في السادس من أيار سنة 1984 نظمت مجلة "الجديد" الفكرية العريقة الغائبة قسراً عن الساحة الثقافية والاعلامية ، وبمبادرة من رئيس تحريرها آنذاك المؤرخ والمفكر الشيوعي الراحل اميل توما ، مهرجان الثقافة الفلسطينية ، وهو الاول من نوعه في البلاد، وذلك بمناسبة مرور عشرين عاماً على انطلاق منظمة التحرير الفلسطينية . وكان المهرجان أقيم في قاعة بيت الصداقة في الناصرة ، التي كانت تعج بالنشاط المسرحي والفني والثقافي في تلك المرحلة ، وحضره جمع وحشد كبير من الكتاب والشعراء والمثقفين العرب الفلسطينيين ، وكل القوى الفلسطينية العاملة والنشيطة والفاعلة والمنتجة في مضمار الثقافة والادب والفن ، وبمشاركة وفد من كتاب ومثقفي المناطق الفلسطينية المحتلة عام 1967 . ولم يكن هذا المهرجان وليد مناسبة هامة وكبيرة لها حضورها وتأثيرها وفعلها في الحركة الثقافية والنضالية فحسب ، وانما جاء كضرورة وحاجة موضوعية فرضتها الظروف السياسية ، التي تعيش في خضمها جماهيرنا العربية الفلسطينة ونخبها الفكرية المثقفة في ظل نظام عنصري ابرتهايدي قمعي يريد للثقافة أن تكون مجرد مساحيق تجميل وابتذال ، ولا يريد للثقافة أن تكون أداة تثوير وتغيير وفعل صدامي وسلاح بيد الجماهير. ولذلك حاول ويحاول دائماً طمس الشخصية الوطنية الفلسطينية واقتلاعها ، واغتيال الكلمة الوطنية الحرة الملتزمة والمقاتلة ، ومحاصرة المثقفين والمبدعين الملتزمين والملتحمين بحركة الجماهير ، والمنافحين عن حرية وكرامة شعبهم ولأجل السلام والحرية والعدالة والديمقراطية وسعادة الانسان.
وكان الهدف من وراء عقد هذا المهرجان هو رصد التطورات الثقافية العربية الفلسطينية ، وكشف الملامح الرئيسية العامة في الساحة الفلسطينية ، والاشارة الى مدى اسهام شريحة المثقفين والمبدعين والمنتجين الفلسطينيين الباقين في وطنهم ، برفد الثقافة العربية الفلسطينية بكل ألوانها القزحية المختلفة.
وكان المهرجان عبارة عن يوم دراسي توزع على ثلاث دورات ، واختتم بأمسية فنية فلسطينية ملتزمة . فكان موضوع الدورة الأولى "الثقافة الفلسطينية ، الادب، الفنون التشكيلية، السينما"،والثانية:"النثر الفلسطيني، الرواية ، القصة القصيرة، المسرحية، النقد، الدراسات العلمية"، والثالثة :"الشعر الفلسطيني". بينما الأمسية الفنية ، التي ما زالت ماثلة امام عيني، فشملت قراءات شعرية ونثرية وأغاني وأناشيد شعبية قدمها عدد من الفنانين الفلسطينيين تحضرني منهم الآن: سمير الحافظ وأمل مرقس وريم بنا وغيرهم. في حين قدّم الممثل غسان عباس مقطعاً من مسرحية "المستنقع" التي كانت حظرتها الرقابة الاسرائيلية في حينه.
وفي حقيقة الأمر أن هذا المهرجان الثقافي الذي جمع غالبية المبدعين والمثقفين والمنتجين والعاملين في مجال الثقافة كافة داخل اسرائيل ،أثبت للقاصي والداني أن للثقافة العربية الفلسطينية جذوراً راسخة ممتدة عميقاً في التاريخ الكنعاني الفلسطيني . وأن هذه الثقافة لها خصوصيتها ونقائها وطابعها التقدمي الانساني ، وتتميز بواقعيتها وهويتها الفلسطينية . وكذلك أكد أن أدبنا هو أدب عربي فلسطيني ، وثقافتنا هي ثقافة عربية فلسطينية ، وهما رافدان هامان من الادب والثقافة الفلسطينية والثقافة العربية الانسانية والديمقراطية عامة.
ومن نافل القول، أن هذا المهرجان ، بابحاثه ومداخلاته، شكلّ لبنة جديدة في البناء الثقافي الفلسطيني وحدثاً ثقافياً هاماً وتظاهرة كبرى ضد الحصار الثقافي السلطوي ، وضد سياسة التجهيل والعدمية القومية ، وأستطاع استكناه جوهر ثقافتنا العربية الفلسطينية خلال عشرين عاماً ، بحثاً وتنقيباً وتحليلاً واستشرافاً . كما عكس الطاقات الابداعية الخلاقة التي يزخر بها ومجتمعنا وشعبنا ، وجسّد فكرة الخلق وروح الجماعة والعمل الطوعي ، المتوقد أبداً .
والآن بعد انقضاء ومرور 27 عاماً على هذا الحدث الثقافي التاريخي الهام والبالغ ، فإن السؤال المطروح : هل تتكرر تجربة هذا المهرجان مرة أخرى، أم أن لكل مقام مقال، ولكل زمان دولة ورجال؟!.
0 comments:
إرسال تعليق