في ذلك الصباح الحزين المتلفع بألم الوداع وخدر البعد عن الأهل والأرض، قبيل انطلاقة زينو من قريته نحو بيروت، كانت الإذاعة اللبنانية تُرشد المواطنين إلى السالك والآمن من الطرقات المعقمة من ذئاب حواجز الخطف على الهوية. وتُحذّرُ من القنص على محوري الشياح وعين الرمانة وسائر المصائد البشرية الثابتة و"الطيارة".
كان زينو في تلك الأثناء ، وإلى أن يعود من مغتربه يتناول آخر فطور مع زوجته وطفله وأمه وأخوته، عيناه المغرورقتان تبثان غصة لو انفجرت لكتبت على حيطان البيت وساحة الدار : "آه يا أمي ! لو تعلمين كم كان خبزكم ألذ من كعكنا، و حداؤكم أعذب، وتينكم أطيب".
أقارب زينو الذين جاؤوا لوداعه كانوا يتحدثون بهلع عن الشياح و عين الرمانة، ويتحسرون كيف أصبحت تلك المرثاة على فم المذيعين بعد أن كانت أهزوجة معاوني "البوسطات" وسائقي سيارت التاكسي في ساحتي البرج والدباس يوم كان حمام العز والأمن والأمان يرفرف فوقهما. القرويون الهارجون يخشون على ضيعتهم من أن تصلها ذرات الهواء المثقلة برائحة البارود والنار والموت والدمار والخطف على الهوية، أو أن ينشر جسد ضيعتهم الصغير منشاراً كالخط الأخضر الذي يقص بيروت كمبضع يفصل توأمين سياميين. كان زينو في تلك الأثناء يعيش غصة حرمانه من زيارة قبر "أهله الجدد" ماما أديل وبابا اسكندر في المنطقة الشرقية ؟ في منطقة كانت قريبة حتى الأمس القريب. عز عليه افتقاد احتضانهما الروحي وتمنى لهما الرحمة.
زينو في طريقه إلى بيروت. في تلك الرحلة سوف يتفادى سائق التاكسي المرور في الكحالة والجمهور والفياضية والحازمية وغاليري سمعان. سوف يسلك طريقاً جديدة، تأفف أحد الركاب من طول وضيق و خطورة وصعوبة تلك الطريق التي فرضها على اللبنانيين من فرض الحرب عليهم ليعيد الفارضون كل خروف إلى قطيعه، ولكي يسهل جزر كل الخراف لاحقاً،السيارة تعبر عاليه، سوق الغرب، بشامون ثم إلى الطريق الساحلي "السالك الآمن" إلى بيروت. من هناك سوف يتجه زينو إلى مكتب السفريات. تمنى لو كان بإمكانه زيارة قبر أهله الجدد كما كان يفعل كل آخر شهر ووضع إكليل ورد عليه ولاستمرارية توأمة تراب ضيعته بتراب قبر ماما أديل وبابا اسكندر.
بعد استلامه لجواز سفره ممهوراً بتأشيرة بلد خليجي. شردت عينا زينو عبر نافذة مكتب السفريات في بيروت صوب غيمة تعوم بعيداً في الفضاء الأزرق، ناجاها تمتمة، تراءت له مسالمة كحكواتي عجوز طيب يضحك أكثر مما يحكي، تمتم المسافر الكئيب : "أعريني فرحك ليوم واحد أيتها الغيمة".
في البقاع البعيدة عن مسقط الرأس تستدعي الغربة مفردات مشابهة كالغروب والغراب والغريب. وكولادة الفرج من رحم الضيق تنفتح كوى انفراج احتضان الغريب للغريب حيث يقيم زينو مع زملائه اللبنانيين في العمل من كافة الأطياف السياسية والمذهبية. يتجادلون وتعلو أصواتهم ثم يتناولون العشاء معاً، يلعبون الورق ويتبادلون النكات وأخبار بلداتهم وقراهم معاً، ويتشاركون غرف سكن معقمة من خطوط التماس.
الغسق يكفهر في ذلك الأفق الزمني المفتوح. زينو ورفاقه يستعجلون العودة من غربتهم على وقع قرع طبل عملاق: عودة/لاعودة، هدأت الحرب/لم تهدأ، ستة أشهر أخرى، ستة أشهر أخرى ، ستة أشهر أخرى ..... ستة أ.... ويتماوج رجع الصدى فوق رمال الفيافي إلى أن يمتصه سرابها. أضحى زينو في غربته بوضع مقاتل متقهقر مشتت يقوده حذاؤه في مربع مقفل. يحده من الشمال والشرق والجنوب أحذية ثقيلة ومن الغرب رزمة تذاكر سفر وشجرة العائلة.
بين ستة أشهر وستة أخرى يفصل بينها دهور طويلة، يولد حدث أسود جديد يؤجل العودة ويستمر نحر ثواني العمر في الغربة. يتبادل زملاء المهجر الذين بدأ شعرهم بالمشيب قصص أطفالهم، حكى لهم زينو بغصة كيف نفر منه طفله حين عاد من الخليج ليقضي إجازته، وكيف بكى القلب النازف شوقاً لغمر فلذة كبده آن فر منه الطفل مبتعداً مرتعباً مستغرباً "الرجل الغريب". تحرج حياء وكاد يبوح لهم بمدى نمو خوفه على أشلاء روابط يدفنها البعد في فجوة سوداء تكبر كل ستة أشهر، بينما زينو يحكي كان كل من أصدقائه ينظر إلى الآخر ويرى في عينيه أسف ذوبان الشموع في مهب الريح.
خرج الشباب في هرجهم من إطار ألم الفرد إلى وجع الوطن. تحدثوا عن كبر هواجسهم على أوصال بلد تتناهشه أنياب الغرباء والأقرباء على السواء. وعن أحزاب تنبت كالعشب الضار، تتناسل كتكاثر الطحالب والطفيليات، وتتغذى على دم فراشة جميلة اسمها لبنان، وعبره على فلسطين المغتصبة من العدو و المضطهدة من الشقيق.
في تلك الأيام التي كان فيها لبنان كقاصر يتنافس للوصاية عليه شقيق وأخ ، ومض بارق انفراجة أخرى، وبينما الشباب المغتربون يحزمون حقائب السفر بفرح، سمعوا من الإذاعات بأن إسرائيل قد اجتاحت الجنوب اللبناني ففكوا الحقائب وأجلوا العودة إلى الوطن. كان ذلك في شهر آذار من العام 1978، صدر قرار الأمم المتحدة رقم 425 ولكن غطرسة القوة فرضت نفسها، جثمت إسرائيل وشكلت ما سمي بجيش لبنان الجنوبي فأصبح للبنان جيش جديد يضاف إلى عشرات الجيوش المنفلتة على أرضه.
كان "الجيش الجديد" ومواطنو الشريط الحدودي بنظر بعض المقيمين والمغتربين مجموعة من المغلوبين على أمرهم أجبرهم الحصار المفروض من الفلسطينين واليساريين على التعلق بحبل إسرائيل المجدول بألسنة الأفاعي، بينما اعتبره آخرون خيانة. هكذا وبشطحة لسان تعميمية.
لعب الشباب الورق، تبادلوا النكات وهجعوا كل على سريره المعقم من جراثيم خطوط التماس في انتظار غد آخر يحمل له ضوء أمل بعودتهم. ولكن صدمة جديدة كانت في انتظارهم هم وحقائبهم والذين ينتظرون عودتهم.
في صباح الرابع من شهر حزيران من العام 1982 اجتاحت إسرائيل لبنان ووصلت إلى بيروت ثم انسحبت منها، التراجع لم يشمل أرضاً جديدة محتلة بلغت تلال قرية ينطا في منطقة راشيا، وأضحت طريق عام بيروت-دمشق ضمن مرمى الأسلحة المتوسطة ، ودمشق ضمن مرمى مدفعية العدو.
بينما جسد الوطن يتحلل تم انتخاب بشير الجميل رئيساً للجمهورية. سادت ربوع الوطن المتوتر استرخاءة قصيرة، حزم الشباب المغتربون حقائبهم،لم يطل وميض أمل غير مناسب للعدو و غير مريح لطموحات الشقيق فقضى الرئيس الشاب في انفجار ووئد حلم التئام الجروح. فك الشباب الحقائب وجددوا عقود العمل لستة أشهر أخرى.
بين حزم حقائب وفك حقائب كان الشباب في مغتربهم يتجادلون بين مؤيد ومناهض حيال تشريع أبواب لبنان لليبيين والحرس الثوري الإيراني والشقيق والأخ. ويتناقشون حول ما تبقى من قوات الأخ الفتحاوي في البقاع اللبناني والشمال التي لم تستطع إسرائيل إخراجها منه فتولى الشقيق طرد الأخ إلى تونس بعد أن صفى قيادات وكوادر بالمئات.
خروج الأخ من طرابلس بقي نصراً منقوصاً في حسابات الشقيق ، كان على الأخير أن يمسك برأس الشقيق اللبناني كي يخضع كل الجسد، إذ كانت بيروت لازالت خارج مناطق تواجده لأنها ممنوعة على الشقيق والأخ معاً طبقاً لإتفاق "فيليب حبيب". وطالما أنه "لا بد من صنعا وإن طال السفر" فتح الشقيق باب قفصه للأوزة التي تبيض ذهباً ونفوذاً وأوراق تفاوضيه،يومها ولأسباب قيل بأنها تتعلق بالتوازن الإستراتيجي مع العدو الصهيوني اشتعلت سلسلة من المعارك المحلية بدأت في قرية عيحا الحدودية ثم راشيا، مشغرة، العزونية، صوفر، شارون ، عرمون وتوقف المسلسل يستريح قريباً من الخط الساحلي بانتظار قطاف التفاحة الكبرى.
على تلك البقاع التعيسة الملتاثة بفقاعات القومية والإشتراكية وصراع العدو سوف يلطخ التاريخ جبهة العروبة المستعينة بمن كانوا في "جيش لحد" ، والذين ارتكبوا مجزرة مروعة ضد أبرياء في بلدة سحمر برعاية العدو وتخطيطه، احتضنهم الشقيق بعد انسحاب إسرائيل في شهر نيسان من العام 1985 من منطقة راشيا وتولى تسليحهم وتوجيههم بقيادة زعيم محلي.
بين معركة يشعلها الشقيق بدم اللبنانيين ويطفئها بدم اللبنانيين تأججت نار ما سمي بـ "معركة العلمين" في بيروت بين حركة أمل والحزب الإشتراكي يوم عيد العلم في لبنان، في تلك المحنة الصعبة كان البيروتيون على موعد مع الخطف والقنص والإخفاء. اشتعلت المدينة الوادعة الحلوة لمدة سبعة عشر يوماً إلى أن تمنى ساكنوها أن يأتي "القرد الأحمر" لتخليصهم من ذلك الجحيم فدخل الشقيق وأطفأ النار بالدم.
حين أمسك الشقيق مجدداً بالشطر الغربي من بيروت وامتداداته على الأراضي اللبنانية انفلشت رغوة السلم الأهلي فعاد عدد من زملاء زينو إلى لبنان ولكنهم هاجروا بعد عام. في الوطن المستباح كثر مداحو الشقيق ومتملقوه من كافة أطياف الأحزاب اللبنانية،ساوموا على دم شهدائهم وارتضوا لأنفسهم الالتحاق بركب القافلة. باعوا ماضيهم مقابل مقعد نيابي أو وزاري، أو وعد به، و جوائز ترضية بالمرور عبر الخط العسكري ومنح تعليمية في الجامعات ومعالجة طبية في المستشفيات لهم ولمن يزكونهم. استطيب بعضهم لقمة التهريب عبر مسالك برية يبيعها لهم ضباط ومتعاونون، هانت على تلك القيادات مبدئيتها السابقة وذابت في محلول القومجيين والمذهبيين. "يا حيف !! ". قيل لنا بأن هذا ما قالته صخور الجبال.
محمود شباط
الخبر في : 30/06/2012
0 comments:
إرسال تعليق