جنين الجمال والبهاء – عدسة: زياد جيوسي |
ما زالت جنين تشدني! أستعيد ذكرى كل لحظة قضيتها في ربوعها، حيث السحر والجمال، وكان موعدي مساء الأربعاء للقاء مع قرائي الرائعين في الأمسية الأدبية التي دعيت إليها من قبل مركز محمود درويش الثقافي، وفي الموعد كنت في القاعة أستقبل قراء أعرفهم وآخرين لم ألتقي بهم، وأصدقاء حضروا من البعيد وشاركوني الفرح، وكالعادة فقد غابت دائرة الثقافة ممثلة الوزارة في المحافظة، وغابت معها باقي المؤسسات الرسمية المدعوة، فابتسمت وقلت: فرصة أن يكون الجمهور من المهتمين والمواطنين، فهذا سيعفيني من الصدام مع بعضهم، خصوصاً وأنني سأتحدث بشكل خاص عن التراث والمناطق الأثرية في الوطن، معتمداً على تجربتي وجولاتي وعرض للصور التي التقطتها عدستي، وهذا لا يعجب العديد من ممثلي المؤسسات الرسمية، فقد سبق أن اصطدمت أكثر من مرة ببعضهم حين كنت أتحدث، فيظهر أن استيعاب النقد حتى لو كان إيجابياً ما زال خارج ثقافتنا.
غابت المؤسسات الرسمية وخصوصاً التي مهماتها الثقافة، ولكن هذا لم يزعجني أبداً، فليس أجمل من لقاء قراء عرفوني من خلال حرفي وعدسة تصويري. كانت القاعة تغص بالحضور الجميل، وشاركني الأمسية أطفال مؤسسة الكمنجاتي بالمعزوفات بين الفقرات، فأضافوا بإبداعهم الكثير من الجمال والروعة، وبعد أن قدمتني المهندسة دينا حمدان للحضور الكريم، قرأت عدداً من نصوصي التي تتماهى بين نثري وشِعر الشعراء.
تلا ذلك حديث عن تجربة مقالات (صباحكم أجمل) من بداياتها في العام 2004، مترافقاً مع عرض للصور لعدة بلدات فلسطينية زرتها ووثقتها حرفاً وصورة، ليَلي ذلك نقاش طويل مع الجمهور والحضور، وكان لافتاً للنظر الحضور النسائي الجميل الذي قاد معظم الحوار والمناقشات، وقد أعجبني جداً مستوى الوعي والثقافة لدى الحضور الذين كانوا من مستويات أعمار مختلفة، وأعجبني الحوار والملاحظات النقدية، وشعرت بألم العديد من الحضور حين تحدثوا عن رام الله وكيف يرون أنها استلبت معظم الأشياء بما فيها الكتاب والشعراء والمؤسسات وأن باقي المحافظات تعاني من الإهمال ما استدعاني للتوضيح أن علاقتي مع رام الله تعود لطفولتي بها وأثرها على روحي، وليست مسالة سياسية، وتأثير دور المدرسة على صقل شخصيتي وتوجيهي من خلال مدرسين عظام نحو الأدب والثقافة.
ساعتين ونصف استمر اللقاء مع أهل جنين وروعتهم بدون توقف، إلا بعض الراحة والتحليق مع عزف أطفال الكمنجاتي وجهود إياد ستيتي الواضحة عليهم، لأغادر بعدها مع صديقي عبد الرؤوف جرار لزيارة بيته واللقاء مع أبنائه الذين حملت بعضهم وهم أطفال لأجدهم الآن قد كبروا، ثم جولة مسائية في أنحاء البلدة، حيث وصلنا إلى بلدة (الجلمة) من ناحية، ونفق (بلعما) من ناحية أخرى، واستعدنا ذكرياتنا أيام كنا نقطن عمان، فتمتعت بالنسمات الحلوة بعد حر النهار، وعلى وعد أن نلتقي عصر الجمعة قبل مغادرتي جنين لزيارة بعض الأماكن، لأعود وارتاح بعد أن أصر أن نتناول العشاء معاً، استعداداً لزيارة عرابة في اليوم التالي الخميس.
عرابة ترحب بكم – عدسة: زياد جيوسي |
صباح الخميس كنت أخرج باكراً أجول في الدروب والشوارع، وألتقط الصور وأسجل الملاحظات التي أسمعها، وكان الجو ينذر بالمطر بعد ارتفاع الحرارة يوم الأربعاء، وفي ذلك اليوم استمعت لملاحظات عديدة من العديد من العاملين في البلدية، فكل من التقيتهم كانوا يتذمرون من مشكلة ما عرف تحت عنوان (التسكين الوظيفي)، فهي مشكلة يعانون منها منذ أكثر من عام، ويعيشون بسببها في قلق كبير، فلا أحد يعرف كيف تتم الأمور، وقد أبدى الكثير ملاحظات حول وجود محسوبيات وحسابات فصائلية تؤدي إلى وضع أشخاص غير مناسبين في مواقع لا علاقة لها بالمؤهلات والخبرة، واستمعت لقصص كثيرة بحاجة إلى تدقيق وتحقيق، إضافة إلى حديث حول أن البلدية تفكر بإلغاء مركز محمود درويش الثقافي، ولا تقدم أي شكل من الدعم المادي لنشاطات المركز، بينما الأصل أن البلديات تحمل رسالة كبيرة، والنهوض بالعمل الثقافي يخصص له موازنة خاصة في البلديات، وأعتقد أن هذه المسائل بحاجة إلى اهتمام كبير من قبل الوزارة المسئولة حتى لا يظلم أحد.
حين الظهر تناولت الغداء برفقة المهندسة دينا حمدان مديرة المركز، والعزيز كفاح سرور من إدارة المركز في أحد مطاعم جنين، وكانت الأمطار قد بدأت بالهطول بقوة، وقد لاحظت للمرة الرابعة أن العصائر التي تقدم في هذه المطاعم إسرائيلية الصنع، وحين كنت أطلب صناعة محلية وعربية أواجه بالاعتذار، أو يحضرون لي عصيراً محلياً من أحد البقالات القريبة، فهل الصناعة الوطنية معيبة؟ هذا ليس لائقاً بمدينة قدمت عبر تاريخها هذا العدد الكبير من الشهداء، فأين الحس الوطني بمقاطعة المنتجات التي ينتجها الاحتلال؟ علماً أن أسعار الفواكه في جنين جداً متواضعة مقارنة بمناطق أخرى، فيمكن تقديم العصائر الطازجة من منتجات وخيرات أرضنا، أو من نتاج مصانع وطنية، وأن لا ندعم منتجات العدو التي يحيلها لدعم جيشه ومستوطنيه، والاستيلاء على الأرض، وتهويد القدس التي تصرخ ليل نهار: وامعتصماه.. ومعتصمو العصر لا يسمعون.
احتسينا القهوة بعد الغداء في منـزل والد المهندسة دينا حمدان، وكان لقاء جميل مع هذا الرجل الذاكرة، فمربي الأجيال أبي الراغب (نهاد حمدان)، شخصية موسوعية وصاحب ذاكرة متقدة، وهو الذي عانى من الاحتلال ومنع من التدريس وأحيل للتقاعد تعسفياً من العدو بسبب مواقفه وصلابتها، وكم كان بودي أن أجالسه أكثر وأستمع لأحاديث أكثر، لكننا تأخرنا عن مضيفينا في عرابة.
عرابة التاريخ والحكاية – عدسة: زياد جيوسي |
ما أن أطللنا على سهول عرابة الخضراء، حتى شعرت بها تطوقني بالجمال والسحر، ورغم أنني لم أزرها سابقاً، إلا أنها مرتبطة بذاكرتي بالكثير، فهي بلدة عريقة الجذور، وعرفت منها العديد من الأشخاص ومعظمهم من المناضلين المشهود لهم، منهم من استشهد ومنهم من ما زال يواصل المسيرة، وضمتني مع الكثيرون منهم المعتقلات والسجون، ولعل الرابط الأكثر من بين الأصدقاء صديقي الشاب الشاعر عبد السلام العطاري، فهو كان لا يكف عن الحديث عن عرابة وسهولها وهضابها وبئر دوثان وطريق القوافل وجبل مهرون، وعن قصص كثيرة، ويهمس لي: متى حلت مشكلتك الأمنية واستطعت الحركة خارج رام الله، ستكون زيارتك الأولى لعرابة، وطبعا كالعادة لم يلتزم، فزرت عرابة بدون علمه، لأتصل به من نقطة مرتفعة فيها وأقول له: أنا في عرابة بلدتك يا (ولدي العاق)، فهل تريد شيئاً من أهلك؟ فصرخ كعادته اللطيفة وقال: أخ يا عطاري.. (انفضحت مع الجيوسي)، وضحكنا بفرح ضحكة من رام الله حتى عرابة.
عرابة، وتلفظ بفتح أول حرف فيها وتشديد الثاني بلدة تمد جذورها عبر التاريخ، وهي في الأصل تقع على ربوة مرتفعة، ومع التوسع العمراني والزيادة السكانية امتدت مساحة البناء فيها على حساب الأرض الزراعية، وهي كانت ولم تزل من كبريات بلدات محافظة جنين، وهي من أقدم المناطق التي نشأت في المنطقة، فيعود تاريخها إلى عهد المؤابيين، وهم وحسب المؤرخ عبد الوهاب المسيري: (المؤابيون ساميون يرجع تاريخ استقرارهم في فلسطين إلى أواخر القرن الرابع عشر قبل الميلاد، أي أنهم أسبق من القبائل العبرانية بزمن طويل في فلسطين، وكان المؤابيون في البداية، مجموعة من القبائل المنقسمة؛ لكنهم كوَّنوا مملكة متحدة قامت في الربع الأخير من القرن الثالث عشر قبل الميلاد، وذلك في فترة فقدت فيها مصر سيطرتها على فلسطين، وقبل أن تكون القوة الآشورية قد ظهرت بعد. وبلغت مملكتهم منـزلة رفيعة مع مطلع القرن التاسع قبل الميلاد، فدخلوا في حروب كثيرة مع جيرانهم (العموريين وغيرهم). وكان بين المؤابيين والعبرانيين حروب كثيرة. وقد بدأ الصراع حينـما منـع المؤابيون القـبائل العـبرانية من المرور بأراضيهم إلى فلسطين. وخضع العبرانيون لحكم ملك مؤاب مدة ثماني عشرة سنة في عصر القضاة، وكان مقرُّ الملك هو أريحا).
وما أن تجاوزنا سهل عرابة حتى كان قوس حجري منقوش عليه: (عرابة ترحب بكم)، فهمست لنفسي بصوت مسموع: وأخيراً التقيك يا عرابة، وتذكرت همس صديقي الشاعر عبد السلام العطاري ابن عرابة وهو يهمس:
((عرّابة... التي وشمت على تلالِها خُضرةَ (بعلٍ) وجمال (عَنات) وصلابةَ (عوج بن عناق)... تستحق أن تبقى نشيدي اليومي، لانها ترفع اسمنا الكنعاني وشماً مطرزاً بحناء مرج بني عامر وسنابلِه العاشقة لتحانينَ المناجلِ وتراويدِ الحصاد)) .
وكان الجو مشمساً منذ غادرنا جنين إلى عرابة، لكن ما أن أوقفت المهندسة دينا السيارة وبدأنا التجوال في بداية البلدة القديمة، حتى بدأ المطر ينهمر بهدوء ليشتد بعدها، فقلت للمهندسة دينا والعزيز كفاح: استظلوا من المطر تحت تلك الشرفة، وواصلت مسيرتي تحت المطر بفرح، ألتقط الصور وأشعر بالتطهر الروحي ما بين قطرات المطر المنهمرة وعبق التاريخ، وأتأمل هذا الزقاق المبلط والأبنية المرممة وغير المرممة، وكنت أشعر بدهشة الطفل وفرحه في يوم عيد، حتى أبصرت ثلاثة أشخاص يقفون أمام المسجد مستظلين من المطر، وحين اقتربت منهم ناداني أحدهم وتبين لاحقاً أنه الفنان التشكيلي محمد شحادة: هل أنت الكاتب زياد جيوسي؟ فدهشت وقلت له: نعم أنا هو. فرحب بي وعرفني إلى صحبه الشاعر هشام أبو صلاح، والأستاذ سعيد حجة، وسألني: أين المهندسة دينا والأخ كفاح؟ فضحكت وقلت: لقد ذابوا تحت المطر..
صباح جنيني آخر، أستعد فيه لمغادرة جنين والعودة إلى رام الله. أكتب واشعر أني أنزف بعضاً من روحي. يهمس لي طيفي الذي لا يفارقني: لقد حذرتك رام الله أن لا تقع في عشق جنين، لكن قلبك كان أضعف من احتمال سِحرها، ألم تقل لك: احذر أن تستلبك جنين مني، فتعشقها، وتوقعك في سِحرها. فهمست لها: وهل تمتلك جنين كـل هذه القدرة؟ فابتسمت وقالت: وهل زارها أحد منذ جدك كنعان ولم يقع في حبائل سِحرها والعشق؟ وها أنت الآن عاشق تزداد خفقات قلبه في كل لحظة.
أقف إلى النافذة أحتسي القهوة وألقي نظرة الوداع على البلدة القديمة وأهمس لها: ما زالت خفقات القلب لم تتوقف، وفي الخفقة الخامسة القادمة سأكمل همسات عرابة والتاريخ، وسأعود إليك من جديد، وأستمع وطيفي لشدو فيروز وهي تشدو: (أنا صار لازم ودعكن وخبركن عني، أنا كل القصة لو منكن ما كنت بغني، غنينا أغاني ع وراق غنية لواحد مشتاق، ودايمن بالآخر في أخر في وقت فراق، يا جماعة لازم خبركن هالقصة عني، أنا كل شي بقولو عم حسو وعم يطلع مني، بكرا برجع بوقف معكن إذا مش بكرا البعدو أكيد، أنتو أحكولي وأنا بسمعكن حتى لو الصوت بعيد، كل ليلة بغني بمدينة وبحمل صوتي وبمشي ع طول).
صباحكم أجمل حتى نلتقي في الخفقة الخامسة من خفقات جنين وحكايات عرابة.
0 comments:
إرسال تعليق