بتاريخ 9-6-2011 وعلى أنغام الموسيقى الهادئة لعازف الجيتار الحيفاويّ ريمون حداد، وعازف البيانو النصراويّ لؤي أبو سنة، التأمَ شملُ لفيفٍ من الأدباءِ والشعراء والمبدعين والموسيقيّين والممثلين والأقرباء والأصدقاء، في باحة مركز مساواة العتيق في حيفا، بأمسيةٍ أدبيّةٍ فنيّةٍ، احتفاءً بصدور روايةِ الكاتب الفلسطينيّ سلمان ناطور "هي، أنا والخريف"، وذلك؛ ضمن نشاطاتِ المركز الثقافيّة، والذي تأسّسَ عام 1998 كمشروع مشتركٍ للجمعيّات العربيّة ومؤسّسة "شتيل"، بهدف التأثيرِ على السّياسةِ الحكوميّة، ورفع مستوى مشاركة الجماهير العربيّةِ في النقاش القانونيّ والسّياسيّ، ضمنَ الفهم الوطنيّ لأهمّيّةِ بناء المؤسّساتِ الأهليّةِ الحقوقيّة العربيّة، التي تستعين بقدراتٍ مهنيّةٍ لتثبيتِ الوجودِ في الوطن، ضمنَ رؤيةٍ سياسيّةٍ أكّدت على البقاء والتطوّر في وطننا من جهة، وعلى مواطنتنا ضمنَ أيّ حلّ إقليميّ من جهة أخرى، وتطوير آليّاتِ الجماهير العربيّة وبلورةِ مطالبها الحقوقيّة، لأخذ دورها المحليّ والإقليميّ في صياغةِ هذه المطالب، ووضعِها أمام متخذي القرار السّياسيّ والحزبي والإعلاميّ والاقتصاديّ، محليًّا وعالميّا.
رحّبَ بالحضور مدير مركز مساواة جعفر فرح، ثمّ كانت كلمة مقتضبة ليودا شنهاف عن ترجمته للرّواية للغة العبرية، وألقى المحتفى به الأستاذ سلمان ناطور مقاطع من الرّواية جاءَ فيها:
الرّواية تتحدّث عن حكايةِ امرأتيْن في خريفِ العمر، وعقلٍ مسكون بالخرافة! ومكانُ الرّوايةِ قريةٌ عربيّة غير مسمّاة، وقد تكون في أيّ بلدٍ عربي!
بطلتا الرّواية امرأتان في خريف العمر، الأولى زينات/ كهرمان التي تمضي حياتها أسيرةَ خرافةٍ غرسَها فيها جدّها، ليخفي عنها موتَ والديْها المأساويَ، بسبب إحساسِهِ بالذنب في لحظةِ ضعفٍ غيبيّة، وعندما تدخلُ في حياتها جميلة حسن، لتحميَها مِن مؤامرة السّلطة التي ستهدمُ بيتها، تبدأ بتحريرِها مِن الخرافة، وعندها تكتشف جميلة عمقَ حالةِ القمع التي تعرّضت لها كشاعرةٍ ومثقفةٍ متمرّدة، فيعودُ إليها ربيعُ العمر وعنفوان الشباب.
"أنا: يا جميلة، هناكَ أناسٌ صغارٌ يبحثونَ عن المواقع الكبيرةِ ليكبُروا بها، وهناك أناسٌ كبار يبحثون عن المواقع الصغيرةِ لتكبُرَ بهم.
جميلة: كنتم تناضلونَ من أجلِ تحريرِ العالم. كنتم تحلُمون بتبييضِ صفحةِ التاريخ، لم تنظروا إلى المواقع الصغيرة، لم ترَوا الأطفالَ والنساءَ بأطراف أعينِكم، ولا تأملتم يومًا زهرةً تذبل. ماذا كانت النتيجة؟ لقد انهزمتم".
كهرمان
عندما كانت قويّةً وقادرة على الرّكض وضرب الحجارة، اعتادت على الخروج من البيت مسرعةً أو راكضة، فتفتح البوّابة وتطارد الأولاد الذين تجمّعوا قرب بوّابتها، وهي تقول كلماتٍ غيرَ مفهومة، اعتبرَها الأولاد شتائمَ بلغةٍ أجنبيّةٍ لا يعرفونها، ثمّ تعودُ فتقفل البوّابة وتدخلُ إلى بيتها وتقفلُ الباب.
لم يكن أحدٌ مِن أهل القرية يجزم بأنّ كهرمان تفهم لغتها الغريبة. ما كان يثيرُهم هو أنها تتكلّم بلغةٍ لا يفهمُها أحدٌ منهم. كانوا يحسدونها على لغتِها، ومنهم مَن حاول تعلُمَها منها بعدَ ترديدِها، إلى أن اكتشفوا أنّ بإمكانهم هم أيضًا التكلم فيما بينهم بلغةٍ لا يفهمُها أحدٌ غيرهم، وصاروا يتفننون في اختراع لغاتٍ جديدة، وكل شلة لها لغتها السّرّيّة التي تضمنُ التكتم على مؤامراتِهم الطفوليّة. استفزّوها لأنها تبدو غريبة في مظهرها وفي لغتها. غريبة والغريبُ شيطان، والشيطان لا يعرفُ الرّحمة، ومَن لا يعرفُ الرّحمة لا يُرحم، ومَن لا يُرحم كافرٌ وزنديق، والزنديق يُرجَم بالحجارة. وكهرمان عجوز بطيئة الحركة.
الجدّ
أخذت كهرمان عن جدّها لونَ عينيْه، وطولَ قامته، وأخذت حكاياتِه.
كان يقول: الإنسان أسيرُ الحكاية، وعندما يذهب يصبحُ "حكاية"، كان حكايةَ القرية التي لم يكتبْها أحد، ويذكر أهلها كلّ تفاصيلِها مبعثرة، هكذا تذكرُهُ قرية تسجُدُ للقوّة، وتهزأ بالضّعفاء.
حكاية جدّها نسيجٌ مِن صورٍ مبعثرةٍ على ألسنةِ أهل البلد، يذكرونه بلباسِهِ الأنيق، ببدلاتِهِ الرّماديّةِ المُخطّطةِ أو السّوداء، وربطاتِ العنق الملوّنةِ وساعةِ الجيب التي ينطلق منها سنسالٌ فضّيٌّ إلى عروةِ جاكيته، والغليون الذي كان ينشغلُ به أينما جلسَ، وحديثه الرّزين.
كانوا يلقبّونه الأوروبيّ، ولا يُعرَفُ إذا كان ذلك احترامًا أو سخرية، لأنّ أهلَ القرية لم يُحبّوا الأوروبيّين، إذ كان الإنجليزيذ يُمثّلُهم، لكن في الوقتِ نفسِهِ كانوا يقولون بأسًى: إنّ الأوروبيّين أرقى وأنظفُ مِن العرب.
القرية
صباحٌ عاديٌ جدًّا. العاديّ هناك هو أن تشرقَ الشّمسُ مِن خلفِ الجبلِ الذي يحجبُ خيوطَها عن القريةِ لدقائقَ معدودة، وشيئًا فشيئًا يكسرُ هديرُ سيّاراتِ المُبكّرين إلى العمل سَكينةَ الصّباح، فيطغى على زقزقةِ العصافير وصياح ديكٍ بقي يتيمًا في حارةٍ فقدتْ دجاجاتِها عامًا بعدَ عام، وفقدَ هو (الدّيكُ) نظامَ صياحِهِ؛ فمرّة يصيحُ فجرًا، ومرّة بعدَ شروق الشّمسِ أو العصرِ أو منتصفِ اللّيل، أو لا يُسمع صوتُهُ إن كان مُكتئبًا، أسوةً بكلّ أهلِ القرية.
ديكٌ لا يولي الوقت اعتبارًا، وبين شفقة الناس عليه واستهزائهم به، يحاول المسكين أن يثبت وجوده.
سهام؛ العاملة الاجتماعية
وقفت سهام وقد بدا عليها ارتباكٌ ما أمامَ البوّابة الموصَدة.
ارتدت ملابسَ الصّيف القصيرة؛ قميصًا ورديًّا بلا أكمامٍ، ولا يكشفُ مِن صدرِها إلاّ ما يمتدُّ مِن العنق إلى ما فوق النّهديْن، ولبستْ “تنورة” ملوّنة غطت ساقيْها إلى ما تحت الرّكبتيْن، (لباس عاديّ ولا يعترضُ عليه أحدٌ في قريةٍ يتمتّع أهلها بخيالِ قادر، على تأليفِ مسلسلٍ في ثلاثين حلقة عن تنورة فوق الرّكبتيْن أو غمزة عين)، وحملت بيدِها حقيبة جلديّة كحقائب المدرسة، وفيها ملفٌّ ومستنداتٌ وحاسوبها المتنقل (لاب توب، تحمله أينما ذهبت في شؤون العمل)، ولم تعرف في تلك اللحظة كيف تتصرّف، فهل تستأنفُ الطّرْق على البوّابة، أم تعودُ أدراجَها إلى المكتب، وتخبرُ مديرَها ورئيسَ المجلس بما حدث؟ ولكن هذه مهمّة كُلّفت بالقيام بها، وقد اختيرت مِن بين جميع العاملات لأنّها أكثرَهنّ مهنيّة، وإن هي فشلت في مُهمّتِها، فلن يقدرَ أحدٌ على القيام بها، سيّما وأنّ رئيسَ المجلس بجلالِ سلطانِهِ ألقى عليها هذه المسؤوليّة، ومَن يُلقي عليهِ الرّئيسُ مسؤوليّة، فقد وضعَ مستقبلَهُ على كفّ عفريت.
الباص
في الباص تولدُ الحكاياتُ وتجتمعُ الأخبارُ. باصُ الصّبح الذاهبُ إلى المدينة، وباصُ العصر العائدِ منها.
هناك تُنسجُ حكاياتُ التهريب والبطولات والضّحك على ذقونِ الجنودِ الإنجليز.
الضّريرُ الذي يُهرّبُ البيْضَ ولحمَ الخروف، والله يعلمُ أين يُخفيَها عن عيني الشّرطيّ الإنجليزيّ، الذي يَصعدُ عند “التشيك بوينت”، ويُفتشُ بنظراتِهِ أوّلاً ثمّ “يعسعسُ” بيديْه. والشّيخُ حاملُ سلالِ التينِ في أيّامِ الصّيف وثلاثة عمّال سكّة الحديد، وصاحب مطعم الفلافل في المدينةِ القديمة، هُم ركّابٌ دائمونَ يسافرونَ في باص الصّباح ويعودونَ في باص المساء، لكن هذا الباصَ اشتهرَ بحكايةِ التابوت التي يعرفُها الصّغيرُ قبلَ الكبير.
رئيسُ المجلس
لم يُخفِ الرّئيسُ إعجابَهُ بما رسمَهُ مهندسُ البلديّةِ للحارة الشّرقيّةِ القديمة، التي ستتحوّلُ إلى محطّ أنظار. التزمت وزارةُ السّياحةِ بأن تُعمّمَ صورَها وتفاصيلَها على كلّ مكاتب السّياحة، وأن تُدرجَها في برامجها السّياحيّةِ ونشراتِها بكلّ اللّغات، فسيُهدمُ جدارُ الكنيسةِ المحاذي للشّارع، ويُبنى مِن حجرٍ يابسٍ يُحضَرُ مِن مدينةِ الخليل، وستُبلّطُ السّاحة ويُعادُ رسْمُ الحديقة بحيث تبقى الأشجارُ العالية، ولكن ستغرسُ الورودُ بألوانٍ مختلفة، وأمّا الكنيسة نفسها فلن يتغيّرَ فيها شيء، ستبقى كما كانت منذ مائتي عام، وكان الرّئيس يتمنّى لو أنّ المسجدَ مُقامٌ بجانب الكنيسة، ولو أنّ كنيسًا يهوديًّا أقيمَ في هذا الحيّ، وعندها يُقدّمُ قريتَهُ نموذجًا للتّعايش بينَ الدّياناتِ الثّلاث، وسيُعقدُ فيها مؤتمراتُ ومهرجاناتُ التّسامح، لكن في لحظةِ صفاءٍ ذهنيٍّ حمَدَ الله، لأنّ القريةَ تخلو مِن كنيسٍ يهوديّ، وإلاّ استولى اليهودُ على القرية، وأحضروا لها المهاجرينَ مِن روسيا وأثيوبيا واختلطَ الحابلُ بالنابل.
المرأة العجوز
فتحت البابَ الخلفيّ وتناولت بابورَ (بريموس)، وفي لحظاتٍ أشعلتهُ ووضعت مقلاةً على النّار، ثمّ أخرجت مِن جيبِها قطعةً مِن الرّصاص ووضعتها في المقلاة، وصارت تتمتمُ وتُقلّبُ القطعةَ الرّصاصيّة التي صارت تأخذ أشكالاً مختلفة، ثمّ أطفأت النّارَ وتناولت كوبًا مِن الماء، وسكبتهُ في المقلاة وهي تقول بصوتٍ عال:
رقيتك مِن عيني ومِن عين الناس، ومِن عين أمّك وأبوك، ومِن عين الحاسدة والفاسدة بنت الحرام، ومِن حيّة بتطوف للعقرب النفوف. ورفعت العجوز رأسَها نحو الجمْع وأمرتهم بأن يُردّدوا معها:
رقيتك مِن عايشة القنديشة، المكنفشة شعراتها ومكشرة عن نياباتها، العين العنونيّة الخايبة الرّديّة اللّي بتصيب بالعيال والذرّيّة، مخربة القصور، معمرة القبور، صيّادة الصّبايا لقّاطة الشّباب، وقّاعة المنايا جلاّبة الخراب. ملعونة بنت ملعونة.
جميلة حسن
أنا بحاجةٍ إليها مثلما أنّها بحاجةٍ إليّ. أيّ خللٍ في المعادلة سيُنهي علاقتَنا.
أنا مثلك يا كهرمان، امرأةٌ وحيدة ينسجونَ حولَها الحكاياتِ والخرافات، ولكنّني لم أعزلْ نفسي.
أنا شاعرة يا كهرمان، كتبت الشّعر. كتبت كلّ ما يجولُ بخاطري وكلّ ما أشعرُ به، ودفعت غاليًا ثمن القصيدة. سأقولُ لها إنّي شاعرة، فهل هذا يَعنيها بشيء؟ وهل تعرفُ ماذا يعني أن أكونَ شاعرة؟ وهل سيعنيها أنّ حياتي الزّوجيّة انهارت بسبب قصيدة؟
أنا يا كهرمان كنتُ يومًا ما صبيّة. كلّنا كنّا يومًا ما شيئًا أجمل. لم أكن جميلةً مثلك. ليسَ لي قامةٌ كقامتِكِ ولا عينان زرقاوان كعينيْك، ولكنني كنتُ مكتنزة وكنت أشعرُ برعشة، عندما أرى نظراتِ الشّبابِ تقعُ أوّلَ ما تقع على نهديّ المتمرّديْن على قميصي المشقوق بين زرّيْن يمنعان انفجارَهما.
المدينة
في أيّة محطةٍ سننزل؟ تساءلت عندما اقتربنا مِن أحياءِ المدينة القديمة.
قلت لنفسي: هذه رحلتها وليست رحلتي ،ولا يُجديني أن أسألها عمّا تحبّ أن تراه في المدينة التي فارقتها منذ ستّين عامًا ولم تعُدْ إليها، عندما احتلّها اليهودُ واستولَوْا على مكتبِ الجمارك الذي كان يعملُ فيهِ جدُّها، وعلى البنك العربيّ المحاذي للعمارة، وعلى حانوتِ الملابس التي كان يشتري منها فساتينَها المزركشة والبرّاقة.
مكتبُ الجمارك ظلّ يحتفظ باسمه “عمارة الجمرك”. الكلُّ يعرفُ هذه العمارة ذات الطوابق التسعة وأنا أعرفها. إذن ننزلُ في المحطةِ القريبة، ومن هناك ننطلق، نمشي إلى لا مكانٍ محدّد.
بعدَ أن نزلنا طلبتُ منها أن تأخذني إلى الأماكن التي تذكرُها؛ إلى مكتبِ جدِّها وإلى حانوتِ الملابس وإلى مطعم الحمّص. لم تنبسْ بكلمة. ارتسمت على وجهِها علاماتُ كآبةٍ لم أشهدْها عليها مِن قبل، كانت مرتبكةً وحائرة تنظرُ حولها، كأنّها لا تصدّقُ ما تراهُ عيناها.
بعدَ لحظاتٍ قالت لي بشفتيْن راجفتيْن: هاي مش المدينة اللي باعرفها.
شجرة التين
مطرٌ غزيرٌ انهمرَ في ذلك الصّباح أثارَ بي نشوةً عارمة، حين كان يضربُ على شبّاكِ الغرفةِ المُطلّ على الحديقةِ ويغسلُ التينةَ العارية. كلّما اشتدّ هطولُ المطر أزاحت رأسَها نحوَ الشّبّاك، لترقبَ انهمارَهُ بفرحٍ طفوليٍّ بريء. عندما توقفت الزخّات خيّمَ هدوءٌ مزعج، وضعَ حدًّا لحالةِ الفرح التي عشناها.
بعدَ دقائق انجلى الفضاءُ تمامًا، ثمّ شيئًا فشيئًا بدأت خيوطُ الشّمس تتساقطُ على الحديقة وتخترقُ زجاجَ الشّبّاك، لتبعثَ دفئًا مُنعشًا جعلَنا نتوقّفُ عن الحديث، وننظرُ عبْرَ الشّبّاك إلى الحديقة، وشجرةُ التّين العارية التي عَلِقت عليها نقاطُ الماء، وفي لحظاتٍ عندما اشتدّ وهَجُ الشّمس صارت نقاطُ الماء على الشّجرة تلمعُ، كأنّها أقراطٌ مِن الماسِ مُعلّقة على فروعِها.
يا لهُ مِن مشهدٍ رائع؛ شجرةُ التين العارية تحوّلت إلى عروسٍ بثوبٍ أبيض مُرصّعٍ بالماس والجواهر التي تُشعُّ بالضّوء.. في لحظةٍ خاطفةٍ رأيتها أميرةً مِن الشيشان.
أردت أن أقولَ لزينات انظري إلى التينة ما أجملها، ولكنّها سبقتني وصرخت: شوفي! شوفي!
وانتفضتْ في سريرِها ثم نشبت كالفرس وهي تصيح: كهرمان! كهرمان مِن الشيشان.
الرّجل الجهم
تهدموش البيت. تهدموش البيت. زينات بعدها عايشة وراح ترجع للبيت.
رجلٌ جهمٌ كبيرُ الجثة وقفَ قريبًا مِن الرّجال الثلاثة وقال لهم: خذوها مِن هنا. جرّوني على الوحل إلى الشّارع. عشرات النّاس تجمهروا وكان يبدو عليهم حماس وفرح أشعلا بي غضبًا وحقدًا.
صرخت: لا تسمحوا لهم بأن يهدموا البيت. لا تسمحوا لهم!
لم يُحرّكْ أحدٌ ساكنًا. ظلّوا ينظرونَ بفرحٍ إلى الجرّافةِ وهي تضربُ جدران البيتِ الحجريّة.
تقدّم رجلٌ مُسنٌّ وصرخ: وقفوا! وقفوا! واندفعَ أمامَ الجرّافة، ولما توقفت جاءّ إليه الرّجل الجهم وسأله: شو بتريد؟
قال: الغرفة مكدّسة بالكتب وفيها كتب الله. يجب أن نخرجَها، وإلاّ فإنّ ربّنا سبحانه وتعالى سيُنزلُ علينا مصيبة كبرى، وسيقلبُ الجرّافة على سائقِها. تقدم الرّجلُ العجوز متّكئًا على عكّازِهِ ودخل إلى غرفةِ الجدّ، وبعدَ دقائق خرجَ يحملُ كتبًا كاشحةً تراكمَ عليها الغبار.
شغّلَ السّائقُ المُحرّكَ وبدأ ينطحُ بجدران البيت. تناثرَ غبارٌ كثيفق واختلطت الحجارةُ بالأواني النّحاسيّة، وكتبٌ ممزّقةٌ تطايرتْ صفحاتُها في الفضاء.
الخاتمة
هُدِمَ البيتُ في يومٍ غائمٍ لم ينزلْ فيهِ مطرٌ ولم تظهرِ الشّمس. لم يبقَ أثرٌ للجدار والبوّابةِ والتينةِ وحافّة البئر، ولا للبيتِ ولا لشجرةٍ أو نبتة.
بينَ الكنيسةِ وبيتِ الرّئيس ظهرت مِنَ العدم ساحةٌ فسيحة، فرشوا عليها المخلوطة ودحلوها، وبعدَ أن انتهَوْا انتظمَ الناسُ في صفّ الدّبكةِ على السّاحة الكبيرة، ورقصوا وغنّوا ورفعوا الرّئيس على أكتافِهم، وانطلقت الأضواءُ الناريّةُ التي تلألأت في سماءِ القرية، وفرقعت دونَ توقّفٍ تستقبلُ عهدَ انتقالِ القريةِ إلى قرن جديد، كما وعدَ الرّئيس.
الرّئيسُ وعدَ ووفى، "وعدُ الحُرّ ديْن عليه"، هكذا كان يُردّدُ دائمًا. زينات حرّكت أصابعَ قدَمِها قبلَ أن آتي إلى هنا. ستنهضُ مِن جديدٍ مثل عنقاءِ الرّماد، وستأتي إلى هذا الميدان كالرّيح وستصرخ في وجوهِهم: لماذا هدمتم البيت؟ أنا لم أمت. أنا كنت في غيبوبة وأفقت، وأنتم متى تفيقون من غيبوبتكم؟ أنا تحرّرتُ مِن خرافتي وأنتم متى تتحرّرون؟ ارقصوا في هذا الميدان عندما تتحرّرون مِن حكّامِكم لا عندما يموتُ الضّعفاء.
ستأتيكم زينات وماذا ستقول لها يا سيادة الرّئيس؟
ستأتي وتقف هنا أمام الناس وتخاطبهم بلغتِهم لا بلغتِها المبهمة. ستأتيكم كالعاصفة وتحني قاماتِكم وتبني بيتَها مِن جديد.
أنت تعرف أنّها لم تعُدْ كهرمان مِن الشيشان. هي أنا، وأنا انتصرتُ على الخريفِ وتقمّصتُ روحَ التينة التي قطعَتْها جرّافتك، وكانت تموتُ وتولدُ مِن جديد، تموتُ وتولدُ مِن جديد.
0 comments:
إرسال تعليق