ليل الدم على الأكف/ محمود شباط

وَضَّبْتُ حقيبتي ووضعتها في السيارة تمهيداً لانطلاقي في رحلة عمل من مدينة الخُبَر إلى منطقة "الشيبة" في الجنوب الشرقي لصحراء الربع الخالي. كعادتي قبل السفر جلست على الشرفة أرشف قهوة انتعاش ما قبل الإنطلاق كي لا يفترسني وحش النعاس. في تلك الأمسية كانت السماء تطرز عباءة الليل بنجمة إثر نجمة كأم تضيىء شموع كعكة عيد ميلاد طفلها شمعة شمعة. على ضوء القمر وقناديل السماء الوامضة باستحياء في البعيد البعيد انطلقت وفي البال أن أعَرِّجَ في طريقي على جهانجير، الشاب الآسيوي الذي التقيته خلال رحلة عملي السابقة.
لـِلَّيل بين مدينتي الـخـُبـَر والهفوف اسم آخر، قد يكون الأنسب له هو ليل الدم على الأكف والجـِمالِ السائبة والشباب المتهور الذي يقود بغرور الـ "أنا هنا" وباستفزاز وذهنية الـ "طريق لي". الليل نفق طويل أسود لا نهاية له. وعلى شاشة الذاكرة تطوف ببطء ملامح جهانجير المضرجة بالفقر، وكذلك مشهد سيارة الـ "فان" القديمة المهترئة البائسة التي يبيع فيها مرطبات وسندويشات، والتي كتب عليها بخط يده "جهانجير ميني ماركت".
عند شروق شمس صباح اليوم التالي قدَّرْتُ بأني قد أصبحت على مقربة من موقع جهانجير ميني ماركت قرب الصخرتين الشاهقتين المنتصبتين كشاهدين على تاريخ تلك المنطقة. في ذلك الهجير الصحراوي الأصفر، وعلى وقع أزيز المحرك وإطارات السيارة على إسفلت امتص نصف الحرارة المرسلة من الشمس إلى كوكبنا. استمريت في القيادة ورشف أكواب القهوة تباعاً. صوت فيروز يتماوج من آلة التسجيل كانسياب يمامة صغيرة تعود من طلعتها الأولى. خففت سرعتي حين لاحت الصخرتان في البعيد، وحين وصلت المفترق المؤدي إليها انعطفت يميناً لمسافة قصيرة. هناك كان جهانجير رابضاً بسكينة في الظل المترع بحرارة الرمضاء الكاوية، وحين رآني هَبَّ ولاقاني مُلوِّحاً بيديه كجناحي طائر يصارع العاصفة.
في جلستنا الثانية تلك أخبرني جهانجير بأنه صار يحب عزلته الموحشة، لفتني إلى ما غاب عن بالي بأن في الصحراء أيضاً جَمَالٌ لمن يرغب في رؤية الجمال واستساغة نكهته ثم أشار إلى جارتيه الصخرتين المعتقتين بأصابع الزمن المزخرفتين بريشة الريح. أخبرني بأنه يجلس ساعات طوال يتأملها وينتزع من أشكالها صوراً حلوة تعوضه عن مرارة وحدته.
وبينما هو يحكي كنت أصغي وأجول النظر بما حولي، افتقدت الطيور التي كان قد قال لي بأنه يخرجها من قفصها الكبير خلال النهار ويعيدها إليه قبيل الغروب. كما افتقدت المقطورة التي يضع عليها القفص فسألته عنها .
ابتسم بحزن وانكسار المغلوب على أمره . لَوَّحَ بيده وقال : اشتراها الوحش .
مازحته : قد يشتريك أنت في المرة القادمة !
مال نحوي وهمس كما لو أنه يخشى أن تسمعه الصخرتان رفيقتا كثبان الصحراء :
- أخشى وحوش البشر أكثر
ثم أخبرني بقصتة مع الرجل الملتحي، قال لي :
- يمر بي رجل ملتح ليشتري. مرة أعطيته ما طلبه مني ولكنه لم يدفع، تظاهر بأنه نسي محفظته في منزله ووعدني بالدفع لاحقاً ولكنه أنكر علي حقي. جاء أمس ، رأيته مقبلاً بسيارته البيك آب. تشاءمت من زيارته فهرعت إلى داخل سيارتي وأقفلتها. وصل ودق على السيارة بعنف فلم أرد . ابتعد قليلاً وفرد كوفيته على الأرض، أدى صلاة المغرب، سلّمَ على الملائكة، مسح لحيته بكفيه ، وقف ونفض كوفيته واعتمرها، ثم استدار متجهاً نحوي وبدأ يدق على السيارة بعنف أكثر هذه المرة ، أيضاً لم أرد. حين تعبت يداه من الدق سمعت منشاره يعمل بقطع السلسلة المعدنية التي تربط عربة الطيور بسيارتي وقطرها خلف سيارته. لو كنت في مكاني لخشيت وحوش البشر أكثر من الذئاب لأن الذئب يكتفي بطير بينما وحوش البشر تأخذ كل الطيور وأقفاصها
- "السلب ملحد عابر للأديان" قلت له .
حدجني جهانجير باحتجاج، لم تعجبه كلمة "ملحد" ولكنه وافقني على فكرتي بهزة من رأسه مرات عديدة ببطء وتأكيد.
في تلك الأثناء أقبلت سيارة بيك آب نحونا. قال لي جهانجير بأن القادم هو نايف ابن الرجل الذي وعد جهانجير بنقل كفالته. وصل الفتى واشترى ودفع وانصرف دون كلام سوى السلام.
حين ابتعد نايف قال لي جهانجير : لا أدري إن كان هذا الفتى يصلي أم لا ؟ لم أره أبداً يصلي رغم أنه كان يأتيني في أوقات الصلاة، ولكنه شريف مستقيم، يستدين أحياناً ويرد لي الدين، في الأسبوع الماضي طلبت منه مساعدتي لنقل كفالتي فأصطحبني إلى حيث يقيم أهله. (أشار جهانجير بيده إلى غرفة تفتيش لخط أنبوب الغاز الضخم) وقال :
من ذلك المفترق انعطف بي نايف صوب ربوعه، كانت الظهيرة قائظة ، لمحت في سراب الصحراء، في البعيد البعيد ناراً ودخاناً و قطيع بعير ومضارب بدو. وحين وصلناها أطلعت أبا نايف على مأزقي. رَقَّ لحالي وقال لي بأنه سينقل كفالتي على حسابه دون مقابل على أن أتدبر أمر عملي في السوق.
قلت لجهانجير محذراً : أرى بأن تبادله المعروف بالمعروف ، قد يكون هذا الطيب جاهلاً بأن جميله المشكور ليس نظامياً ويُعرِّضكما معاً للمساءلة ولما لا تحمد عقباه.
امتقعت سمرة وجه جهانجير، هيمنت عليه الخيبة بعدما كان قبل لحظات يشعر بأنه حر طليق كنسر يفرد جناحيه في الأجواء الرحبة اللامحدودة، ينساب بطمأنينة على تيار هواء سخره القدر لحمله. احمرت عيناه واغرورقتا، تشنجت ملامحه بالضبط كما تغيرت في المرة الماضية حين تذكر مقتل أمه على يد "استشهادي" قصد قتل "الكفار الصليبيين" ولكنه أخطأهم فقتل ربة منزل ويـَتـَّمَ أطفالها ، ازداد ارتجاف اليدين وارتعاش الشفتين وعضلات الوجه وصار يرمش بسرعة ثم دمدم بكلمات سريعة : وعدني "الرجل الفضي" بإعادة الزمن إلى الوراء كي أرى وجه أمي.
مع التبدل المفاجىء الطارىء في ملامح جهانجير ولهجته انتابني دوار التعاطف وقلق المترقب لخطب سيء فقررت الانصراف.
وقفت واستأذنته فأمسك بطرف قميصي وشدني بعنف كي أجلس فجلست صاغراً وبدأ يهذي عن "رجل الفضاء الفضي" الذي يجيء من السماء كل يوم خميس، يسأله عما يريده ويلبي لجهانجير كل ما يطلبه منه .
حاولت الوقوف بهدوء لأعتذر من جهانجير وأمضي في حال سبيلي قبل أن ينتفض مارد العنف والجنون. اتضح لي بأن قراري جاء متأخراً حين هددني الشاب بهدوء: لن ترحل الآن، ولئن تحامقت فسوف يمسك بك "الرجل الفضي" ويعيدك لي مكبلاً.
- حسناً ، سأبقى معك. ما الذي يمكنني فعله من أجلك ؟ سألته .
- سوف نتسلق إحدى تينك الصخرتين ونصرخ معاً كي يعود الزمن إلى الوراء كي أرى وجه أمي.
سرت كهرباء الارتجاف في كل كياني لاستحالة وهول تسلق صخرة ملساء بارتفاع عمارة كبيرة. ولكني لم أتجرأ على الرفض. قادني عنوة إلى أسفل الصخرة حيث نقطة انطلاقنا المفترضة صعوداً، حاولت أن أجد ما أمسك به أو أسند قدمي عليه فلم أعثر على أي نتوء بها. تظاهرت بمحاولة التسلق وكنت أراقبه. كان يحاول مراراً وعبثاً الصعود ولو بارتفاع قدم ثم ينزلق. توقف أخيراً حين أثخنته الجراح فأشار علي بالعودة إلى السيارة انتظاراً للرجل الفضي الذي سيتولى رفعنا إلى قمة الصخرة.
في جلستي مستسلماً كأسير دون قيد في سيارة جهانجير، وتحت وطأة الغثيان والرعب ثقل جفناي وشعرت بدوار. شعت في الجوار هالة فضية داكنة تحولت إلى فضي فاتح فأبيض ببياض كفن. ظهر في وسط الهالة عملاق يرتدي بزة رائد فضاء فضية اللون.
في شبه غيبوبتي كنت أسمعهما يتحادثان . صوت الرجل الفضي يدخل أذناي كرنين نحاسي منبعث من بئر عميق يستفسر جهانجير عن أي منا سيرفعه على الصخرة أولاً ، وسمعت جهانجير يقول له كي يرفعني أولاً فصرخت بجهانجير بأني أفضل الموت على الأرض . لا تدع الرجل الفضي يرفعني إلى قمة الصخرة.
حين استقمت في جلستي مبعثراً تائهاً ، تفرس جهانجير بوجهي ، قهقه عالياً وسأل : عن أي رجل فضي تتحدث ؟
رثيت لحاله ولحالي وعتبت على الزمن. ورويداً رويداً كان التوجس يسدل ستائره مفضياً المساحة لبزوغ شمس الثقة من جديد. مسح جهانجير دم الجراح عن كفيه. ضحكنا. مشيت ووعدته بالعودة مرة أخرى .

CONVERSATION

0 comments: