لعل الكتّاب جميعا يقفوا حائرين أمام السؤال الأهم في حياتهم، وهو: لمن نكتب؟ إذا لم نجد قراء..؟ وربما في غزة تظهر هذه الصورة أكثر من أي مكان آخر نتيجة للظروف السياسية والاجتماعية والاقتصادية التي يعاني منها المجتمع الغزّي ردحا طويلا من الزمن.. لكن، ماذا لو عكسنا السؤال..؟ ليصبح: ماذا تكتبون كي نقرأ..؟ هو نفسه كان سؤال النقاد في أواخر القرن الماضي، حيث اتهم الفن بأنه يمر في أزمة.. وينساق لنزعة (اللاأنسنة) ويحرق وراءه كل الجسور التي تربطه بعالم البشر.. لكن العكس هو الصحيح تماما فيما يسمونه أزمة الفن هو في الواقع فن الأزمة.. والخطأ يكمن في بث ونشر براهين زائفة، حيث تكون الفجوة القائمة بين الفنان والجمهور هي الدليل على ( لاأنسنة ) الفن.. أي أن الجمهور خضع للاأنسنة، وليس الفنان؛ فالجمهور صار مجموعة كائنات كفّت أن تكون بشرا، بل موادً نمطية خلقها التعليم القياسي، ومحشورة في المكاتب والمصانع وتثيرها كل يوم الأخبار المعلنة والتي تبثها في العالم المراكز الإلكترونية.. بالطبع هذه الكائنات شوهتها وشيأتها الفضائيات الإعلامية وما شابهها من مواقع الشبكية بما تبثه من أخبار وفنونٍ سوقية.. أما الفنان وكذلك الكاتب المبدع فهو وحيد بحكم الواقع ومن خلال عجزه عن التكيف ونزعته التمردية وجنونه، قد حافظ على الخصلة الإنسانية الأكثر قيمة.. وهو ليس بالشيء المضر إذا بالغ أحيانا وقطع أذنه ليكون أكثر قربا من الإنسان الحي، وليس من الآخر الشبيه بالموظف اليقظّ وراء مكتبه الوزاري، أو الشرطي مثلا.. هل رأيتم ضابط شرطة أو حتى كاتب (موظف ) قطع أذنه لحبيبته ؟!! فن الأزمة مرتبط بالمؤسسات التربوية والثقافية والإعلامية، وكيفية تعاطيها مع المستجدات؛ والفنان أو الكاتب أبو المبدع صار عليه حملا ثقيلا في معالجة الواقع، وفي الشعر يُظهر المبدع فكره وما يعمل في عقله شعرا ينتمي إليه..
عندما أسس الزعيم القائد أبو عمار أول وزارات السلطة الفلسطينية في غزة، كان قد أخّر تسمية وزارة الثقافة والإعلام، وظلت عهدة بيد ياسر عبد ربه، حتى يصل الشاعر الكبير محمود درويش ليصبح وزيرا للثقافة والإعلام.. فيما بعد وصل درويش ورفض عرض أبو عمار.. فقال له أبو عمار: إن الكاتب أندريا مارلو ( كاتب وروائي اشتراكي فرنسي ) ـ قبل بأن يكون وزيرا للثقافة في حكومة ديجول.. فرد عليه درويش: "على الأقل فلسطين ليست فرنسا وأنت لست بديجول.." من هنا يمكننا أن نقول: إن الشاعر العظيم يدرك أنه أسمى من ذلك كله.. فالهمّ والأسئلة الكونية الميتافيزيقية منها والواقعية، أكبر من فلسطين ومن فرنسا، وأكبر من الرئاسة والزعامة وغيرها.. فالعالم يعرف درويش ويحفظه أكثر من معرفته بوزراء الثقافة أو غيرهم من الوزراء... وسيظل يحفظ اسم الشاعر العظيم أكثر مما يحفظ أسماء لآلاف الوزراء والرؤساء عبر التاريخ... أليس هو من قال: " يا موت هزمتك الفنون جميعها.. يا موت هزمتك الأغاني/ وفي قصيدة أخرى عنونها: أيها الموت انتظرني سأصير يوما ما أريد". ما الذي دفع بالفرنسيين لأن يقيموا يافطة كبيرة في إحدى مدنهم الرئيسية مكتوب عليها ما قاله الشاعر الغزي، ناصر رباح: " عندما نزرع الرصاص.. ماذا تنبت الأرض؟؟ ".
ذلك التعبير أو الومض الفلسفي الذي جاء في قصائد الشعراء هو هدفنا في هذه الدراسة المتواضعة والتي نحاول إبرازها في قصائد النثر التي نشرت في غزة مؤخرا، ومن الطبيعي أننا لا نستطع حصر جميعها بقدرما نعطي مثالا يعمل في فكر الشعراء الحداثيين، حيث أن الفلسفة وأعمال الفكر ارتبطت بالشعراء ارتباطا وثيقا لدرجة أننا لا نكاد نميز إن كان الشعر قد سبق الفلسفة، أم أن الفلسفة قد سبقت الشعر.. "فأفلاطون قد كتب عن الشعر في العديد من محاوراته وإن لم يخصص له محاورة خاصة ". كذلك أرسطو وضع كتابا مشهورا في " فن الشعر"، وقد يكون الشعر سبق الفلسفة إذا ما اعتبرنا أفلاطون أول الفلاسفة؛ فهوميروس، وهيسيود وجدا قبل أفلاطون، وكذلك الكثير من الأساطير والملاحم وجدت من قبل.. وربما تكون قد أسست للفلسفة؛ حيث خصص لها أفلاطون في حواراته، وكذلك أرسطو كما سبق.. وفي الثقافة العربية أيضا وجد الشعر الجاهلي قبل الفلسفة إلى درجة تمنحنا القول بأن الوجه الآخر للشعر في ذلك الوقت هو الفلسفة، فامتلأت أشعارهم بالحكمة والمدح والوصف بهدف حثّ الناس وتوجيههم والكشف عن المجهول الذي يخصهم في الوجود.. ولا يخفى على أحد أن الشعراء قديما عملوا في مجالات عدة؛ فها هو الفيلسوف الطبيب (ابن سينا) كان شاعرا، وأُعتبر (أبو علاء المعري) بشاعر الفلاسفة وفيلسوف الشعراء، وامتلأ التاريخ بأمثال هؤلاء.. يمكننا القول أن للفلسفة والشعر في الأصل منبعًا واحدًا. فأفلاطون نفسه يقول: "إن منبع الفلسفة هو الدهشة"؛ ويقول أرسطو: "إن الدهشة التي اعترتْ الناس يُعزى لأنهم يبدأون، الآن كما بدأوا أول مرة، في التفلسف." ومن ذا يماري في أن الدهشة هي المنبع الأصيل لكلِّ شعر حقيقي أيضًا؟" (1) وإذا كان الفيلسوف الألماني كارل يسبرز يقول: " من طبيعة الفلسفة ذاتها – وهي متميِّزة في ذلك عن العلوم – أنها لا بدَّ أن تستغني في أيِّ شكلٍ من أشكالها عن الاعتراف بها اعترافًا ينعقد عليه الإجماع." أليست هذه هي حال طبيعة الشعر أيضًا التي تنبذ من مفرداتها كلَّ ما له علاقة بالإجماع؟ وعن هدف الفلسفة يقول يسبرز: " ليس اليقين الذي نطمح إليه يقينًا موضوعيًّا من النوع العلمي – ذلك اليقين الذي يُعتبَر سواء بالنسبة لكلِّ عقل – وإنما هو يقين باطني يشارك فيه الإنسان بكيانه كلِّه. وبينما يتناول العلم دائمًا موضوعات معينة، لا يستغني عن معرفتها الناس جميعًا بحال من الأحوال، فإن الفلسفة تعالج الوجود بأسره، ذلك الوجود الذي يعني الإنسان بوصفه إنسانًا، كما أنها تهتم بحقيقة، ما إن تتكشف لها حتى تؤثر فينا تأثيرًا أعمق من أية معرفة علمية." (2) إذن كلام يسبرز بأن الفلسفة تعالج الوجود الذي يعني الإنسان بوصفه إنسانا لا يختلف في شيء عما يريده الشاعر ويهدف إليه بشعره من الإنسان.. وربما كان أرسطو أول من انتبه إلى هذه الطاقة الفلسفية الكامنة في طبيعة الشعر نفسها حين قال: "إن الشعر أكثر تفلسفًا من التاريخ وأهم لأن الشاعر يتعامل مع الكلِّيات.." (3) فالشعر، بطبيعته، "ينطوي على الكشف" – كما يقول غوته – لأنه حين يتناول الجزء المفرد في طابعه الحي إنما يستبصر، في الوقت نفسه، استبصارًا ضمنيًا بالكلِّي الفعال المبدع في كلِّ شيء حي. وكما يقول كولردج فإن الشاعر هو "فيلسوف على نحو ضمني غير صريح". أما شيللي فيقول: "إن الشعراء فلاسفة بلغوا أسمى درجة من القوة؛ وإن الشعر هو مركز كلِّ معرفة ومحيطها." (4) أما الفيلسوف الألماني هايدغر، فيقول: "إن الشعر تأسيس للكينونة عن طريق الكلام؛ فقول الشاعر ليس تأسيسا فحسب على معنى البذل والعطاء الحر، بل كذلك على معنى أنه يُرسي الوجود الإنساني على أساس متين. وأن نقيم على نحو شعري معناه أن نبقى في حضرة الآلهة، وأن نعاني مجاورة الأشياء في لبابها وماهيَّتها... إن الشعر هو الأساس الذي يسند التاريخ؛ ولذلك فهو ليس مظهرًا من مظاهر الثقافة، وليس من باب أولى (تعبيرًا) عن (روح ثقافة ما...). الشعر موقظ لظهور الحلم، وما وراء الواقع، في مواجهة الواقع الصاخب الملموس الذي نعتقد أننا مطمئنون إليه. ومع ذلك فإن ما يقوله الشاعر وما يفترضه موجودًا هو الواقع..." (5) أما الفيلسوف المعاصر هانس غيورغ غادامر فيقول في كتابه تجلِّي الجميل: "إنه ليبدو لي أمرًا لا جدال فيه أن اللغة الشعرية تتمتع بصلة خاصة فريدة بالحقيقة." ويتساءل غادامر: "من ذا الذي يريد أن يفصل بين الشعر والفلسفة؟" (6) مع ذلك.. فإن هذا القرب والبعد، هذا التوتر الخصب بين الشعر والفلسفة، من العسير أن ننظر إليه على أنه مشكلة خاصة بتاريخنا القريب أو حديث العهد، لأنه توتُّر قد صاحَبَ دائمًا مسار الفكر الغربي .
التراث الغربي فيما سبق لا يختلف عن ما ذهب إليه مفكرون ونقاد عرب، فمحمد شيا ـ قد دلل على وجود علاقة بين الفلسفة والأدب، فيقول: "إنه كما للحياة بعد في الأدب، لها بعد في الفلسفة، وإنها قائمة أو موجودة في تجربة الأديب كما في تجربة الفيلسوف وذلك بما لها من شروط ومقدمات وتحديات.." (7) ويستطرد شيا في تفسير ذلك فيقول: " ما يسهم في تأسيس الفلسفة من دهشة هي ذاتها التي تبعث الأدب والفن والشعر، ولحظة تبطل الدهشة بتحقق المعرفة وانكشاف المجهول، فإن الحاجة إلى الفلسفة ستزول مثلما تزول الحاجة إلى الشعر والفن. لكن الدهشة باقية والشوق إلى المعرفة باقٍ ومن هنا تبقى الفلسفة ويبقى الشعر.. " (8) وها هو أدونيس الشاعر والمنظر الحداثي ـ عن الفلسفة والشعر، يقول: "الشعر بمعنى آخر فلسفي من حيث أنه محاولة اكتشاف أو معرفة الجانب الآخر من العالم، أو الوجه الآخر من الأشياء.. أي الجانب الميتافيزيقي كما نعبر فلسفيا " (9) ويؤكد أدونيس: "أن الشعر ليس انفعالا وعاطفة وشعورا وحسب، وإنما هذا كله وشيء آخر.. هذا الشيء الآخر هو ما يمكن أن نسميه الفلسفة، فهؤلاء الشعراء ـ في إشارة ـ لدانتي وشكسبير وغوته ـ عبروا خلال عواطفهم وانفعالاتهم عن العالم. كان لهم بمعنى آخر رأي في العالم وموقف منه. كانت لهم فلسفة" (10). وذهب أدونيس أبعد من ذلك في قوله: "الفرق اليوم بين الشاعر الكبير والشاعر الصغير، هو أن الصغير حين يعبر عن نفسه لا يعبر إلا عنها.. أما الكبير فحين يعبر عن نفسه فإنه يعبر عن عصره كله، أي عن جوهره الحضاري" (11).
فيما سبق قدمنا لمحة سريعة عن علاقة الفلسفة بالشعر لعلنا نهتدي من خلالها على ما ورد من ومضات فلسفية في قصائد النثر التي صدرت في غزة بعد العام 2000، وتجدر الإشارة بأن قصيدة النثر في غزة ازدادت بشكل ملحوظ عما قبل، حيث كان شعراؤها لا يزيد عددهم عن عدد أصابع اليد الواحدة، أما اليوم فاق عددهم العشرات، ولسنا هنا بصدد عدّهم بقدرما استطعنا جمعه من قصائد سواء نشرت في دواوين شعرية، أو أرسلت لي من قبل عدد من الشعراء الغزّيين، نحاول هنا.. إظهار الجُمل الفلسفية التي وردت كحِكمٍ، أو أفكار ذات مضامين جوهرية تكشف لنا ما يروم له الشاعر، وإلى أي درجة من السمو يمكن أن تمنحها له تلك الحكمة..!!
لم يسعفني الوقت لتحديد المنهج الذي يسهل لي العملية الشائكة في ما يمكن تصنيف الجمل والحكم الفلسفية، وإقرانها عند الشعراء، فاخترت أن ألتقط بعض منها عند الشعراء كل منهم على انفراد.. ومن الطبيعي أن لا أتمكن من متابعة كل الشعراء في غزة؛ فليعذرني ممن قد أسهو من متابعته.. ولعل ذلك عملا مضنيا لا يستطيع القيام به أحد بمفرده إن لم تكن مؤسسة متخصصة في هذا العمل.. المساحة التي طحت بها كانت كبيرة، فضمت أكثر من أربعين ديوان للشعر جميعها صدرت بعد العام 2000، وعشرات القصائد الحديثة.. وإذا ما بدأنا بالشعراء فلن نبدأ بطريقة تراتبية بشكل أبو بآخر..
الشاعر إياد بلعاوي في قصيدة بعنوان "الرسالة الأخيرة قبل لا شيء" يقول:
"صار للمنفى بداخلنا صدرٌ دافئ مثل عينيك وحزني / الكون سرٌ تسكنه خطايانا / لا تسمحي للقصف أن يلغي براءتك.. بات حزنك موطني" (12)
المنفى لدى الشاعر كما لدى الفلسطيني بشكل عام هو متوقع في كل لحظة وإن كان يعيش في فلسطين، إذ أن المنفى يستوطن القلب كما يستوطنه الحزن فالحالة الفلسطينية مزمنة ومربكة، وتدفعه للاعتراف بأنها صارت سرا غير معروف من الخطايا التي باتت تؤرق الكون، وتظهر هذه الحالة بشكل أكبر وقت الحرب التي لم تفارق غزة وشعبها؛ فيخاطب الشاعر حبيبته التي هي الوطن فيطالبه بأن لا يسمح للقصف أن يمحي براءة الوطن المعشوق.. في قصيدة أخرى لإياد بلعاوي بعنوان "الأعمار متروكة على الأسفلت"، يقول:
"ربما يترك لنا الرصاص مساحة للهو في شارع القلب أو باحة الذاكرة/ يفر الوقت.. منّا فكيف سننتج موتنا..؟" (13)
شاعرنا يعبر عن حالة عبثية لأهل غزة عندما يحدث فيها الموت بفعل الرصاص أو القصف من العدو، إذ يسارع مَن في محيط الفعل إلى الحدث... دون خوف من موت آخر، ودون حساب للحياة أو شيء آخر، مما دفع بالشاعر ليسأل: كيف سننتج موتنا..؟.
الشاعر هاني الحنفي اعتاد أن ينشر ومضات شعرية على موقع التواصل الاجتماعي أرسل لي مجموعة منها، فاخترت من بينها:
"عليّ أن أكونَ حُراً، كي أشعرَ بعبوديتك . بشرط ألّاّ تشعرَ أنني سيدَك..!"
يلعب الشاعر هنا على المتناقضات، كيف يكون حرا إن لم يكن هناك عبدا ؟ إن لم يكن هناك عبدا؛ فهل يشعر بأنه سيد؟ إنه ينسف هذه الفكرة عندما يشترط أن لا يشعر العبد بأنه معبودٌ.. لأن سيده يقرر أنه إنسان وهنا ينتهي الفارق بينهما.. وفي ومضة أخرى يقول:
"عندما تواجه الأقنعة المرايا../ حينها يكون العالم تلميذاً،/ والفيلسوف أميّاً / والحكيم جاهلاً / والشاعرُ صامتا / ًوأنا.... إنسان"
يسخر الشاعر هنا.. من المجتمع الذي يقوده المزيف، فيصبح فيه العالِم تلميذا، والفيلسوف أميا، والحكيم جاهلا، ويصمت الشاعر.. يبدو أن شاعرنا يصف مجتمعنا الغزي الذي تتضح فيه هذه الصورة بشكل بات معروفا للجميع. إذ أصبحت كثيرا من مؤسساتنا يقودها أناس مزيفون حتى تلك التي تحتاج لتأهيل أكاديمي، وكذلك قيادات الأحزاب والفصائل.. مقطع آخر من ومضاته يقول:
"وتسألين: - ما وظيفة الشعر؟ / ـ إعادة تشكيل ملامحَنا بينَ السماءِ والأرض / وهل تستطيعون؟ / .... / وهل أشعارُكَ تُشبهك؟ / ـ يشبهُ الشاعرُ قصيدتَه الأخيرة قبل موتِه / أنتَ مُتعِب! / ـ وأنتِ قصيدة.."
الصورة الفلسفية والهدف منها واضحة تماما حيث يقرر الشاعر أن الهدف من الشعر: هو إعادة صياغة الإنسان.. وإذا وضع الفيلسوف الأول أفلاطون شكل الإنسان في جمهوريته المثالية؛ فهل يلائم ذلك الشكل الظروف الحالية؟! هو نفسه سؤال الشعراء وسؤال الفلاسفة.. هاني الحنفي في ومضته يحاول الإجابة، إذ يقول: "يشبه الشاعر قصيدته الأخيرة قبل موته" دلالة على استمرار السؤال، فيموت الشاعر وتبقى الأسئلة.. مقطع آخر يقول الحفني فيه:
"وجهُ المرأةِ؛ لا يؤدّي إلى الفتنةِ دائمًا، لسانُ الرجلِ؛ يؤدي إلى المصائبِ غالبًا، من منهما أجدرُ بالحجاب؟!"
تهكم واضح كثف فيه كل ما ورد من فتاوى ضد المرأة، ودفعنا للتساؤل عما يفتيه الرجل بحق المرأة؟؟ والحجاب الساخر الذي أراده هو لجام يغلق به فيه الرجل الذي يؤدي إلى مصائب، وفيه الرجل الذي يفتي بالخراب ومن منطلق ذكوري.. ولعلّ ومضات الحفني لما فيها من عمق أصيل تقترب مما يسمى شعر (النانو) الذي بدأ ينتشر حديثا..
الشاعرة صباح القلازين في قصيدتها " النافذة الثانية " من ديوان نوافذ تقول:
" مهرولا/ بين الصفا والمروة/ أنفقت عمري باحثا/ عن عين ماء/ وعندما ظهرت يا حبيبي/ تفجرت بين يدي عين زمزم "(14)
اعتبرت البحث عن حبيبها المفقود مثلما ذهبت هاجر في أسطورتها للبحث عن الماء حيث كانت تراه سرابا إلى أن ظهرت لها عين زمزم.. وفي "نافذتها السادسة"، تقول:
"أنا المُسيَّج بالبكاء/ أنا الموشك على الغروب كنجمة/ أقتاد حزني كالضرير في هذه الصحراء.."
وفي النافذة الثامنة تقول: "صيادي الوسيم يطير خلفي/ فكيف تُرى سينجح باصطيادي؟"،
وفي نافذتها العاشرة، تقول: "النوافذ مشغولة بشبق الانتظار/ ..../ كم أربكني هذا التيه الموغل في أجوبتي../ إنبشني حتى آخري/ ..../ أتيه عشرين عاما/ وسيناء جديدة تلتهمني..."(15)
شاعرتنا صوت أنثوي بامتياز تعيش في مجتمع محافظ بدرجة كبيرة، وهي مثل أي فتاة في مقتبل العمر تنتظر الآخر/ شريكها في صحراء مضاربها مجهولة لدرجة أنها تاهت فيها عشرين عاما، دون هداية بشريكها، ونظرا لأنها في غزة المجاورة لصحراء سيناء المخيفة؛ فأسقطت أسطورة "التيه" التي قد تلتهم من عمرها عشرين سنة أخرى... متشحة بالحزن كل ذلك العمر،كما تؤكد ذلك في قصيدة لاحقة من نفس الديوان بعنوان: "امرأة تراوح في الضباب"، تقول فيها:
"سرمدي حزننا/ والحزن يولد من جديد/ .../ وأصابع امرأة تلم ضفيرة لحكاية قد بعثرها الريح/ .../ من يسند العمر المطل على الغروب؟" (16) .
الشاعرة عائدة حسنين في قصيدتها "أعز الناس" من ديوان "عناق الوردة" تقول:
"لي أبواب موصدة ونافذة/ ورغم السجن والسجان/ لي قصر من الماء/ ولي حلمي/ ولي سرب حمائم يمرح هنا في القلب يبتهج/ أعز الناس والمجد/ هو الشعر !"(17)
تشترك عائدة حسنين مع صباح القلازين، ورغم أنها متزوجة ولديها أولاد إلا أنها تعاني من ظروف غزة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، إلا أنها تؤكد أن صداقتها مع الشعر هو من يعزي غربتها، بل إن الشعر هو هدفها الأول رغم السجن (غزة) والسجان.. وتؤكد ذلك في أكثر من قصيدة من قصائد ديوانها، فها هي تقول: "من حرير ـ أصابعها الحرير وقلبها الحكايا/ تغفو على أجنحة القصيد/ وجدائل الزنبق والنور والورق!".
أما قصيدة نشيد ـ تقول فيها:
"البكاء حديث القلب وصرخة الأحياء/ دمع ينزل صافيا بحرا ونشيد الألم!".
ثم قصيدة ـ الصبر: "رمز الإيمان/ الصبر تاج وصدق ونجاة إحسان!".
في قصيدة زهرة عتيقة، تقول: "في ساعات الملل/ أجلس قبالة زهرة عتيقة/ في المزهرية/ في العتمة/ فلربما أراني !"(18).
قصائد شاعرتنا هي ومضات سريعة منفردة خفيفة تتلبس الشاعرة في يومها العادي كامرأة وأم وربة بيت وجارة تعيش في حي من الأحياء الشعبية أو في مخيم من مخيمات غزة تسجلها كيوميات على الورق الذي تحبه في سجنها الذي لا مفر لها إلا أن تحبه أيضا، كما في قصيدتها ـ على لسان امرأة شرقية:
"أهذا الحب في الشرق؟/ فماذا يبقى للموت؟/ وماذا يبقى للموت؟/ وماذا يبقى للثأر؟/ إذا ما نحن نحياه هو الحب !" (19).
الشاعر فادي الشافعي في باكورة أعماله من ديوان "ليس مصادفة ما يُكتب" نقتطف من قصائده هذه الجمل: من قصيدة لعلها أمطرت
"صوتك المائيّ لم ينزل خفيفا علي هذا اليوم/ هل جفت سماؤك ونسيت النهر؟".
في قصيدة محاريب القصيد يقول:
"تفضحُك سردية اللغة في سرية الوجوه الفيسبوكية/ .../ مؤمن قوي جدا أنت حين تقيم عود الدين في محاريب قصائدك".
من قصيدة غربة غريبة نجده يقول: "الغربة أن تتمشى في شوارع بيت لحم، مدينتك، وأنت لا تعرف من هو المسيح!..".
من قصيدة حديقة: "من أي قبيلة أنتِِ؟ كي أضع ضفائرك عنا وين في خواصر الكتب".
من قصيدة بياض الثانية عشر ليلا: "أكثر النساء رشاقة. أكثر النساء جرأة في البوح عن عمرها".
وأخيرا من قصيدة ليس مصادفة ما يُكتب: "وعرضت القصائد على البيوت والأشجار، فأبين أن يحملنها وحملها الشعراء/ .../ قصائدي وسعت كل شيء ولا أكتب الشعر إلا للغاوين !"(20).
فادي رغم حداثة سنه إلا أنه يملك تجربة شعرية تميل إلى روح فلسفية متأثرا بالتراث الديني والميتافيزيقي والحالات الإنسانية التي تثير الأسئلة والشك.. منذ البداية يكون له ثقافة فلسفية كما هو واضح في ديوانه الأول الذي قدمه للحصول على عضوية اتحاد الكتاب قبل عامين، ولم يتسنى لنا الاطلاع على ما كتبه فيما بعد..
الشاعر علاء الغول في ديوانه "حكاية من الشارع الخلفي" وهي عنوان لقصيدته الأولى، فنمسك بهذه العبارات: "نزرع في صفوف الغيم أودية تفيق على نسيم الكستناء/ ..../ لا اصدق أن ساحلنا كبير مثل أحواض القرنفل/ ..../ يحتد الخلاف على الدقائق قبل تفجير الخيانة/ أيهم يده ستسرع بالمصافحة؟ اعترافا أن موتانا أساؤا للجميع/ وأن رايات الرجوع أوانها قبل القيامة/ ..../ البحر يأكل نصف أعشاش الغيوم/ وإن عبرت دوائر الفرح الكبيرة/ تاركا للشمس أن ترث القرى وغرابة البلور/ ..../ هل أنا باق لأحفر في خدود البرتقالة شارعين من الهواء وفي ابتسامات القرنفل شاطئين؟/ ..../ لا ينبغي إبداء رأي في الحياة/ أعيشها متناثرا بيني الغداة وبين أحلامي غدا/ وأضيع بين قشور أضواء الطريق وفي دوائر لا تدور إلى الوراء كما اعتقدت، غدا أقاتل ثم أحمل وردة/ ..../ وأنا سأبدأ إن رجعت، وإن وجدت مدينة أخرى، وأخرى لا تزال تحبني ببرودةٍ كالشمس." (21).
حكاية علاء، هي الوجه الآخر للواقع السياسي المؤلم الذي لم يحقق له ما أراده، إذ حققت وهما كمن يحفر أودية في صفوف الغيم.. يتهكم علاء من صغر الوطن الذي يشبه حوض قرنفل، أو برتقالة يمكنها أن تتسع لشارعين!! كل شارع منهما يتهم الآخر بالخيانة.. فتضيع أحلامه القديمة، ولا تعطيه بأن يبدي برأيه فتدفعه للبحث عن مدينة أخرى حتى لو كانت باردة؛ فشمسها تعطيه بعض الدفء.. ديوان علاء قصيدتان الأولى كانت وصفا لأحلامه التي لم تتحقق ليبحث عن غربة تمنحه بعض من الرضى الذي قد يجده في قصيدته الثانية المفعمة بالنستالوجيا كتعويضٍ عما خسره، وحملت عنوان "مواقيت الشتاء وأغنيات البرتقالة"، ورد فيها:
"مضى ما ليس يرجع وانتهت أشياء أخرى/ ..../ آخر الظل الممدد تحت نافذة الفصول/ ..../ يعيدها تشرين كاملة.../ لها شعر وخاصرة من الغيم المضيء على شفاه البيلسان/ ..../ يا غربة لا بد منها، كيف لا، وحكاية الملح القديمة لا تزال على جفوني، لو هنا يقف المكان وينتهي زحف الثلوج/ ..../ أنا الوحيد على جدار الكون تدفعني النجوم إلى فراغ مدهش/ خلفي خيوط من غبار اللازورد ولا زمان هنا فأكبر مرتين/..../ مقاعدنا القديمة دافئة وهذا الليل يؤلمني يحاول نزع أجنحة النجوم ليطفئ الكلمات." (22).
الشاعر محمد الزقزوق أرسل لي نصوصا مفتوحة نقتبس منها التالي:
"أنتِ صوتُ آهات الجياعِ يطرقونَ بابَ اللهِ , تقفينَ على مسافةِ وسط وتوزعينَ الحب والكعك والماء على المخلوقاتِ بالتساوي / أمسدُ شَعركِ والغيم وأرعى خطواتكِ فوقَ الطرقات / أَذوب في الماءِ لِيَنطفئَ الحريقُ وأُدمى في القَصائدِ لِيَكتملَ القصيدُ / أريدُ هلالاً حانياَ لِلَيلِ حَبيبتي وغيماً من غِناءٍ ولِتُمطرَ جَبهتي عليها غِناءً وقصائد / على مدخل العشرين تَبتسمينَ كَزنبقةٍ بعرشِ الربيع تنادينَ والصوتُ ملكُ الهواء وساعي البريد/ علي مدخلِ العشرين , تَخضّرُ الحدائقُ على نهديكِ مساحةَ عشبٍ وماء وظل يفيض/ وعرسٍ بقلبٍ ينزُ حنيناً وطيناَ من جبة ادم وتفاحةَ كالتي بدأت منها الحياة وملحاً لبَحري وبحري مديد / القصائد غجرية الشعر حادة المازج ,طويلة الأظافر تواصل السير و تزين نفسها لميلاد جديد من هذا الموت , وترسم على جلود الحاضرين ظلالا و سيولة أغاني ,"
الشاعر الزقزوق هو شاب في مقتبل العمر وكما معظم الشباب في غزة المحاصرة بالتقاليد والموروث القديم والحكم الذي يتبنى تلك المفاهيم.. فبنى له عالم آخر في وصف حبيبته، حابسا نفسه بين جدران قصائده وشعره علها تعوضه مما حرمه الواقع...
الشاعرة منال مقداد أرسلت لي بعض من قصائدها، واستطعت أقتبس منها هذه العبارات:
"غارقةٌ في فقاعةِ انتظارٍ ومسارٍ من ياسمين للمدينة جديد أمتلئُ بك... فإذا شوارعُ المدينةِ حولي رماد. فيما أروضُ القلبَ على النِّسيانِ تحرقُني ذاكرةُ الوقتِ... ومدينةً أصير!/ حيثُ الغناء خيرُ الصلاة أرسمُ غابةً من أغنياتٍ في الهواء
يابسٌ صوتُ الأغنيات !/ على عجلٍ. وأنا أرتِّلُ الحبَّ وحنيناً في ليالي البردِ المنسيّةِ كأنّي أجرِّبُ المدى./ أُقشِّرُ غيابَكَ لحظةً لحظة أهدهِدُ عصافيرَ الانتظارِ في صدري بحلُمِ الذّاكرةِ المعتَّقِ وقلبِكَ وأغنيتِنا./ أقتاتُ الحياةِ من يدِ الموت وأغزلُ من سنابلِ الطّريقِ مواسمَ مزهرةَ في دائرةِ العمر وفي عينيّ ألفُ نافذةٍ تُضيء وموعدٌ على كتفِ الغيب !/ أمتلئُ بالحاضر أطيلُ الصباحات بالحدائقِ وآن أصطدمُ بالذّكرى والغيابِ أملأُ الهواءَ بالأغنيات ./ للرِّيحِ عويلٌ احتفالي ولي مِن رقصةِ الرِّيحِ أغنيتي!/ للبرقِ سيرةٌ في اختلاقِ النّهار ولي مِن ظِلالِ السُّحبِ ضوئي في المرايا!/ هذا ظلٌّ مسافرٌ لوترٍ يُناجي بعضَ الصَّحوِ مِن أحضانِ المَساء.."
كيف للشاعرة أن تصير مدينة؟ وأي مدينة تبتغيها منال سوى مدينة الشعر وبيت القصيد؟! لتصبح أغانيها (صلاة)، كناية عن الطقس المقدس والمستمر.. وتجعل من الحب موسيقى كلاسيكية مقدسة تدفئ بها ليل وحدتها البارد.. لا أحد يتخيل ما يجري داخل الأنثى إذا ما تلبستها الوحدة وغياب العاشق، فتبدأ بهدهدة الوقت والانتظار، وبإعادة تفريغ الحلم وما يحمله من آمال راسخة في ذهنها.. فجعلت من الريح احتفالا ورقصا لأغنيتها، ومن البرق نهارا لليلها المظلم، ومن عتمة السحب ضوءً تعكسه المرايا..
الشاعر شجاع الصفدي في ديوانه "أتكئ على حجر" (23) سجل فيه تسعة عشر قصيدة، أو يمكننا أن نقول: تسعة عشر أسطورة من التاريخ الإنساني القديم إلى الفرعوني والإغريقي، كأنه يريد أن يقول أنه مازال يعيش تلك الأساطير بغرائبها، كناية عن غربته أو اختار هو الشاعر أن يفر من الواقع الذي يعيشه، أو تنفيذا لتعليمات عميد الأدب العربي طه حسين، عندما قال: "إن الخير كل الخير للرجل الحازم الأديب أن يفرّ بقلبه وعقله وضميره بعيدا من هذا الجيل، فإن أعجزه الفرار إلى بلاد أخرى، فلا أقل من أن يفر إلى زمان آخر من أزمنة التاريخ". شاعرنا الصفدي عمل بحكمة العميد وذهب في رحلة بعيدة من التاريخ، كأنه كان هناك يعيش الأساطير واحدة بعد الأخرى.. القصائد مليئة بالومضات الفلسفية، كيف لا وهو يعيش الأسطورة من جديد؟! كيف لا وهو يحاكي أول الفلاسفة والمؤرخين..؟! أتكئ على حجر بحد ذاته ديوان من الفلسفة التي تدفعك للتأمل جيدا عند كل قصيدة، بل كل سطر فيه، وحاولت أن أقتبس منه هذه العبارات التي لا يمكن فصلها عن السياق وبقدر المستطاع اخترتها بحيث أن تكون لوحدها فكرة، ومنها:
"من يوقف الشر في قلب إلهة سرقوا قدرتها على العشق؟" ص 6.
"لا قيمة للزمن حين تولد الأسطورة دون قابلة" و " هل يهزم الحب الدماء أيها الرب العاشق؟" ص 15. "لا خلود في الدنيا إلا لمن جعل فلسفة الموت مبتغاه" ص 20.
"كم مرة متَّ وبُعثتَ لتمارس طقوس الوحي؟/ قبر اللازورد يضمك وأحبابك في رحلة طوعية بين الموت والحياة" ص 24.
"الكرنفال الربيعي اُنتزعت فيه الأقنعة، وتعرى التاريخ منذ بدء الكتابة" ص 25.
" مازلت رغم حلم الوطن مسافرا في غربتي" ص 37.
"كل شيء أجمل لأننا نهلك، وتبقى أسماؤنا خالدة" ص 46.
"مات فرعون وما أكثر الحاضرين لمراسم التأبين" ص 47.
"مازال المؤرخ بلا أوراق، تسكنه الأسطورة دونما فراق، يكتب حكاياته، ومغامرات لآلهة يصنعها لينسج لماضيه خلودا" ص 67.
"الكواكبُ كالنساء، جميلاتٌ عن بعد، ولكنهن بعيدات عن الجمال.. هذا ما يخطه عاشق حاقد حين يرثي حلما.." ص 70.
الشاعرة أمال العديني ، في باكورة أعمالها الشعرية "بين النهر وزنبقة" ثماني قصائد ترثي فيها من يخصها دون تلميح إن كان حبيبا أم أبا أم أخا لها.. ويتجلى شعرها بجزالة اللفظ.. تختار كلماتها بحذر شديد كأن هناك من يراقبها فيفضح سرها، ولعل من ترثيه كان ضحية الانقلاب العسكري الذي حدث في غزة بتاريخ 14حزيران من العام 2007. إن كان هناك إشارة لذلك فهي آخر جملة من الديوان، وهي: " تبّا لمن ينتشي بالافتراس!". الغموض والإبهام كبيران في ديوانها، البيئة البدوية لها أثرها الواضح في قصائدها، من الصعب أن تحتفي بجملة كاملة دون السياق، لكنني استطعت أن أقتبس من ديوانها ما يلي:
"يموت مرارا وما زال محملا بالصدى، ونثار الوصف غرّ يائس الطرف... فراشة الشعر كالومض، تسقط بين رفين من الأصابع/ .../
لم أعُد أُطلّ على برق أو رعد، هزني اليقينُ فصرت ثوب الخرافة، صرت وهم الحقيقة وحقيقة الوهم،/ هذا الشرق المسفوح بالإرادة ليس لنا يدٌ. ولسنا جديدين على أزمنة تستدير كالرحى/ .../
هنيئا للألفية نضارة جدراننا، وتبغنا وقاتنا وحبرنا../ .../ نسينا أن لنا دارا تيَممُ الفقراء بعشقها،/ .../
جئت أقتل وحش الخرافة فيكم، جئت أطهر القروح والجروح من دمائكم" (24).
ومن قصيدة "ليس لدرب القصيدة مهر" نقتبس الآتي:
" ليس لدرب القصيدة مهر يشق ماء الخرافة/ .../
ما من أفق فوق الشبهات، لأحمل حرية الضوء، وأمتد سهلا يرمي حدود الحكمة عند اكتمال الخرائط !" .
أما القصيدة التي حملت عنوان الديوان فنجدها تقول:
"كيف أعصف باللغة، وألملم ظروف النص بعدك؟!/ .../
أدين لك بملح الخرائط، ونجمةٍ وهلالِ عيد، وأبجدية توسوس فيك حتى أخمص الروح..".
أما قصيدة "الموت الجديد والحب الجديد" نقتبس منها:
"أجدني غَرْفاً من الطين بين خلجاته، تتفاقم في البروق والهدم، مثل أفق يلبسُ حدود الكفن./ .../
حُلّ وثاقي يا عمري، فما علّمتك أقوالي القبلية إلا لتكتبني نصا وتمزقه بكل قوتك، إلا لتنسى عادة النسيان وتشرد في جنون الورق." .
أخيرا نقتبس من قصيدتها الأخيرة "تبا لمن ينتشي بالافتراس" ما يلي:
"كرات نار وثلج، وذاكرةٍ خائنةٍ تسعر الخطى، لا أواكبُ شمسا آتية، لا أحصي المشاعل في كوة الحواس/ .../
مذ غاب صوتك أضعنا العلامة. وحلمنا الذي قطفناه من حمى القارات..
تفرده عريشة الشعر كشرشف كوني/ .../
لقتلانا موت يقلد ساعة رملية، ولنا مجانق أجفلت الريح؛ فسقطت إمارة من إبط نسرٍ عابر/ .../
كنت تهيل شهقة الأقاصي من راحتيك.. وحين تذكرت، قلت: تبا لمن ينتشي بالافتراس" .
أمال العديني المبدعة تظفر بنفسها من خلال محاكاتها لذاتها.. ولعل محاكاة المبدع لذاته هي تطهير للمتلقي خصوصا عندما تكون هذه الذات هي المأساة الفلسطينية.. وهذان المحوران (المحاكاة للمبدع، والتطهير للمتلقي) دارت عليهما آراء أرسطو في الفن.. فالمحاكاة تصوير للطبيعة البشرية والعيانية، وهي عند شاعرتنا ليست تصويرا حرفيا، بل تضيف شيئا من عندها إلى الحقيقة والصدق، ليصبحا حقيقة فنية وصدقا فنيا..(25) وفي هذا ظَفرُها الكبير، أما المتلقون فإنهم يكتسبون لذة عقلية.. أخيرا تصل الذروة التي فيها إجابة لكل الأسئلة والتفاصيل الأولى لتكثفها في عبارة واحدة فيها دعوة بالهلاك للذين ينتشون بالافتراس.. وهنا تذكرنا بحديث الفيلسوف ـ نيتشه ـ عن المأساة اليونانية التي نبعت من الديانة الديونيزيوشية أو عبادة (ديونيزيوس) تلك العبادة التي تقدس النشوة وتمجد اللذة البدنية، وتؤثر الفرح، وتحيي طقوسها بالعربدة، فهي تكريم لغرائز الإنسان وتفجير لها، وليس من شأن التفجير أن يتخذ شكلا أو يلتئم في نظام.. ومن هنا جاءت (الأبولونية) لكي تتوازن مع الديانة الديونيزيوسية التي من شأنها عبادة أبولو بتقديس العقل وتحترم التصميم والإحكام وتحيي طقوسها بالتأمل.. إن ديونيزوس هو إله المتعة، ورمز امتلاك الفرح، ودليل الحركة المنتشية والمغامرة.. أما أبولو فهو إله السلام النفسي والسكينة الروحية يوجهها المنطق والتأمل الفلسفي ويلهم أتباعه فنون التصوير والنحت والشعر الذي تنتمي له الشاعرة أمال العديني . (26).
ما قدمناه ليس استثناء، بل وقع بين أيدينا قصائد ودواوين من الشعر اطلعنا عليها في أثناء الدراسة، لا تتسع لها الدراسة وتحتاج إلى دراسة مستقلة أيضا.. بالمقابل هناك قصائد لا تساوي ثمن الحبر الذي طبعت به، رغم أننا نقدر الجهد الذي بذله أصحابها في صناعتها.. ونعترف لهم بأن أحد أهداف دراستنا هو موجه لهم كي يعيدوا مراجعة وصياغة مفاهيمهم عما يكتبون وعلى الأخص هؤلاء الذين ركبوا صهوة النثر، فأدونيس يقول: "لا يستطيع الشاعر أن يبني مفهوما شعريا جديدا إلا إذا عانى في داخله انهيار المفاهيم السابقة، ولا يستطيع أن يجدد الحياة والفكر إذا لم يكن عاش التجدد، فصفا من التقليدية، وانفتحت في أعماقه الشقوق والمهاوي التي تتردد فيها نداءات الحياة الجديدة. فمن المستحيل الدخول في العالم الآخر، الكامن وراء العالم الذي نثور عليه، دون الهبوط في هاوية الفوضى والتصدع النقي"(27).. كذلك العقاد انتقد شوقي أمير الشعراء، فقال: " إن الشاعر من يشعر بجوهر الأشياء، لا من يعددها ويحصي أشكالها وألوانها. وإن ليست مزية الشاعر أن يقول لك عن الشيء ماذا يشبه وإنما مزيته أن يقول ما هو؟؛ يكشف لك عن لبابه وصلة الحياة به" (28).. ما قدمناه من نماذج شعرية لبعض الشعراء ليس من باب تصنيفهم، ولا من باب أن قصائدهم كانت الأجمل، بل كانت نماذجا من الصور التي اقتربت بشكل أو بآخر من الحكمة التي نسعى بأن يوظفها الشاعر في قصائده.. نعرف أن القصيدة عندما تولد لدى الشاعر نتيجة للانفعالات والتوترات الفكرية التي يمر بها... حينها لم يخطر في ذهنه بأنه سيكون فيلسوفا، ولم تكن في ذهنه فكرة الفلسفة بقدرما يسعى دون وعي لتفريغ انفعالاته وتخلصه من التوترات والقلق واليقظة والخوف.. إنه كمن يطلق رصاصة من بندقيته ترجه وتهزه إلى الخلف تنطلق فيعود دخانها إلى الخلف لتطهره؛ بينما الرصاصة تتجه ضد مجهول وقد لا تصيب الهدف..! وحتى تصيب الرصاصة هدفها، ليست بهدف القتل بقدر ما تكون إيقاظ الإنسان من الموت كما قال دون: " لا أحد ينام في العربة التي تقله من الزنزانة إلى المقصلة، لكننا ننام جميعا من الولادة حتى القبر أو أننا لم نستيقظ حقا.." إذن مهمتنا هي إيقاظ الإنسان السائر صوب المقصلة، والمبدع هو الإنسان الذي يعثر في شيء معروف على أشياء غير معروفة..
بعد أن قدمنا الشيء القليل والقليل جدا عن الفلسفة والشعر، وبعض ما ورد من ومضات فلسفية كنماذج وليس كل شيء في الشعر الغزي، حيث تنوعت بين الحب والموت والوطن والمعاناة، ومن الرثاء إلى الحلم إلى أسطرة الواقع إلى محاكاة الطبيعة والأمل إلى الموروث الثقيل من السياسي والاجتماعي والاقتصادي... هي جديرة بالاهتمام، وإن لم تهتم قيادة المجتمع المزيفة؛ فإننا نقول: أن غزة بخير وفيها من الشعراء ممن يمكنهم أن يحتفلوا ونحتفل معهم بـ (غزة أبولو) غزة الشعر والشعراء، رغم ذلك نقول:
· على الشعراء أن لا يفحصوا الوطن بالمجهر والجرثومة بالعين المجردة!؛ فلم تكن وظيفة الكتابة أو نتاجها طمس جرح وعلاجه، وإنما إعطاؤه معنى وقيمة وجعله في النهاية لا ينسى !! وإذا قال التصوريون الروس أن (الصورة) هي النفتالين الذي يحفظ العمل من العثّ.. أنا أقول أن (الفلسفة والحكمة) هي من تحيي القصيدة إلى الأبد..
· على مؤسساتنا الأكاديمية أن تنزل من كرسيها المعزول عن المجتمع والبيئة، فبيئتنا خصبة ومجتمعنا فيه شعر وفلسفة وحكمة ويحتاج منكم الاستشهاد بها ودراستها... ويجب أن نقول هنا للأكاديميين أنه ما لم يكن كليات للفلسفة بجانب كليات اللغة العربية وآدابها ستظل حركة النقد ضعيفة..
· على مؤسسات المجتمع المدني والمدارس أن تبدي مزيدا من الاهتمام بنقل وتوصيل شعرنا إلى الأبناء..
· على الجهات المسئولة العمل على تأسيس دارا غير ربحية للطباعة والنشر، وكذلك مؤسسة متخصصة لمتابعة ما ينتج من شعر وتصنيفه وأرشفته تسهيلا للباحثين والدارسين.
ـــــــ
المراجع
1 ـ فرنان ألكييه: معنى الفلسفة، ترجمة حافظ الجمالي، منشورات اتحاد الكتاب العرب، 1999. ص 15.
2 ـ كارل يسبرز: نصوص مختارة من التراث الوجودي، ترجمة فؤاد كامل، الهيئة المصرية لعامة للكتاب، 1987 . ص 14.
3 ـ نزار بريك هنيدي: الرحيل نحو الصفر، منشورات اتحاد الكتاب العرب، 1998 . ص 62.
4 ـ نصوص مختارة، م.س ، ص 65.
5 ـ الغفار مكاوي: شعر وفكر، الهيئة العامة المصرية للكتاب، 1995، ص 62 .
6 ـ هانس غادامر: تجلي الجميل، ترجمة سعيد توفيق، المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة 1997 ، ص 224 .
7 ـ محمد شيا: الأدب والفن والفلسفة، مجلة الفكر العربي، ع25 فبراير 1982 . ص 122 .
8 ـ المرجع السابق، نفس الصفحة.
9 ـ أدونيس: زمن الشعر، دار العودة، بيروت، ط 3، ص 174 .
10 ـ المرجع السابق، ص 173 .
11 ـ المرجع السابق، نفس الصفحة.
12 ـ إياد بلعاوي: ما يشبه الضحك، بيت الأمة، غزة 2005 .
13 ـ السابق، ص 51 ـ 52 .
14 ـ صباح القلازين: نوافذ، منشورات اتحاد الكتاب الفلسطينيين، غزة، 2002 .
15 ـ السابق، ص 23 ـ 25 ـ 26 .
16 ـ السابق، ص 39 ـ 40 .
17 ـ عائدة حسنين: عناق الوردة، منشورات اتحاد الكتاب الفلسطينيين، غزة 2005 ، ص 31 .
18 ـ السابق، ص 36، 37، 44 .
19 ـ السابق، ص 33 .
20 ـ فادي الشافعي: ليس مصادفة ما يكتب، إبداعات فلسطينية، غزة 2012 .
21 ـ علاء نعيم الغول: حكاية من الشارع الخلفي، منشورات اتحاد الكتاب الفلسطينيين، غزة 2005 ، ص6 ـ 21.
22 ـ السابق، ص 23 ـ 29 .
23 ـ شجاع الصفدي: أتكئ على حجر، مطبوعات وزارة الثقافة الفلسطينية، غزة 2005 .
24 ـ أمال العديني: بين النهر وزنبقة، بيت الشعر الفلسطيني ووزارة الثقافة الفلسطينية، رام الله 2011، ص 7 ـ 13 .
25 ـ أرسطو: الشعر، ترجمة عبد الرحمن بدوي، ص18 .
26 ـ عبد الكريم عليان: جنون الحداثة وسلطتها على شعراء من غزة، الحوار المتمدن، العدد 2865 ، 22/12/2009.
27 ـ أدونيس: زمن الشعر، دار العودة، بيروت: 1972 ، ص 49 ـ 50.
28 ـ العقاد : الديوان ص 20 .
0 comments:
إرسال تعليق