و"تطرق الأبواب" للأديب والمفكّر التّونسي " محمّد سعيد القطاري "، قصّة تقرأ عمق الماضي بثيماته البعيدة والقريبة، و تستشرف مرايا المستقبل القريب البعيد. قصّة الطّرق على أبواب حاضر متّصل بوشائج متينة بماضيه، ممتدّ في خاصرة المستقبل.
من الصّعوبة الإيغال إلى أبعد حدّ في أعمال" القطاري" الّذي يعتبر من الرّعيل الأوّل في خوض تجربة الأدب الحداثي التّونسي، و ذلك لما تتميّز به كتاباته من عمق مثير/ مربك، سواء في أبعادها الدّلاليّة / التّجريبيّة، أو من ناحية مقدرته على تأثيث متن سرديّ قصصيّ قائم على ترسانة من حشد بلاغيّ يسعى من خلاله للبحث عن كلّ أشكال التّجديد في بلورة وصياغة الخطاب السّردي، و ذلك عبر خوضه لمستويات لغويّة تتجاوز نطاق المتعارف عليه والتّطرّق لسبل وآليات تقنيّة سرديّة فنّية مُحدثة ومغايرة. عبر لغة مكثّفة بانزياحات بلاغيّة وإحالات ضمنيّة واستعارات تنهض على ثيمة الرّمز، وتناص مُحكم بين الدّلالة والإيحاء.. ولغة مفارقة مكتظّة بالثّنائيّات الضدّيّة والتّعالقات النصّيّة .. هي تلك اللغة الجامحة، المتيقّظة، المستنفرة...لغة تحترف الدّهشة بين نثيرة مذهلة وشعريّة طافحة أخّاذة.. لغة جامعة بين علوم البلاغة والبديع واستثمار ذكيّ للمرويّات الدينيّة وغيرها ... وغوص متقن في بحور التّراث الأدبي، والصّوفي والفلسفي، وبين تقنيات وأساليب مُحدثة في عالم القصّ،تجمع بين الواقعي والغرائبي/ العجائبي، عبر حُسنِ سبكٍ وابتكارٍ مدهش لعوالم متخيّلة لصيقة في جوهرها بالواقع المعاش، حيث يتعرّى الرّاهن ويُسكب الوفاض... عوالم صادمة تهزّ يقظة المَحكي له هزّا وترجّه رجّا، وتفجّر في ضميره بحرا متلاطما من التّساؤلات لا قرار له.
كان لزاما في بداية الاستهلال، الحديث عن أبجديّة " القطاري " أو لنقل لوحاته الفسيفسائيّة المكتنزة بتلوينات أخّاذة بين المؤتلف والمختلف، وبسحريّتها الدّافقة والصّادمة، وذلك لتسهيل الولوج إلى عوالمه المبتكرة وتسويف توليفته الإبداعيّة باعتبارها تشكّل خطابا وظيفيّا حمّالا لرسائل متعدّدة، وتؤسّس رؤيته للواقع والوجود، انطلاقا من هذه البنى العميقة، الموغلة في الرّمزيّة العجائبيّة، حيث تبوح اللّغة بكلّ أسرارها و تعلن غوايتها....
من العنونة ننطلق في رحلة الاستكشاف في سراديب و أقبية قاموس " القطاري " ، و "تطرق الأبواب " .. للوهلة الأولى يبدو العنوان بسيطا في انتقاء مفرداته و معناه، و بالعودة إلى مفردة تطرق نجدها مشتقّة من فعل ثلاثي مجرّد " طرق " ... نقول طرق المكان : جعله طريقا / طرق طريقا : سهّله ومهّده / طرقت الحامل : علق جنينها في بطنها وصعب خروجه / و عُشب مطروق : أصابه المطر بعد يُبسه / و تطرّق : ســار حتّى أتاه ... أمّا مفردة الأبواب فتحمل الشيء ونقيضه، فالباب هو المدخل أو ما يسدّ به المدخل و الأبواب هي الطُّرق والسُّبُل ... كما أنّ عبارة الأبواب ثريّة جدا ومتعدّدة الاستعمالات، نقول أبواب الخير/ الشرّ ،أبواب الحقّ/ الباطل،أبواب الاجتهاد/ التّواكل، أبواب النّجاح/ الفشل، أبواب الصّدق/ الخداع، أبواب التاريخ/العمل/ العشق/ وصولا لأبواب السماء رغبة في الفتح المبين... ومن خلال هذا الجمع من التّفاسير تتجلّى عوالم القصّة بكلّ أبعادهــــا ودلالاتها، ألا وهي الطّرق على أبواب الوعي....
و"تطرق الأبواب" من العنونة صيغت برمزيّة خلاّقة، ومنذ استهلالها رسم الكاتب المحطّات المكلّلة بالدّهشة، أين تدور أحداث القصّ، حيث معركة الأحرار والعملاء، هذه الثّنائيّة الضدّيّة الضّاربة في أعماق الزّمن، المتجذّرة في عمق الأمكنة، ثنائيّة لا يختزلها زمن و لا يحدّها مكان، هي معركة الحقّ والباطل، و كلّما غصنا قُدما في لَبِنات القصّة، تتجلّى الدّلالات ويحتدم الصّراع أكثر وتتدفّق المعاني تدفّق النّور في ملكوت الرّحمان. ومن هنا نستبطن أنّ الكاتب لم يحدّد فترة زمنيّة أو حقبة تاريخيّة معيّنة، حيث ترك الزّمن منصهرا في الأحداث، ممتدّا امتداد الأفق في السّماء. حيث تتداخل خطوط الزّمن مع عوالم المكان. بين نهر و جبل هناك كان "أبو الهيجاء" يجاهد النّفس وينتظر ملاذ الخلاص، يشكو أزمنة موغلة في الضّياع، ووجود عبثيّ مرابطٌ أصقاع بني جِلدتِه، الأسئلة تخلخل حرقة روحه الثّائرة كألغامٍ حارقة تنتظر لحظة انفجارها في كلّ حين: " ما نفع النّهر والجبل إذا تجمّد النّهر وانكفأ الجبل؟" و يردف " لماذا لا ترتسم قبلة المكافحين على شفاه النّهر ووجنة الجبل" (ص5) ... يتساءل " لكن .. هذا الوميض الذّي يشعّ مسترقا من المساء صبوة الصّباح، ألا يطهّر النّهر فتنْهد الصّبايا وتشخب الأثداء. ألا يمدّ ذراعا لأبواب الجبل، فينقدح الشّرر، ويأزف يوم الفتح، لتركض الخيول بين نهر وجبل.. تستحمّ الأرض بعطرها الموعود؟."(ص6) يضيف " ألا تشبّ في رؤوس الشّاربين مياه النّهر، حميّةٌ، فيهبّوا كالقضاء، يمتطون صهوة صافنات جياد، يجرّبون طعما مثل الموت انتصارا ... ومثل الحياة نضالا!.." (ص8)... سيل من الأسئلة المتدفّقة ينهمر لاذعا من كينونة "أبو الهيجاء"، يفجّر صورا متموّجة في ذهن المتلقّي ويدفعه دفعا للإبحار في خضمّ أتونها الملتحف بالغرابة والدّهشة. حيث يقوم بتحريك ذهن المحكي له باتّجاه بوصلة النّص، أين تكمن شفرات الجوهر و منابت الرّوح. ولعلّنا نجد في مقدّمة التّساؤلات الّتي تلحّ علينا منذ البدء، لماذا تحديدا هذه الرّقعة الجغرافيّة المنتقاة؟؟ لماذا بين نهر وجبل؟؟ . المتعارف عليه أنّ المكان في المتن السّردي هو العامل المساعد لتوضيح دلالات الرّؤية السرديّة المنبثقة من النّصّ، حيث نتمكّن من الظّفر بمفاتيح الاستقراء وبالتّالي استنطاق النّص و سبر أغواره غير المرئيّة عبر الاتّكاء على مفاصل مختلفة من الرّموز و الدّلالات. إذن نستشفّ من خلال ما تقدّم أنّ مفردة النّهر أو الجبل تتجاوز تلك المشهديّة الضيّقة كونها مكوّن جغرافيّ طبيعي - وقع عليه اختيار الكاتب ليؤثّث متنه فحسب- و ترتحل بنا إلى فضاءات مشبّعة بالتّرميز والدّلالة والإيحاء حيث نستخلص كمّا من المبادئ المرتكز عليها، فلسفته، نهجه، ورؤية الكاتب الخالصة.
بالرّجوع إلى "الجبل"، كونه مكوّنا جيولوجيّا، نجد أنّه كلّ ما ارتفع من الأرض إذا عظُم وطال وجاوز في ارتفاعه التّلّ... و كذلك هو اسم لكل وتدٍ من أوتاد الأرض. وهنا يطيب لنا المقام بذكر الآية الكريمة " ألم نجعل الأرضَ مهادًا والجِبالَ أوتادًا" (النّبأ:آ 6/7) و سنقتطف من مجمل تفاسيرها ما دنا منها لرؤية الكاتب .... بالنّسبة لـــ"الإمام الرّازي" فسّر "الجبال أوتادا" بأنّها أوتاد للأرض كي لا تميد بأهلها... و"القرطبي" فسّر أوتادا : أي لتسكُنَ ولا تتكفّأ و لا تميل بأهلها... تتكشّف إذن بعض أبعاد هذا الانتقاء الدّلالي للمكان، حيث قرّر أبو الهيجاء خوض التجربة والرّحلة نحو الجبل، رغم المخاطر والأهوال، رغم إدراكه بعسرها وقسوتها، إلاّ أنّ الرّحلة باتت المصير المحتوم والمنشود، فالجبل هو الملجأ لأهله وبني جلدته كي لا تميد و لا تميل بهم الأرض، أين المستقر والمتاع، إذن هي رحلة الشدّ والتّآزر والتّثبيت والثّبات. "أبو الهيجاء" يسعى لرأب الصّدع "أريد جمعا واحدا لا تهلكه الحميّة ولكن تصلحه الحميّة، و ينصره التّآزر"(ص43). وبِخَلع مفردة "الجبل" عباءتها الجغرافيّة وانصهارها في بوتقة التّرميز تتفتّح أبعاد الرّؤية أكثر، وقد خصّ "القطاري" الجبل بوابل من العبارات والتّراكيب الوصفيّة، وتشكيلات دلاليّة رمزيّة متقنة ( عظيم وشاهق/ معقل حصين يثير الرّوعة/ عتوّ صخره الصّلود/ الجبل يرفض الهزال/ تأمّله كيف يشمخ في كبرياء لا يقاوم/ يتحدّى الظلمة والعواصف والوابل الهطل/ البُزاة هي وحدها التّي تسكن قمم الجبال) ..وغيرها من العبارات المتوثّبة والمتيقّظة التّي تستدعي إلى ذهن المتلقّي ذاك الشّموخ والعلوّ وتلك المكانة والعظمة، و نقرأ في العلوّ دلالة القدرة المبدعة لاقترابه السّيميائي من السّماء، أمّا الشّموخ فتاريخ العرب وحضارتهم الشّامخة و لو كره الكارهون، وذاك الشّرق الذّي وصفه بـــــ ( طود رفيع العماد/ شمسنا الطالعة...). وهذا ما يدلّل على شغفه وولعه بهويّته وعروبته المستباحة من طرف الغرب وبأيادٍ عربيّة " أمّا في الشّرق فيكون الميلاد والصّحوة" (ص12). كما نقرأ في المكانة، الموقع الأثير للجبل في الصّراعات العربيّة المحتدمة ضدّ الطّغيان والاستبداد و خاصّة في الحقب الاستعماريّة التّي جثت على كاهل العروبة والسّاعية لتقويض أمجادها و طمس هويّتها، حيث تحصّن به الأحرار لدحر قوى الظّلام ، " فمن الجبال كانت الصّيحة الكبرى التّي هزمت عروش الظّلم ومسحت آثار الطّغاة" ص(22).
و المثير حقّا في دلالة المكان أنّ الوصف قد تجاوز نطاق اللّغة المشهديّة أي الوصف الخارجي و سعى إلى خلق رؤية فلسفيّة محدثة مشحونة بالمعنى و التّأويلات الدّلاليّة، فالنّهر ليس مجرّد ماءٍ يسري " إنّ في عمق النّهر يستحمّ الخلود... ومن أغواره تنبعث ثورة "(ص92)/ " احذر فالنّهر الكبير مارد جبّار لا يقهر، وإن طال المدى"(ص86) ويبرز ذلك أكثر حين نقرن دلالة الجبل بدلالة النّهر، في الصّفحة (35) يقول " سيعودون ليرتضعوا ثدْيَيك على ضفّة هذا النّهر الّذي يختزن قوّته عند قاعدة الجبل"، هنا تنضج الرّؤية أكثر حيث حرّر الكاتب المكان من مفهومه اللّغوي وأدرجه بين مساحات التّأويل و برزخ الفكر. المتعارف عليه أنّ الجبال هي مستودعات للأنهار " وهُوَ الّذي مدَّ الأرضَ وجعل فيها رواسِيَ وأنْهارًا" (الرّعد:آ 3) ، كما أنّ النّهر هو وليد الجبل عبر تلك العلاقة التّفاعليّة بين العنصرين الطّبيعيين والتّرابط الجيولوجي بينهما، والمتأمّل في النّهر يجد أنّ المكوّن الرّئيس له هو الماء الذّي يسّاقط من الشامخات الرّواسي، إذن صيرورة النّهر واستمراره مرتبطة بوجود الجبل، وبالتّالي وجود الماء أصل الحياة " وجعلنا من الماء كلّ شيء حيّ " (الأنبياء: آ30)... فإن جفّت مياه النّهر يصبح ذلك الأخدود المحفور على وجه البسيطة بمثابة خندق مهجور، منزوع منه الحياة، كأرض قاحلة جرداء لا تنبت فيها صولة العطاء، ويضحى المشهد المرسوم كمقبرة يتكاثر فيها صراخ البوم، وبؤرة جاهزة للتّعفّن ماضية في طريق العدم " لن يبقى للنّهر إلاّ لمعان في أغوار ملتفّة على صوان من جمد مثل دموع رقراقة ذخيرة حزن عميق .. ثقيل " (ص5). ومن خلال تصفّحنا لأغوار هذه الرّحلة، يلتحم الواقع بالرّمز عبر مسارات فلسفيّة ووجوديّة طرقها الكاتب ليحفر بين سطور قصّته التّجريبيّة رؤيته ويدلي بدلائه و يشهر خطابه، إذ بتجمّد النّهر أو جفافه ينقطع العطاء وبالتّالي ينحسر ذلك التّدفّق و يخبو الإبداع الذّي قرنه بأمجاد الشّرق وصولته زمن التّفتّح والاجتهاد والعطاء، ويصبح النّهر مجرّد خندق يتمترس فيه الغوبائيّون والغوغائيون والبراغماتيّون. وبالتّالي القطع مع الخَلقِ والإبداع، وهذا ما سارع في حدّة وتيرة حميّة "أبو الهيجاء" الذّي صدّ كل محاولات الإغراء من طرف العنقاء " كوليت" : " سنَسقيكَ رقراقًا رائعا في قوارير مختومة تلفّها بهرجة وزينة.. سنتْرع لك أقداحًا تنزع منك كلّ نازعة خوف، وتُنسيك شجن الماضي.. تماما مثلما فعلنا مع أولئك الّذين استيقظت فيهم بغتةً لذاذةُ العيش" (ص23). وقد مثّل الكاتب " كوليت" في صورة الغرب الباغي الّذي صوّره بــــ ( الشّمس الغاربة/ جراد ماحق /صانعو المأساة /لصّ هزيل /الحيّات الرّواقط ..) حيث اعتبر أنّ بطارقة الغرب هم من سجنوا الأفكار والأرزاق في ديار العرب وأحكموا السّيطرة على ضعفاءِ نفوسٍ من الأعراب قرّروا التّخندق في صفّ العمالة و الخيانة أولئك " الّذين اتّخذوا من الذّئب خليلا " (ص38) و نعت ما تبقّى من رعاع بالخسّة والجبن والخداع والفساد، وأطلق عليهم صفة الفئران والجرذان وجميع القوارض، حيث جاء على لسان الأمّ "احذر عبث صغار النّفوس فأولئك لا يمتلكون القيم. وأولئك هم المفسدون في الأرض وإن بدا انتفاخهم...وهم يَدُ السّفّاح الّذي يُخفي نتنهم ليُغيظ بهم مؤمنينَ يرفضون عبادة الأوثان.."(ص39).
" أبو الهيجاء" الوارث للوجه المتجلّي، هوى وعقيدة وغير المبالي بجموع أمطروها ضلالا... العاشق لماضٍ يبوح بألحانه، طحنته المعاناة وأرّقه القهر "الذّي يقضّ مضاجعه من هجرة بني جلدته أحضان المعاقل وارتمائهم وسط الأطواق المخبولة"، يدميه الحزن على" ماضٍ يتدثّر صفائح الغربة"..... قرّر الهروب من ربقة الأسر والانصهار في كينونة حضارته وهويّته .... وذلك عبر الطّرق على الأبواب، تحثّه الرّغبة في الخلاص الآمن " أنا أريد أن يبحر شراعي في يمٍّ آمن... أن لا تُقطع أقدام الأعراب في أرضي.. فتلك رواسٍ.. وتلك حرّية وشمم."(ص19) وانطلق في رحلة البحث، غير آبه بالمخاطر، لا يثنيه عن عزمه خوف أو مكابدة ولا تروعه قوّة و لا طغيان، ضاربا سلال الإغراءات بقَدمِ فارس لا يهاب الموت في ساحات القنا ... كيف لا؟؟ وقد اختار له السّارد لقب "أبو الهيجاء" ، والهيجاء هي الحرب/ المعركة... إذن فهو أبو المعارك وأهل لها... وينبغي أن نشير أنّ للأسماء في القصّة دلالات عميقة، ولكلّ اسم موضع قدم في المتن، حيث صِيغ برمزيّة حاذقة، تضع المتلقّي على حافّة السّؤال، وسرعان ما يُمسك بطرف المعنى وفكّ رموزه، إذ يصبح الاسم هو المصدر الكاشف لكينونة الشّخصيّة ونوازعها النّفسيّة وبواطنها.... وقد تميّزت القصّة بتعدّد الأصوات ممّا أثرى الفضاء السّردي وخلَق حركيّة دافعة في رسم الأحداث وسرعة تواترها من خلال التّأثيث السّردي المشهدي الموظّف، الواصف للأصوات (البورتريه)، والمقاطع الحواريّة بين الشّخوص... وللبنية الحواريّة مكانة بارزة في الكشف عن نهج السّارد وخطابه الوظيفي، وذلك عبر الاتّكاء على أصوات متعدّدة أثّثت عوالم القصّ، وألبسها بُردة رؤيته ... وبالعودة للمقاطع الحواريّة بين "أبو الهيجاء" و"كوليت" نلمس حُرقةً وحسرةً على ماضٍ خصيب، و تتجلّى نظرته للغرب الذّي " يبذر الملح في الجراحات النّاغرة، الغرب الأفّاق الذّي تعوّد القتل العمد... "(ص19) الغرب الدّعيّ، " كوليت/ أما نشرنا الصّبح على روابيكم الغائمة .... "ص(16)// "يوسف/ نحن نقودكم للضّياء.. وننقذكم من الذّهول" (ص83) الغرب المخادع، " كوليت/ لقد حاولت أن أبعثك بعثا جديدا ليسهل عليّ قتلك كالآخرين، فاستكبرت أَنوفًا كما تزعم، وكأنّك الحيّ الّذي لا يموت."(ص27)... كما نلمس لجّة الإصرار العنيد للقطع مع الأوحال المنتشرة على جسد العروبة، وإيمان متجذّر ، راسخ وشامخ لا يهزّه ابتزاز و لا يقصمه ريح " إنّي أنا الّذي لا تنطفئ في عينيه صورة البرزخ الممتدّ بين بحرين، في وَهَل النّوم أو استفاقة الصّحو."ص(23) وهنا يُفتح لاهوت السّارد مشرّعا، مُعلنا فخره بعزّة الإسلام وإعجازه... ولم تكن هذه الصّورة الوحيدة التّي لمسنا فيها تشبّع السّارد بلغة القرآن الكريم، إنّما كان المتن حافلا، مكتنزا يرْفد ألفاظًا وعِبرًا ومواقف من الذّكر الحكيم.... بل كذلك اعتماده على صيغة التّساؤل وهي من صيغ البيان القرآني، كما توشّى المتن بخاصّيات الانزياح الدّلالي للتّناصّ، وما يميّزه من عمق ودلالة وترميز للتّنصيص ممّا يدفع لخلق عمق دلاليّ جديد ومتجدّد، يُعيد قولبته بالنّمط الّذي يشتهي....
وفي حديثه مع "حارسة النّهر" يصرّح أنّ حياته قبل خوض الرّحلة كانت عجفاء، لا روح فيها ولا خصب ولا نماء..." لقد دعَتني نبضات النّهر إلى فجر الولادة، وردّتني إلى حياة" (ص23) إذن فالموت يتساوى مع الحياة عنده، إذا فرّطنا في حقٍّ منير وتوقّف عطاؤنا على المسير.... وتجلّى خوف السّارد من مستقبل ظالم، حالك الوبال، " أيصدق الباطل وعده ويزهق الحقّ" واتّضحت خشيته على الصّحوة الّتي بدأت تلوح في سماء العروبة، وأن يقع قطفها وهي لا تزال غضّة، طريّة، وجاء ذلك على لسان حارسة النّهر " وأخشى أن يكفّن الزّفت المنهالُ، البراعم قبل أن تعرف تلك البراعمُ غدْر ما يُهال عليها."(ص33) وبسؤالها عن أقدامها الغارقة في التّراب، تقول : " صدّوا عن السّبيل.. وولّوا الأدبار"، "هدّتهم الغاشية فخلصوا إلى بعضهم صراعا... فجاعت الحقول، وعطشت، واستبيحت الدّيار" (ص34) وهنا إشارة واضحة على تجمّد الفكر، وانحباس الاجتهاد... وتقهقر أمّة بحالها، انكفأت على ظلّها وانفرط من حصونها سواء السّبيل، أمّة أغرقتها نزاعات بلهاء جوفاء، وأرهقها الصّراع بين أبنائها .. أمّة حرّفت معنى الاجتهاد، معنى الشّهادة والجهاد، وحوّلتها إلى أشلاء ودماء...أمّة تفنّنت في خلق الطّوائف والشّيع والملل، وفي خلق الفتن...وتركت الباب مشرّعا للغرباء والدّخلاء وأضحت بؤرة ينخر فيها سوس العملاء. وتركت جرحا ينزف بلا هوادة ... وأدرك " أبو الهيجاء" الجرح، مخاطبا أمّه الشّرود " حين بلغتُ المكان اكتشفت أنّ اللّصوص يسرقون روافد النّهر ليضعفوه، و يقيمون الحواجز بين أيديكم لكيلا تبصروا"(ص36) تلك الأمّ الّتي تلوك جرحها "... ورضاب عمري الّذي ضاع مُهراقًا في حلوق النّمور... وفي صراعاتي.."(ص36)... الأمّ الحكيمة، الواعية والمدركة لخفايا النّفوس وخبايا الأمور "ليس خوفي من الموت الرّحيم... ولكن من خيانة لا تبذر في القلب العزاء."(ص36) هنا يتعرّى سبب البلوى ومكمن الدّاء ...الخيانة والعمالة التّي هتكت ستر الأمّة .. إذن العيب فينا كما قال "الشافعي"، "الخسـّة و الجبن والخداع... في هؤلاء الصّغار، فلو قضيت عليهم لاستتبّ لك الأمر. ولو استدرجتهم لأمِنتَ بعض الشرّ"(ص39) إذن لِمَ نحمّل الغرب أوزارنا،كومة نكباتنا و حريق كبواتنا... فالدّاء في أهل الدّار منتشر، ووجب استئصاله.. وأدرك "أبو الهيجاء" شيفرة الدّواء، وكان اللّقاء مع العامري، ذاك العربيّ العاشق لطين نسله... وأفرغ "القطاري"جعبة رؤيته، فالصّراع مع العملاء والدّخلاء هو صراع الحكمة، صراع الشدّ والتّآزر "إنّي منصرف إلى لمّ جمعٍ تتنادى أوصاله ليصبح بعضه لبعضٍ على الغريب ظهيرا."(ص45) وليس بمعركة تزهق فيها الأرواح وتبتلي أمّتنا بنهر من الدّماء "لا أريد لك الخطأ، فتداوي بالّتي كانت هي الدّاء" / "سنخاصم من يحول بيننا وبين زرعنا، ويبدّد الشّمل"(ص43)/ "بل سنحاربهم جميعا إلاّ أنّها ليست الحرب التّي علِمتُم وذُقْتم.. وليست الفتنة الّتي تقصم الظّهور.. إنّما هو الإيلاف الّذي ننشد."(ص45)
تحرّكت الحميّة في صدر "العامري" ولكنّه وقف مشدوها متململا "إنّ امرأتي حامل تترقّب وليدها منذ سنين، وعندما تلد سننجو من مغبّة الانهيار، وستصبح قوّة الفعل مسيطرة"(ص46) وكان الجواب حاسما وقاطعا "لا تتحدّث عن الأقدار بهذا الأسلوب، يا عامريّ إنّما أنت القـــدر" وكأنّنا بالسّارد يميط اللّثام عن تواكل الأعراب وخمولهم، وركونهم إلى القدر... فكلّ ابتلاء نعزوه إلى القدر، كلّ نكبة وكلّ مصيبة... كأنّ الإنسان عنصر غير فاعل، نزل إلى الأرض جسدا بلا فكر ولا روح ولا إبداع ولا عطاء... وعاء فارغ، نزعوا منه ماء الحياة لا يُغني من عطشٍ... فكيف لقوّة الفعل أن تصبح قوّة دافعة وتضرب بسيوفها اللّوامع والأيادي مكبّلة في خمولها، والأفكار مسجونة في سباتها، و الأمّة يغازل أهدابها الوسن... فالرّكون موت والاجتهاد حياة... فكفى بالأعراب " الوقوف على المشارف ازورارا" ... كفى لطما ونحيبا وأعذارا .. " الأمّ / القدر ليس وثنا ولا صنما تحمّله مقاليدك، أو نديما يساقيك كأسا بكأس لتلوك معه خرافة أو ...... لماذا تدع العجز يأكل روحك ويُطعَم من وجودك؟ أكلّما انتصرتم تضوع الألسنة متحدّثة بفخرها مغتبطة.. وكلّما انهزمتم أو وقعتم بين نابٍ وضرس، تفزعون إلى القضاء والقدر، تُلقون عليهما التّبعة، ضاجّين بإعْوالٍ ونحيب."(ص62)
هذا إذن هو السرّ الشّفيف في دعوة "أبو الهيجاء" : "فأنا أدعوك لزرع وحصد" لِــــــ "معركة الوجود والبقاء، دونها البارود المدمّر في سماء من حديد، وعلى أرض بطونها ألغام"(ص49) ساعتها "ستصبح الجراح أنشودة وردٍ، والمنايا زغاريد"(ص50) والحَمْلُ الّذي تأخّر " سيمنحنا حبّا، عمره قرون"(ص50).. وكانت الدّعوة إلى اليقين، دعوة بدايتها "تشبه بداية التّكوين" وعلى العامري أن يتعلّم القراءة من جديد، فالقراءة الّتي نتباهى بممارستها "قراءة أنفع منها الجهل، وأهدى منها الضّلال، قد لغا بها اللاّغون فظنّوا أنّهم ذُو مِرَّة لا يقدر عليهم أحد، فلمّا سُحِبت عليهم ذيول العتمة، ذُلّت رقابهم، وهاجروا إلى الشّمال يرتدون الثّلوج" (ص51) والحرف أضحى "كسيحا جريحا" لأنّ " القلم المسقيّ ثلجا قد أورق غربة.. والمداد الذّي أفرزته أثداء الحيتان لا تخضرّ سواقيه" و " لا يتعلّم القراءة إلاّ من يركب الشّمس حصانا ولا يعلّمك نظم القوافي غير هزيم الرّعود."(ص52) وينحو السّارد منحى فلسفيّا ذا أبعاد غارقة في الصّوفيّة " تنتظرك عند أقدام الشّواهق موجة من دخان، يُزهر البرق من ورائها ليكتب لغزا.. ويتلو الرّعد سورة. فإذا اقتحمت الموجة سالما، انقادت لك السّهول مُترعة بالضّياء، وتكسّرت الحدود كاشفة عن رؤاك الجميلة" (52/53) و كانت بُغية أبو الهيجاء "فقها لا يعيه المستعربون" حيث قال "للعامري" المتمرّس في كتابة الأوراد والحكم :" سأعلّمك كيف يقرأ السّجين والأعمى في عمق الظّلمة" وأردف " ففي الجبل الذي اتّخذته درعا وملاذا، فحيح وزفير،قصف وعصف، ..وشوشة وهديل.." ويقاطعه العامري "أهذه بعض قراءتي" يجيبُه " ولكنّك لم تتدبّرها لتحلّ في ذاتك مادمت في قيامك وقعودك ساهيا عنها"(ص53) هنا يؤكّد "القطاري" مجدّدا على قرينة "القول والفعل"، فما فائدة الأقوال دون تجسيد فعليّ على أرض الواقع، دون أن تمضي بنا قُدما نحو الأفضل، نحو الخلق والإبداع... ما فائدة الأقوال وهي طريحة مضاجعها ولا يُقذف بها إلى النّور؟؟
وللعشق باب في هذه القصّة العجائبيّة، عشق مشبّع بالتّراث الصّوفي والفيوضات النّورانيّة،عشق يزلزل المتلقّي حتّى يظنّ أنّه دعيّ حبّ،ترجّه الصّدمة كما رجّت العامري في حديثه مع الأمّ، فكيف بكلّ هذا الحبّ الضّاج في الصّدور أن يضحى عبثا أو يشكّك فيه..." روحك ضجرة يا عامري. وفي صدرك حبّ المغفّلين، فهو شبه صادق إلاّ أنّه مُعتلٌّ كالطّرف الغضيض"(ص57)/ "الحبّ لا تقرّبه المضاجع ...هو معركة وجود" (ص57) / "أنت حبّ مفجوع،مذعور، توشك أن تلجأ إلى لعبة القداح، كمن يلتقط الأوهام من جَعبةٍ خواء"(ص59)...إذن العشق لدى السّارد لا يقبل أنصاف الحلول، لا يقبل بالرّماديّ لونا، أمّا أن يكون قمرا مكتملا أو لا يكون..." العشق عبادة ومجاهدة وإيمان... وذات تذوب في ذات"(ص95) ومرّة أخرى يضعنا "القطاري" أمام ضرورة اقتران القول بالفعل والعمل، فالعشق مجاهدة، والعشق بذل وسعي وعطاء، العشق صدق، العشق معركة وجود فإن خضتها عليك أن تكون فارسا لا يهاب الموت، منزوعا من صدره الخوف، وعلى العاشق" أن يلغي من صدره الهزيمة" / "فالعشق رسالة الجهاد والتّضحية" ... " أمّا الخوف فهزيمة.. نعِيٌّ يمشي بخبر الفجيعة في انخذال الضّعيف المستسلم" (ص60) إذن العشق والخوف لا يلتقيان، والعشق والخمول ضدّان " أن تنبذ حماسة المتفرّج لتخترق الصّفوف في عنف الخطوب، ولِفُتُوّة الحبّ في نفسك برزخ فسيح. " وغير ذلك فإنّه يدخل ضمن باب "رؤى الحمقى" فالبكاء على الأطلال لا يفيد و عشق دون فعل، عشق بليد، مفتقد للصّدق و العاشق يصبح دعيّا " إنّك إن استطبت ذلك فأنت دعيّ.. ولست وريث مجد تسعى لكسبه من جديد..والدّعيّ غبار طريق تبثّه سنابك الحمير والبغال...."(ص61)
ويستمرّ الطّرق على أبواب الوعي عنيفا، يخلخل ذهن المحكِي له ويدفعه إلى احتراف جنون الإحتراق" فمنذ أحقاب كان المترفون يشربون من الجماجم" /"تدفع بهم شهوة الحياة إلى الكسل والبطر.. إلى رهن الجبل والنّهر.. يحسبون المجد زِقّا وقيْنة..الصّراخ عندهم تراتيل..واللّيل زمن إحْرام إلى مثوى المومسات.."(ص61) هذا هو حال أمّتنا، يقوم "القطاري" بتعريته دون وجلٍ ويستميت في زعزعته كي تفوح رائحة العراء، كي يضعنا وجها لوجه أمام حقيقة نجاهد كي نفلت من عقالها، تلك الحقيقة المفجعة والمؤلمة، وتلك الغربة التّي تقضم أرواحنا " كاظم/لذلك فأنت في خصومة مع نفسك المغتربة.... وأنت تغرق مستسلما لحتميّة الأصفاد والأغلال، راضيا بخفضٍ يُتاح لك..مُرتهبًا من عسر المجالدة" (ص88) فالثّوابت اهتزّت والأبنية الاجتماعيّة والاقتصادية والسياسيّة تصدّعت وانهارت ... وحان الوقت للمحاسبة، بدءًا بجلد الذات وصولا إلى الآخر... فبعضهم ارتدى معاطف الثّلج وارتمى في أحضان الغرب،وأولئك المستعربون الذّين أضحوا سيفا مسلّطا على الإسلام وكتابه المنزّل وما يحويه من إعجاز.... وبعضهم ركن للخمول والانتظار علّ القدر يمطره معجزة، وأولئك المتخاذلون.. ومجموعة لفّتها ستائر الخيانة والعمالة،وأولئك المأجورون... وأخرى تندب حظّ الأعراب وتلوك مجدا سليبا، وأولئك الانهزاميّون ... وعمائم تشعل في الأوتاد الحريق، وأذناب تفتك بحضارة و تئد كلّ خلق جديد ، عمائم طمست عوالم الاجتهاد واستبسلت في الغوغاء والانهزام وفي صراع عقيم، وأولئك المُفتِنون... وبطون منتفخة فوق الكراسي تجاهر بسبحة في النّهار وعند الدّجى يمارسون البَغْيَ والبغاء، وأولئك المفسدون... وأمام هذه الحقيقة قرّر أبو الهيجاء أن يرحل إلى الجبل، أن يوقظ أمّة من سباتها ويخوض معركة الوجود مع جمعٍ من قومه، وصوت الأمّ يختزن قصف الرّعود " لأَنْ تموت وحدك رافضا..واسع العطاء..حلو الشمائل..خير من أن تشيّعك الجموع لاعنة.." (ص37) ألم يقل المتنبّي " وإذا لم يكن من الموت بُدّ /فمن العار أن تموت جبانا" .. وكان العزم والإصرار لخوض معركة قوامها الشدّ والتآزر والعشق " لم يبْق جميل يُعشق على أشرعة النّهر والجبل غير ذاكرة تلتهب، لأنّها هي العشق.. حيثما تولّيت رأيت فيها العمر منصهرا" (ص82)،... هي دعوة إذن للانصهار في حضارتنا وهوّيتنا، وهي السّبيل الوحيد نحو الانعتاق ..ويكفي الحروف احتراقا بالمواجع، يكفينا بكاءً ونحيبا، و لنخلق من مأساتنا حياة تضجّ بالعزم والعمل، حياة تسعى لخلق جديد في كلّ حين،" كاظم : ومن غرورك أنّك لا تدرك معنى المأساة. لا تدرك أن المأساة خمرة تُحْتسى.. ولهَب يستضاء به.. ومرحلة تصنع مرحلة..ومنزلة فوق المنازل وتحت المنازل. وهي مغامرة المصير.. ومسيرة الوجود بين الكره والمحبّة.. والبناء والهدم.. والحرّية والعبوديّة.. وذلك جميعه مؤسّس على المعرفة وشمولها.. في سكونها وحركتها...." (ص87) هذه فلسفة المأساة لدى "القطاري"، فالمأساة مقاومة دافعة للتّقدّم والاجتهاد، صانعة للمواقف والرّجال... المأساة ولادة وليس اجترارا للقهر والمرارة، هذا ما أكّده السارد عبر الحلم، الحلم القادر على امتطاء الأخيلة، حلمه بفجر جديد "ولا بُدّ من أن يجئ المخاض وأن يُطِلّ في اليوم الوليد، وليدٌ"(ص25)// "نحن جمع يتخبّط فينا الحبّ جنينا"(ص93) حلمه بجمع يقترف العشق " فإذا شحّت بدفقها الحلمات فسنسقيها دماء وعرَقا وجهدا.. كيلا يُسرق منها عطر التّاريخ.. ولكيلا تجفّ لمنابعنا حلوق." (ص88) جمع يحترف جنون الحب، ذاك الحبّ " الّذي سيصلح به نبْع النّهر، ويستعيد خلقَه الجبل" جمع يؤمن بأنّ " الحركة ولود والسّكون عقيم "(ص57) ... حلمه بجمع يفرّق " بين الوهم والخرافة والإيمان" جمع يعِي هول ما يحاك له " إنّ هذا الّذي تطلبه هو الفساد في ثوب الصّلاح...الهوان في كبر الأصنام."(ص72) // " أن تحولوا دون الزُرَّاع والحقل.. وتلجموا أفواه المنابع فهذا إثم كبير..وان تشيعوا الخُلف فينا’ فهذا قتل العمد..وفساد في الأرض."(ص83) جمع يُدرك "معنى الخلود في خالص الجهاد"(ص27) ساعتها فقط يحين أوان الشدّ وتكون "مشيئة القلّة القادرة على الكثرة الواهنة"(ص94) ويبلّغ القدر رسالته " إن يقطفوا يانعات الورود فليس لهم أن يغتالوا في الورود شذًا، ورحيقا..وإن يرسلوا صواعق الشّتاء الزّمهريريّ على نبات الخريف، فلا ينبغي لهم أن يهزموا ضوعة الرّبيع قادما في مهابة القوّة"(ص100)... هكذا نستخلص رؤية السّارد ونلمس غربته في واقع مهترئ، فمعركة الوجود العربي معركة ضاربة في عمق التّاريخ، منذ أن صاحت تلك المرأة "وامعتصمـــاه" ونحن نجرّ أذيال الخيبة.... وهكذا أراد"القطاري" أن يرتقي بتجربته عبر شخوص بثّها مخاوفه، سخطه، حلمه... وقناعته المتجذّرة بضرورة خوض غمار رحلة الطّرق على أبواب الوعي ليبزغ فجر جديد، وتكون الولادة، فكلّ الرّحلات تحفّها المخاطر والرّحلة هي تراجيديا حقيقيّة لنيل الحرّية والكرامة.. ولكن يبقى السّؤال مطروحا ..هل ينجح هذا الجمع في تحقيق الحلم؟"هل سيسمع الصمّ الدّعاء"(ص108) هل سنتعلّم من أخطاء الماضي ؟؟ هل سنترك العملاء يتناسلون "كتناسل الكلب من الكلب في لحظات جدبٍ يقطر عُسرا" هل سيكفّ أهل الفتنة والسّوء عن ذرّ الملح في عيون الحلم، هكذا تساءل أبو الهيجاء وهو يراقب لغطا عقيما وجدلا أرعنَ أمضّه خلف الأبواب، متذكّرا ما أتى على لسان "هوميروس" صاحب الإلياذة اليونانيّة.. أبو الهيجاء الذّي ترك الأحداث تدور في خاتمة القصّة وكأنّه ذاك النّبيّ العاشق الحامل لرسالة الوعي، طرق الأبواب وخاض الرّحلة،وجنّد المؤمنين برسالته وترك لهم ساحة الحياة، إمّا أن يؤثّثوها نصرا وحرّية وإباء، وإمّا يكتبون انهزامهم في مزبلة التّاريخ " الأمّ/الوزْر وزرك اليوم فإمّا أن تتهوّر فيه، فتدمّر الأمل تدميرا.. أو ستتوكّل على القدر عاجزا، ليلهمك سِرّ هذا الحبّ، دون أن تصحب يمينُك شمالك..فلا تنتهي إلى غاية.. وإمّا أن تسمو سموّا كقبس الأنبياء وحبّهم.."(ص64) ...وكأنّنا بالقطاري - نبيّ الحرف- يقذف بشهب من نور في مضيق الصّدور " فإمّا أن تُشرق وجوهكم من البحر إلى البحر فتوّة وكبرياء ليُبعث الخلق من جديد ويُصنَع من سنا الصّحراء وتَر، وإلاّ فلا عزّة تدفع الجبان إلى الثّأر."(ص108) / فماذا سيرسم أتباع أبو الهيجاء على صفحات التّاريخ ؟؟؟هل سنقرأ سلسلةَ هزائمٍ أم استعادة لمجد أثيل ؟؟" ولا يلبث أن يُطأطِئ رأسه، ساحبا منساسه ليرسم على الرّمل رسوما يستوحيها ... لكم كانت مُغرية تلك الرّسوم.. تـرى، ماذا سنقرأ فيها؟" ....
وكما كان البدء موشّى بالتّساؤلات العميقة، والمتن زاخرا بها، ختم "القطاري" قصّته بتساؤل نعيش وقعه لحدّ اللّحظة الآنيّة، مع تواتر إيقاع ما أُطلق عليه بربيع الثورات العربيّة. والمُلفت - كما أسلفنا سابقا- في هذا المتن القصصي وهذا الجنس الأدبي المتفرّد لُغة وفكرًا.... أنّه يستدرج المتلقّي لحافّة التّساؤلات ويستدعيه للغوص في تفاصيلها الموغلة في التّشظّي... ويصبح المتلقّي مستكشفا للذّات الكاتبة. ولا تنتهي التّساؤلات بنهاية القصّة وإنّما تتوالد أخرى في ذهن القارئ المتيقّظ.
"الطّرق على الأبواب" عنوانٌ مميّز للأديب والباحث والمفكّر التّونسي الأستاذ "محمد سعيد القطاري"، عنوانٌ مزج بين المؤتلف والمختلف، عبر صَهرٍ متقن لأساليب تقليديّة وأخرى حديثة في بوتقة واحدة،حيث شكّل عوالمه الغرائبيّة/العجائبيّة، وأثّثها بصور جماليّة وبلاغيّة، ودفقات تخيّليّة مزدانة بالحلم ... عنوانٌ أتقن صاحبه مزج اللّغة في وعاء الفكر، ليفوح عبق خطابه وتتفتّح براعم رؤاه .... عنوانٌ عرف أين تُوضع موقع القدم ليشكّل من متنه السّردي خطابا يتجاوز كمّ الهزائم والنّكبات التّي أغرقت ضفاف العروبة في جبّ الظّلام. وأخيرا سأستعير ما قاله أبوالهيجاء: " لا بأس ... إن هم تولّوا فسَيسْمَع الأحفاد " .... ويبقى الأمل مشرّعـــا بالطّرق على الأبواب...
/ تونس
0 comments:
إرسال تعليق