صباحكم أجمل: استلبت روحي كفر اللبد ـ الحلقة الأولى/ زياد جيوسي

كفر اللبد: منظر عام وعدسة زياد جيوسي

لقد استلبت روحي كفر اللبد. هكذا خاطبت الحضور في أمسيتي في هذه البلدة الوادعة التي تفيض حباً، وأكملت: كفر اللبد تعني في اللغات القديمة المكان المرتفع الكثيف الشجر، وقد ارتبطت كفر اللبد في ذاكرتي بعلمائها الأجلاء، ففي الوقت الذي كانت معظم البلدات والقرى في وطننا ترزح تحت سطوة الأمية والجهل، كان العلماء ينيرون الوطن والمنطقة من أبناء كفر اللبد، حتى أصبحت كلمة اللبدي نسبة للبلدة تشير في أذهان المستمع إلى أسماء العشرات من علماء البلدة الكرام، إضافة إلى ارتباطها بذهني بدورها المشرف في الثورات الفلسطينية، وما زالت اراضيها تضم مقابر شهداء من ثورة 1936، وأنا الآن، وأنا في بلدتكم وبينكم، أشعر أني أحلق فوق الغيوم، وأجول الفضاء فرحاً وبهجة، وبينكم أشعر أني فراشة تطير بين الأزهار والورود، وأعتقد أن رام الله بعد هذا العشق ستذهب بي للمحكمة الشرعية غاضبة، لكني أراهن على روعتها ورقة قلبها أن تعذرني، لأن روحي استلبتها كفر اللبد، كما عشق قلبي جنين وتاه ولهاً بعنبتا، وعشق كل البلدات التي التقاها في روابي الوطن..

حين زرت عنبتا في زيارة سابقة، أتيح لي أن ألتقي بعض شبيبة كفر اللبد، وزرت بلدتهم زيارة سريعة وعابرة وعلى فنجان قهوة، ووعدتهم أن ألبي دعوتهم في زيارة خاصة للبلدة، وحين كنت ألبي دعوة اللقاء مع جنين، وفي أمسيتي الأدبية فيها، أبلغتني السيدة سوسن نجيب، والتي كان لي شرف اللقاء بها حين دعتني ورتبت زيارتي لبلدتها عنبتا الحورية الكنعانية، بتحديد موعد لي للقاء كفر اللبد، في الثاني عشر من أيار لهذا العام. وافقت بدون نقاش، فبلدة وادعة وجميلة ككفر اللبد، لا يمكن لروحي الا أن تلبي نداءها، وتحلم بلحظة معانقتها.

في عصر الأربعاء الحادي عشر من الشهر كنت أمتطي مركب الريح متجهاً إلى طولكرم، فأنا الكرمي ابن جيوس تربطني بطولكرم علاقة عشق خاصة، فزرت بيت أخي الأكبر وسيم والتقيت بأسرته، وجلت الدروب الكرمية سيراً على الأقدام في المساء، لاستعد لبرنامج زيارتي لكفر اللبد في الصباح التالي، ومنذ السادسة صباحاً كنت أصحو من نومي وأحتسي قهوتي مع شدو فيروز، استعداداً لتلبية دعوة الإفطار في بيت الأصدقاء أبي فراس وزوجته سوسن نجيب، لألتقي هناك صديقي خالد الهمشري الذي سيرافقني التجوال في كفر اللبد، ومع إفطار تقليدي شهيّ أعدته السيدة سوسن، كانت مفاجئة لعلها أثمن من كل أوسمة الأرض؛ رغيف من خبز الطابون محشواً بالزعتر الأخضر، ومنقوشاً عليه بحروف نافرة اسمي، فأثارت هذه المفاجئة فرحي، فالزعتر الأخضر يرتبط بروحي وبشعبي إلى درجة كبيرة.

قلعة البرقاوي: وعدسة زياد جيوسي
أنهينا الإفطار واحتسينا القهوة وحلقنا بإتجاه كفر اللبد، وفي الطريق كنت أشعر بروحي كفراشة محلقة، وما أن دخلت البلدة حتى لفت نظري حجم النظافة فيها، ووجود حاويات القمامة في أكثر من موقع في طريقنا، إضافة إلى الأرصفة المدهونة واليافطات المرورية، كما انتبهت للاهتمام بالشوارع المعبدة، وهذه حالة مميزة لبلدة صغيرة الحجم، ولا يزورها إلا من يقصدها، فهي ليست على طريق رئيس، وليست معبراً لبلدات أخرى، وفي العاشرة كنا في المجلس البلدي واستقبال جميل أضاف إلى ما كونته روحي عن البلدة وأهلها جمالاً آخر، فكان استقبال مميز من الأخ زياد الجعبيتي رئيس البلدية والأخ عبد الفتاح أبو ليلى، ومجموعة طيبة من شباب البلدة، لنتجه بعد اللقاء الطيب وفنجان القهوة إلى بداية الجولة من قلعة البرقاوي، ووجود القلعة في أعلى البلدة يدلل كم أن البلدة كان لها موقع استراتيجي مهم، وكم كان فرحي كبيراً أن أجد القلعة تحت الترميم، فهذه القلعة ترتبط بتاريخ المنطقة منذ العهد العثماني، وهي جزء من عدة قلاع حملت الاسم نفسه نسبة لأحد المشايخ الذين حكموا المنطقة بتلك الفترة، ففي فترة الحكم العثماني ظهرت مجموعة كبيرة من القلاع التي تحمل حتى الآن أسماء أشخاص أو عائلات، وكانت تحت إشراف عائلات إقطاعية تقوم بدور الوكلاء للحكم العثماني، وارتبط قسم منها بذاكرة المواطنين بالقمع والاضطهاد، وفي جوانب أخرى برجال قاتلوا ضد المستعمرين خصوصاً الفرنسيين في عهد نابليون.

هنا سكن الأجداد والجدات وحفروا الصخر بسواعدهم.. عدسة زياد جيوسي
كفر اللبد بلدة ضاربة القدم، فهناك آثار رومانية ما زالت ظاهرة للعيان، وما زالت هناك مدافن قديمة وخزانات الماء المحفورة في الصخور، وعدد من الخرب الأثرية والكنائس والقلاع الرومانية المطعمة ساحاتها بالفسيفساء، وهذا يدلل كم أن تاريخ البلدة حفل بالأحداث التاريخية، وأن كفر اللبد تضم في جنباتها من الآثار ما يروي حكايات التاريخ، إضافة إلى دورها الثقافي والعلمي والأدبي من خلال عدد كبير من المتميزين بالعلم والأدب في تاريخها، ويكفي أن أشير إلى أن أحد كبار علماء الدين وممن لهم دور اساسي بنشر المذهب الحنبلي كان من مواليد كفر اللبد وهو الشيخ محمد بن أحمد بن سعيد عز الدين الذي ولد في العام 1370م، وهذا الشيخ واحد من عشرات من أبناء كفر اللبد الذين تركوا بصماتهم واضحة في المجال الثقافي والعلمي.

قلعة البرقاوي تحمل في جوانبها المختلفة حكايات كثيرة، وقد تجولت في كافة أرجائها، وتأملت الحجارة الصلبة والضخمة التي تروي الحكايات، وجلت قاعاتها وأدراجها وأسقفها، ولم تتوقف عدستي عن التصوير، وكنت أشعر أني شاب في مقتبل العمر وأنا أتنقل بعنفوان وأقفز من زاوية إلى زاوية ومن موقع إلى موقع، فتذكرت في سري الشاعر أبو العتاهية وهو يهمس:

"ألا ليت الشباب يعود يوماً/ فأخبره بما فعل المشيبُ"

وقلت: لو أتيت يا شيخنا كفر اللبد وتجولت فيها، لما شعرت بالكهولة ولا بالمشيب، فهنا في عبق التاريخ، ستشعر بدم الشباب يتدفق حاراً في عروقك، ولن تذكر الشيب ولا المشيب.

تاريخ يروي الآف الحكايات في كفر اللبد وعدسة: زياد جيوسي

 
من قلعة البرقاوي وبعد أن استأذن الأخ زياد الجعبيتي رئيس البلدية والأخ عبد الفتاح أبو ليلى لمتابعة شؤون البلدية وترتيبات الأمسية، أكملت الجولة مع الصديق خالد الهمشري والشباب الرائعين سامح صقر ونشأت محفوظ وانضم إلينا من القلعة شاب رائع اسمه مروان محمد حسن، وشعرت به رغم سنه وبساطته يحفظ تاريخ البيوت في البلدة، فزرنا معصرة ومطحنة قديمة كانت عبارة عن مشروع لعصر الزيتون وطحن الحبوب بوساطة الآلات، وهي الآن مهدمة، وآمل أن يحتفظ بما تبقى من آلاتها في متحف طولكرم، أو أن يتم بناء ملحق بالبلدية يضم مثل هذه الآثار التي تروي حكاية البلدة، لنكمل الطريق بكافة أرجاء البلدة القديمة، فمنها بيوت أصبحت مهدمة تماماً، وبيوت آيلة للسقوط، وبيوت ما زال يقطنها السكان، وكل بيت وكل زقاق من هذه البلدة تشعر بحجارته تروي حكايات عن الجدود والجدات، وآمل أن يتم ترميم بعض منها خصوصاً تلك التي تميزت بشكل البناء والمساحة، لتصبح مقرات ثقافية وفنية تخدم البلدة وتساهم بنشأة أجيال ينتمون لبلدتهم ويحمون تاريخها وتراثها، وحقيقة أستغرب مسألة في معظم البلدات التي زرتها، فالبيوت الجديدة مبنية بالأسمنت لأن التكلفة أقل من البناء بالحجارة، بينما يمكن الاستفادة من حجارة البيوت المهدمة لتكون أساساً للبيوت الجديدة، فنحافظ على روح التراث ونحافظ على جماليات بلداتنا بدلاً من هذا السيل الجارف من بيوت الأسمنت التي تفتقد روح التراث وتفتقد الجمال.
مع ذاكرة كفر اللبد والحاج (أبو فيصل) شاكر أبو خميش

 
جلنا الدروب والأزقة، ودخلت عشرات البيوت التراثية، ورغم تحذير صحبي لي أكثر من مرة أن أنتبه ولا أغامر، إلا أن عناية المولى كانت تحميني، وكنت أشعر بأن أرواح الأجداد كانت تحيط بي وترف من حولي، تهمس لي حكايات كثيرة، وكنت أشعر بكفر اللبد حورية فلسطينية ترتدي الثوب الكنعاني المطرز، تضمني بكل الحب، وترويني من مياه آبار تجميع المطر، فلا أشعر بالتعب ولا بالجهد، وكنت أشعر أني فقط أريد أن أسابق الزمن لتزرع ذاكرتي في تلافيفها كل ما تراه وتشاهده وتستمع إليه، وواصلنا المسير حتى وصلنا إلى بيت الحاج شاكر أبو خميش (أبو فيصل)، هذا الكهل المتوقد الذاكرة، رواي التاريخ للبلدة، وهو من مواليد اليوم الأول من العام 1924، ورغم سنه ووضعه الصحي الا أنه يحتفظ بذاكرة متوقدة، فاستمعت منه إلى أحاديث كثيرة رغم ضيق الوقت، وهو من المناضلين القدامى، وقد شارك في العديد من المعارك العام 1947، وما زال يذكر تفاصيل دقيقة عن الثوار وتاريخ البلدة منذ كان طفلاً، وبمجرد أن عرف اسمي سألني عن عمي الشيخ محمد (أبو الطاهر) أطال الله بعمره، وقال لي لقد سجنّا في عكا معاً.


مقام الشيخ صالح وعدسة زياد جيوسي

حين خرجنا من عند الحاج أبي فيصل قلت لصحبي: هذه الذاكرة الشفوية يجب أن لا تضيع، ويجب أن تسجل، وأعدت هذا القول في لقائي الأدبي في المساء، وكم فرحت حين اتصل بي أبناء البلدة وأعلموني أنه قد جرى تشكيل لجنة ستبدأ بتسجيل ذاكرة هذا الشيخ الجليل، وذاكرة الرجال الكبار الذين يحفظون في ذاكرتهم ثروة يجب أن لا تضيع، ومن بيت الحاج أبي فيصل اتجهنا إلى مقام الشيخ صالح، وهو يحمل اسمه نسبة إلى رجل من الصالحين، ودفن فيه العديد من العلماء الأجلاء ومنهم الشيخ عبد الباقي الراميني والعديد من ثوار 1936، وزرنا بئر (الخزق)، وقد أخذ هذا الاسم بعد أن قصف في عهد إبراهيم باشا، وحدث به (خزق) وهدم، وكما تعرض ومقام الشيخ صالح للقصف في عهد الاحتلال البريطاني في عمليات مطاردة الثوار، فالقائد عبد الرحيم أحمد تواجد فيه وقاد عمليات المقاومة من خلاله، وتجولنا على هذه التلة المرتفعة والتي تكشف الساحل ومنطقة (الخضيرة)، وقرأت الفاتحة على أضرحة الشهداء الثوار الذين استشهدوا في ثورة 1936 وما بعدها، وحقيقة هذه المقبرة مع المقام بحاجة إلى اهتمام كبير، وقد وعد السيد زياد الجعبيتي رئيس البلدية خلال الندوة وحديثي عن المقام بالاهتمام الفوري بالمنطقة، فأقل الواجب تجاه ثوارنا الذين قدموا دماءهم فداء للوطن أن لا نترك اضرحتهم نهباً للعوامل الطبيعية والإهمال، ومقام مثل مقام الشيخ صالح يرتبط بتاريخ تراثي قديم للبلدة وأصبح رمزاً للثورة ويمثل حكايات من تاريخ الوطن، علينا أن نوليه كل اهتمام، ومن هناك زرنا المسجد القديم وهو يحمل اسم المسجد العمري، وهذا الاسم منتشر في العديد من بلدات فلسطين، فقد وجدت مساجد قديمة وتراثية في أكثر من بلدة تحمل الاسم نفسه.
الحديث عن كفر اللبد لم ينتهِ بعد، فالرحلة في أروقة التراث وحكايات التاريخ كثيرة، وفي الحلقة القادمة سيكون حديث آخر مع روايات عديدة روتها دروب البلدة وحجارتها، وروايات أخرى رواها تل (الشومر) الجميل...

صباح كرمي جميل في هذا الصباح ويوم الجمعة، أستذكر تفاصيل رحلة الأمس وبلدة كفر اللبد، وأشعر بروحي لم تفارقها وما زالت تجول بها، وأن كفر اللبد عذبت قلبي بقصة حب وعشق جديدة. أحتسي قهوتي وروح طيفي ترافقني، ونستمع معاً لشدو فيروز وهي تشدو:

(ولي فؤاد إذا طال العذاب به

هام اشتياقاً إلى لقيا معذبه

يفديك بالنفس صبٌ لو يكون لهُ

أعزُ من نفسهِ شيءٌ فداكَ بهِ)

صباحكم أجمل مع النسمات الكرمية وعودة قريبة لاستكمال جماليات وتراث وعشق كفر اللبد.


CONVERSATION

0 comments: