لم تستطع أي من المنظمات الدولية حتى الآن، سوق أي من مرتكبي مذبحة مخيمي صبرا وشاتيلا للاجئين الفلسطينيين الى المحاكم الدولية، لجنة مستقلة واحدة تشكلت مباشرة بعد إرتكاب المذبحة من رجال قانون بارزين من أمريكا (ريشارد فولك)، وبريطانيا (براين بيركوسون)، وفرنسا (جيرو دولابرادال)، وألمانيا (ستيفن وايلد)، وايرلندا برئاسة المحامي الايرلندي شون ماك برايد والتي سميت اللجنة باسمه، مهمة اللجنة التحقيق في خروقات "إسرائيل" للقانون الدولي أثناء غزوها لبنان في العام 1982، وقدمت اللجنة تقريرها في العام 1983 وخصصت فصلاً كاملاً حول المذبحة، وَوَجدت بأن "إسرائيل" ساهمت في التخطيط والتحضير للمذبحة، ولعبت دوراً في تسهيل عمليات القتل من الناحية الفعلية، وبالتالي تتحمل المسؤولية الأولى عن المذبحة، فهي مسؤولة عن حماية السكان طبقاً لإتفاقيات جنيف لعام 1949 التي وقع عليها الإحتلال وأصبحت ملزمة له بمحاكمة الأشخاص مرتكبي هذه الجرائم بغض النظر عن جنسيتهم، وقد صنفت المذابح التي ارتكبها الإحتلال على أنها "جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية وأن مرتكبيها أو المساهمين فيها بأي طريقة من الطرق يتحملون مسؤوليتها فردياً، ومن واجب الدول معاقبة الأفراد أو المنظمات المتهمة بهذه الجرائم"، وحمَّلت لجنة التحقيق الدولية السلطات السياسية الإسرائيلية والعسكرية وخاصة شارون والضباط الكبار الذين كانت لهم علاقة بلبنان المسؤولية الكاملة عن الجرائم التي ارتكبت في صبرا وشاتيلا. واعتبرت اللجنة بوضوح أن ميليشيات الكتائب بقيادة إيلي حبيقة قامت بدور المنفذ للمذابح.
هذا المستند أهم تحقيق دولي في مذبحة صبرا وشاتيلا، وإضافة إلى ما بثته قناة بي. بي. سي البريطانية في برنامج "بانوراما" في 17 حزيران/ يونيو عام 2001 وقد اعتمد في حقائقه على شهادات الضحايا وشهادات جنود وضباط وصحفيون إسرائيليون أكدوا تورط السلطات الإسرائيلية ودور ميليشيات الكتائب في المذبحة، كانا كفيلين بسوق مرتكبي المجزرة الى المحاكم الدولية، وهو ما أعطى حينها القوة في رفع دعوى قضائية من قبل رجال قانون لبنانيين ضد شارون أمام المحاكم البلجيكية وكان سيكتب لها النجاح لولا تدخل اللوبي الصهيوني والضغط على الحكومة البلجيكية اضطرت على إثرها بتعديل بعض قوانينها حتى لا يكون هناك ملاحقة لمرتكبي المذبحة؛ ففي نيسان 2003 قامت بتعديل القانون المعروف بـ "الصلاحيات الكونية" والذي يسمح للمحاكم البلجيكية بمحاكمة مجرمين أجانب بسبب جرائم ارتكبوها خارج بلجيكا.
يُعتبر قبول المحاكم البلجيكية للدعوى إنتصاراً معنوياً للضحايا الفلسطينيين بصفة خاصة والفلسطينيين والعرب والمتضامنين بصفة عامة.. والأكثر من ذلك فتح هذا القَبول الباب أمام الفلسطينيين والعرب والمدافعين عن حقوق الشعب الفلسطيني للعمل من أجل إنهاء الحصانة السياسية والقانونية التي يتمتع بها الإسرائيليون التي تؤهلهم للإفلات من العقاب، بعد إهدار الدم الفلسطيني في كل مرة، فكان الحراك القانوني الدولي بعد ارتكاب المجازر المتكررة وآخرها إبان عملية "الجرف الصامد" الاسرائيلية العدوانية على غزة وتحرك حقوقيين باتجاه المحاكم الأرجنتينية لرفع دعاوى قضائية ضد القادة الصهاينة مرتكبي جرائم الحرب في القطاع.
وللتاريخ فقد استمرت مذبحة صبرا وشاتيلا من ظهر يوم 15/9/1982 حتى مساء 18/9/1982، بدأتها وحدات الإستطلاع من قوات جيش الإحتلال الإسرائيلي الغازية بقتل 63 مدنياً فلسطينياً في اليوم الأول ولتنسحب تلك الوحدات وتسلم مهام إستكمال إرتكاب المجزرة لأدوات الإحتلال من جهات لبنانية، كما قال الكاتب والصحفي الفرنسي آلان منراغ مؤلف كتاب "أسرار الحرب على لبنان"، ليقتحم المخيم 350 عنصراً في 16/9/82 ليرتكبوا وعلى مدار 43 ساعة واحدة من أبشع المجازر في القرن العشرين بحق النساء والأطفال والشيوخ من المدنيين العزل.
وقد ذهب ضحية المذبحة بين أربعة آلاف وأربعة آلاف وخمسماية شهيد من 12 جنسية حسب شهادة الكاتب الأمريكي رالف شونمان أمام لجنة أوسلو في تشرين أول 1982، و484 من الضحايا لا يزالون بحكم المخطوف أو المفقود، ولم يعد أي منهم حتى الآن حسب المؤرخة الفلسطينية الدكتورة بيان نويهض الحوت في كتابها "صبرا وشاتيلا أيلول 1982"، وتدمير جزء كبير من المخيم.
معظم شهداء المذبحة من اللاجئين الفلسطينيين، يليهم اللبنانيين والسوريين والمصريين والإيرانيين والباكستانيين والبنغلاديشيين والأردنيين والأتراك والسودانيين ومكتومي القيد وشهيدة جزائرية هي أمال عبد القادر يحياوي (25 سنة) والشهيد التونسي، صالح ولقبه أبو رقيبة (65 سنة)، وشهيد تنزاني هو عثمان ولقبه عثمان السوداني (25 سنة).
اعتادت "إسرائيل" على عدم المساءلة وتتصرف وكانها دولة فوق القانون ولا تلقي بالاً لأي من المحاكم الدولية أو المعاهدات وإتفاقيات الأمم المتحدة.. وللإلتفاف على أي قرار ممكن أن تتخذه الأمم المتحدة بتشكيل لجنة دولية للتحقيق، اكتفت دولة الاحتلال حينها بتشكيل محكمة كاهانا وتحميل آرييل شارون وزير الحرب آنذاك المسؤولية ومعاقبته بعزله عن قيادة الجيش الإسرائيلي. كثيرون من يتحملون مسؤولية إرتكاب المذبحة، إبتداءً بالإدارة الأمريكية حسب المفكر والكاتب الأمريكي نعوم تشومسكي الذي يعتقد بأن أمريكا هي من "أعطت الضوء الأخضر للإسرائيليين بإجتياح لبنان في العام 1982"، وإنها أي أمريكا "غدرت" بالحكومة اللبنانية والفلسطينيين حين أعطت الطرفين ضمانات بسلامة الفلسطينيين بعد مغادرة الفدائيين بيروت، إلا أن القوات الأمريكية انسحبت قبل أسبوعين من انتهاء فترة تفويضها الأصلية بعد الإشراف على مغادرة مقاتلي منظمة التحرير، قبل أن توفر الحماية للسكان المدنيين.. فوقعت المجزرة، ورفضت أمريكا قرار الهيئة العامة للأمم المتحدة باستنكار المذبحة".
النموذج الذي قدمته محكمة كوالالمبور لجرائم الحرب جدير بالإهتمام، فقد انعقدت المحكمة في 20/11/2013 أي قبل أقل من سنة مدعية على العميد عاموس يارون الذي وجدته بأنه "متهماً بارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية والإبادة الجماعية بصفته القائد العام الإسرائيلي ذو السيطرة العسكرية على مخيمي صبرا وشاتيلا إبان الإحتلال الإسرائيلي الى لبنان في شهر أيلول/سبتمبر من العام 1982 وذلك بتسهيله وعلمه بالأمر، وسماحه بارتكاب مجزرة على صعيد واسع بحق قاطني المخيمين المذكورين الأمر الذي يشكل خرقا لإتفاقية لاهاي الخاصة باحترام قوانين وأعراف الحرب البرية لعام 1907 وإتفاقية جنيف الرابعة للعام 1949 وإتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها لعام 1948 وميثاق نورمبرغ للعام 1945 وحكم نورمبرغ للعام 1946 ومبادئ نورمبرغ للعام 1950 وقانون الأعراف والقوانين الدولية والقواعد الآمرة للقانون الدولي العام وقوانين الحرب والقانون الإنساني الدولي"، وبالتالي يستحق العقاب وقد شكلت المحكمة هيئة الإدعاء وفريق إدعاء وشهود ومستمع إليهم عن فريق الدفاع، وعلى الرغم بأن المحكمة هي محكمة ضمير وحكمها هو مجرد حكم تفسيري لا يتمتع بأي قوة تنفيذية، إلا أن المحكمة قد وضعت حيثيات الحكم والمحاكمة بين يدي المحكمة الجنائية الدولية ومجلس الأمن، للاستفادة والبناء على مضامينها في ملاحقة مجرمي الحرب من الإسرائيليين.
أما عن إعادة الإعتبار للضحايا وللناجين من المجزرة وكي لا يتكرر هدر الدم الفلسطيني من جديد، فلا يكون إلا من خلال محاكمة ومعاقبة المسؤولين عن إرتكاب المجزرة وكافة المجازر السابقة واللاحقة أمام المحاكم الدولية، فجرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية لا تسقط بتقادم الزمن؛ كي يشكل هذا بارقة أمل لإعادة بناء جسور الثقة بين الأمم المتحدة والمنظمات الدولية والشعوب التي تنظر اليها بأنها مُرتهنة للقوى والنفوذ السياسي على أحقية القانون.
*كاتب وباحث في الشأن الفلسطيني
بيروت في 15/9/2014
0 comments:
إرسال تعليق