال ديمقراطي في التعامل مع المحيط الإجتماعي بكل نماذجه في محاربة أسباب الأمية ومظاهر الجهل ،وتعزيز أجواء المواطنة في القيم الوطنية التي يعتز بها كل مواطن عربي ٠
ومع التطورات السريعة التي تعرفها الشبكة العنكبوتية في بقاع العالم ،نجد أن مواقع التواصل الإجتماعي ساهمت في السنوات العشر الأخيرة باستخدام اللغة العربية على نطاق واسع ،وذلك ما أكدته اللجنة الإقتصادية و الإجتماعية لغرب آسيا (الآسكوا).أن اللغة العربية حققت أعلى نسبة نمو على شبكة الإنترنت مقارنة مع اللغات الأخرى ،كما تشير اللجنة أن العربية يتحدثها أكثر من 422 مليون نسمة في الوطن العربي ،ومناطق أخرى توجد بها أقليات في الأهواز وتركيا وتشاد والسينغال وإريتريا ،وتصنف اللغة العربية في الترتيب الرابع عالميا ضمن ست لغات رسمية ،كما
تنص منظمة الأمم المتحدة
التحديات كبيرة لتصحيح وضع اللغة العربية ,وتشجيع تداولها منذ السنوات المبكرة ,واسقاط الفكرة المتداولة في العرف العربي الحالي ,بان العربية لا مستقبل لها امام المناهج العلمية التي يتطلبها سوق العمل ,بالاضافة الى وجود لغة ثانية يجيدها العربي اكثر من لغته الام,وفي ظل هذا المازق المخجل , هل نظل مكتوفي الايدي لحماية اللغة العربية ؟ كما ضاعت منا اشياء كثير ة ,وباتت من الماضي السحيق .

كاتب من المغرب

CONVERSATION

0 comments: