الحب الأبدي/ أحمد خيري



هي " "أمينة " " .. ترأس جمعية مساعدة المعاقين .. رسامة .. حالمة .. لا تفارق الابتسامة وجهها ..

أنا وبدون خجل .. أو تبريرات.. أو إثارة للشفقة .. من وجهة نظري رجل فنان مبدع لا يضارعني أحد في رسم اللوحات الزيتية .. ومن وجه نظر أهل المنطقة التي اقطن فيها "نصف كائن" .. لا تتعجبوا .. فأنا لا ألومهم على تعاملهم معي .. فهم مغلقون .. منومون .. المال كل هدفهم في الحياة ..

الحب الأبدي .. قصه قصيره بقلم الكاتب الصحفي الاستاذ احمد خيري

طفولتي كانت قاسية .. أسرة فقيرة .. أطفال شارع يتهربون من مخالطتي في اللعب .. وأحيانا يتعمدون قذفي بقوة ليلتطم الكرسي المتحرك الذي يحملي بأحد الحوائط .. فاحلق من فوقه في الهواء ساقطا علي الأرض.. لترتفع الضحكات واللمزات ساخرين من حالي.. لقد خلقت بساقين ممصوصتين .. ملتويتان حول بعضهما .. يدان مضمرتان لا تقويان علي حمل " ملعقة " الأكل.. كلماتي تخرج بصعوبة .. متلعثمة .. محملة برزاز.. لا يفهمها كثير من الناس..

لا تتخيلوا بأن كل ذلك هي المشكلة التي أحدثكم عنها .. فبالعادة تعودت علي كل ذلك .. وبالوقت تحولت نظرات الإشفاق إلى عادة .. ونظرات الاشمئزاز والتأفف من شكلي إلى عادة .. وأصبحت أعيش وسط الناس بالعادة ..

مشكلتي .. في مضايقة الناس ل "أمينة" .. الكل يسأل .. يتلصص .. وهي تقابل كل ذلك بابتسامة غريبة ..هادئة .. تضفي على معالم وجهها.. سحر وتحولها إلى لوحة ربانية مبهرة جاذبة..

حاولت مرارا نهرهم .. الصراخ فيهم ليبتعدوا .. ولكن ضعفي كان يعيدني إلى نفسي صامتا.. مهزوما .. شاعرا بهزال .. بخزي .. كلماتي غير مفهومة .. لا يدركها غير " "أمينة " " ..

المشكلة لها جذور .. لم تكن وليدة اليوم أو أمس.. بدأت منذ عامين .. حينما تعرفت علي "أمينة " .. وقتها كنت رساما معروفا في قريتي ..

لا تتعجبوا.. الوحدة علمتني الصبر .. وبالصبر تدربت على الرسم .. وبالصبر استبدلت يدي اللتين تعجزان عن الإمساك بطرف الفرشاة .. بفمي .. بالتمرين .. والتدريب .. أصبحت شفتاي دقيقة في تحريك الفرشاة فوق لوحة الرسم ، كل ذلك كان قبل مجيء " "أمينة " " إلى قريتنا ..

هي رسامة معروفة .. جاءت من المدينة القريبة لتتولى جمعية الخيرية في قريتنا .. بهرتها لوحاتي وسرعتي في الرسم .. ولكنها بدأت في تدريبي على أساليب الرسم الحديثة.. وبقينا علي ذلك النحو أكثر من شهرين .. بعدها اقترحت الخروج من نطاق قريتنا إلى أحدي القرى السياحية القريبة لاكتساب الرزق ..

كان موجات من العرق تتصبب .. ووجهي تضربه حمرة خجل مصحوبة برعشة شديدة .. تتحول لانتفاضه لكافة أطرافي الميتة كلما رأيتها .. أو الاستماع إلى صوتها الرقراق .. كل ما استطيع قوله لكم .. أن ذلك الشعور كان يرتفع معي كلما كانت تقترب مني ..

فجأة قررت عدم الذهاب للجمعية .. تهربت .. بعدت .. أغلقت علي حجرتي .. ما جري لي معها في آخر لقاء كان صعبا للغاية..

اعذروني فان تذكر تلك اللحظة صعب جدا .. وقتها كانت في مكتبها .. صامتة .. متأمله للأزهار والأشجار من النافذة الكبيرة .. الجمعية كانت خاوية .. غير من موظفة قادتني بالكرسي نحوها .. ابتسمت نحوي .. فرحة ممزوجة بحزن دفين انطلقت من عيونها .. اقترب .. تناولت من فوق قدمي لوحتي .. امعنت فيها النظر .. ذهبت بعيدا .. أغمضت عيونها .. اقتربت بيديها من خصلات شعري البني .. مررت أناملها .. اقتربت من أذني :-

- أنت أعظم راجل وفنان

وقتها انتفض جسدي .. أحمر وجهي بطريقة غريبة .. غابت الحجرة .. ازدادت السحابات أمام عيني .. غبت عن الدنيا .. لسعتني قطرات ماء انفرطت مني دون شعور .. ظهرت كبقعه كبيرة علي البنطلون ..

انتابتني حالة من القرف المقترن باحباط شديد .. شعرت بضآلة نفسي وقتها .. صرحت .. بكيت ..

- عاوز اروح للدار عندي .. حالا

لا أنكر أن فرحتي بكلماتها .. كادت تعميني عن حالتي المرضية .. كادت تذهب بعقلي لعالم كنت احلم به .. فتاة رقيقة تستوعبني .. تدللني .. تأخذني بين حنايا صدرها كلما تأزمت الحياة حولي .. أحببتها ..

بعد شهور كسرت مخاوفي .. قلت عليها أنها مجنونة .. مخبولة .. وهي تضعي يديها علي شفتي كلما قلت لها ذلك .. سكتت .. صممت .

من شهر بالكمال والتمام .. "أمينة " تتوقف بالكرسي المتحرك بجوار احد حوائط الأثرية عند مدخل القلعة المحيطة بالقرية الأثرية.. نافورة كبيرة تترقرق منها حبيبات الماء علي تمثال لشخصين متعانقين يربط بين جسدهما العريان سهم يخترقهما معا .. فناء واسع علي الناحية المقابلة لوقفتنا .. مقاهي فقيرة .. سكان تظهر علي ملابسهم وإطلاق لحياتهم الفاقة .. معدومين .. أناس كل همهم البحث عن كسرات خبر وبقايا قطع جبن عفنة من مخلفات الأجانب في صناديق الزبالة .. ولكن رغم فقرهم إلا أن عيونهم باردة .. وجوههم جامدة منحوتة من جبال الامبالاه .. ملاعين .. متطلعين.. لا يتورعون علي مغازلة الأجنبيات و" "أمينة " "..

لا يتورعون عن توبيخي .. عن التندر علي حالتي وعدم قدرتي الجسدية .. بأصوات مرتفعة دون خجل أو رحمة .. همساتهم تتناهي إلى سمعي دائما .. " سارة " تعاني من تلصصهم وملاحقة جسدها .. تهمس احيانا في اذني :-

- أهل القرية عندهم قلة أدب .. باحس اني عريانه من كلماتهم

جسد "أمينة " فارع .. ملفوف بطريقه منحوتة .. تتدفق منه أنوثة ملحوظة .. كانت تحتاج إلى الإنحاء الشديد للأمام كلما أرادت دفع الكرسي .. فيظهر أمامهم قوامها الممشوق..وتضاريس صدرها البارزة التي تعجز خصلات شعرها الأسود الطويلة عن ستره ..

حتي تتخلص هي من تلك العيون .. أخذت الكرسي وأدخلت عليه بعض التعديلات بمساعدة ورشة لحام.. رفعت يديه بطريقة غريبة .. وضعت عليه مظلة من البلاستيك تتدلي منها "شراشيب" من القماش المطرز .. حتى تحميني من حرقة الشمس .. لأن وجهي ابيض مدور يلتهب من أشعة الشمس .. في مؤخرة ثبتت حقيبة من الجلد.. ضخمة بعض الشيء .. تستوعب الغداء وبعض زجاجات المياه وأوراق الرسم والألوان والفرش .. وضعت أمامي مباشرة لوح من الحديد ، بطريقة تيح وضع أوراق الرسم والألوان .

كل يوم تسألني "أمينة " :-

- تحب أن نغير مكان وقفتنا .. بس هنا أحسن علشان الاجانب

ابتسم نحوها .. بشكل يجعلها تضحك فتظهر غمازتان علي جانب وجنتيها .

المشكلة التي أحدثكم عنها .. هي تلصص الناس .. وتحرشهم بسارة التي تقف عاجزة .. فهي لا تقوى برقتها علي مجابهة صفاقة الناس .. وكان يشغلها الخوف علي مشاعري وإحساسي .. ولكني كنت اسمعهم وهم يوجهون الكلمات الجارحة .. وأحيانا يتمادي البعض لملامستها :-

- يا بنتي سيبك.. جميلة زيك تمشي مع مسخ

كانت "أمينة " تتهرب .. تريد أن تشعرني بأنها منشغلة لا تسمع شيئا .. لا أنكر بأن كل ذلك كان يفيقني من سكرتي .. يمزقني .. بركان من الجحيم يغلي بداخلي .. ينساب بين أطرافي ويصعد إلى رأسي ..

حتى لا أشعرها بعجزي أو عدم قدرتي في الدفاع عنها .. أمسك بفمي بعصبية واضحة علي الخطوط الكثيرة المنتشرة علي جبيني ومعالم وجهي .. أمسك طرف فرشاة الرسم واضغط عليها بشدة.. وأغمض عيني برهة .. أتخيل اللوحة وأنفصل عن المتلصصين .. لا أرى غير عيون "أمينة " .. ابتسامتها الساحرة .. تحيطنا طيور صادحة وفراشات ترفرف .. حولنا كائنات زاهية بأجنحة من ريش مخملي .. من جنبات المكان يتصاعد عطر مسكر .. وبسرعة تنساب فرشاتي تسجل فوق اللوحة أجمل سيمفونيا.. ينبهر بها الأجانب ممن يلتفون حولي .. يهمسون.. يشيرون .. يبتسمون .. يضعون الدولارات .. يشترون من "أمينة " لوحاتي ..

بين الحين والآخر اختلس النظر إلى "أمينة " .. المح عيونها تتابعني.. لا تشعر بالأجانب من حولنا حينما يطلبون شراء احد اللوحات .. يضطرون لهزها من كتفها لتفيق .. لتصحو .. لتنزل علي الأرض .. بسرعة تمنحهم اللوحة التي يريدونها بدون أن تهتم بالسعر .. تسارع بالعودة إلى عالمنا وكأنها تلهث .. تئن.. ثواني معدودة تعود لتحلق بين الخطوط بين الفرشاة ..

بين الحين والآخر كان وجهاء القرية .. من مدعي المساعدات الإنسانية .. يخرجوننا من حياتنا .. فجأة نجد الواحد منهم يقف فوق رؤوسنا .. الراجل فيهم يقف متباهيا بهامته وجلبابه الأبيض .. يتحدث إلى " "أمينة " " بطريقه توحي أنه لا يراني .. كلماته ترتبط بغمزات وضحكات .. وفي نهاية كلماته يبرز من جيبه أوراق مالية كثيرة .. يستعرضها امام "أمينة " .. لا ينسي في كلماته ان يتحدث عن فعل الخير والتصدق واستعداده لتولي امرنا.. ولكنه يصدم برفض "أمينة " كل تلك الكلمات ..

- عارف الفنان دا قيمه ايه

ترفض وريقاته .. تزجره .. تمنحني أحساس أنني رجلا .. فنان .. فيهرول الرجل منهم مبتعدا عنا بسرعة وهو يخبط بكفيه ..

- ناس غاوية شحاته

حينما يحين الغداء .. تستخرج "أمينة " من الحقيبة الأطعمة.. في بداية معرفتي بها كنت اخجل من تناول الأكل معها .. أخاف أن تصدمها رؤية بقايا الأكل وهي تسقط من فمي لتغطي صدري .. ولكن بالوقت تعودت منها أن تمسح فمي .. تنظف ملابسي كلما وقعت بقايا الأكل..

المارة من الناس يتقززون .. ينفرون حينما يرونني أتناول الأكل .. يتعجبون علي "أمينة " وهي تناولني الطعام .. تمسح بقايا الأكل .. تمسك بيدها كوب ماء يتساقط نصفه فوق ملابسي من الرعشة التي تجتاحني ..

في آخر اليوم .. تتبدل الحياة في القرية .. يقل عدد السائحين .. ويبدأ أهل القرية.. في ارتياد المكان ..

المتسكعين منهم يلتفون حولنا .. أجساد فارعة .. عقول خاوية .. كل منهم اقتنص من بيته قليل من الأموال.. حتى يتسكع بها علي تلك المقاهي.. لا شغل لهم غير النوم بالنهار والاستيقاظ ليلا .. المتطفلون منهم يبدءون في معاكسة "أمينة " بألفاظ جارحة.. تجعل الدماء تتدفق بسرعة إلى رأسي..

أحيانا كان البعض منهم يتمادى .. يتحرشون بها وهي جالسة بجواري ، دون أن يعيرون وجودي ادني اهتمام .. منهم من يعرض عليها الزواج أو تقضية وقت .. تحتاجني مشاعر غضب عارمة .. أحاول أن استجمع كل قوتي .. لأصرخ .. أقف .. ولكن صوتي وساقي الملتويتين ويدي المضمري تمنعاني من البوح لهم بأنها زوجتي وساقي وذراعي .

CONVERSATION

0 comments: