الحواضن السردية تحديد لأفق القراءة/ أمجد نجم الزيدي
إن التعامل مع عملية الكتابة بمختلف اجناسها، هو تعامل مع مستويين من التَشكل، المستوى الاول هو الوجود الحقيقي للنص قبل عملية القراءة، والذي قد رُكب وفق آليات كتابة مقننة، خضعت الى ظروف زمكانية خاصة بالكاتب وبيئة الكتابة.
أما المستوى الثاني فهو الوجود المتشكل من عملية القراءة، والذي يسير مع النص بصورة متوازية، ليستفز اشاراته المضمنة، أما بموائمة تلك الاشارات وجميع دوال النص مع مرجعيات القارئ، والتي هي شخصيته المعرفية والتاريخية، وبهذه العملية يظهر نص القارئ خاضعاً لمرجعيات النص الكتابي ومحدداً بأفقه. أو ان يتقاطع معها معيدا بناءها معتمدا على آلية القراءة التي تقوم بأستنطاق أشاراتها ودوالها ، ومحاولة التقليل من هيمنة مرجعياتها الكتابية، وتقديم مقترحات تزعزع الاستكانة البنائية للنص، لفتح أفق جديد لتلك الاشارات والدوال، أي تحريك سكونية النص، لينتج دوائر قرائية مختلفة الاحجام، فبهذه القراءة تتمرد الاشارات والدوال على وجودها الكتابي ومراكزه الاشارية والدلالية ، بأفق القراءة الذي يتحدد ربما من خلال تجمع وتوزع دلالات النص في عدة مراكز أو حواضن دلالية، ترسم أفق القراءة بعملية التفاعل بينها.
فلو أخذنا المجموعة القصصية (وتكور الحل عند ظفيرتها) للكاتب المبدع وجدان عبدالعزيز، الصادرة عن دار الينابيع ،2010 وتتبعنا تلك الحواضن المختلفة، التي تتشكل داخلها اشارات ودلالات النص،لرأينا كما في نص (تكويرة اللانظام)ص9، بأن هناك ثلاث مستويات دلالية تمور داخل حاضنة زمكانية، وهي( الشخصية ، الذكريات، البيت)، فالشخصية داخل القصة تنقسم أيضا الى ثلاث شخصيات مختلفة كـ(الشخصية الاولى ، لقى، فتاة كلية الاداب)، أن العلاقة التي تجمع هذه الشخصيات كمستوى دلالي أولي داخل النص مع المستويات الاخرى، فهي علاقة توليدية كما في العلاقة مابين الشخصية الاولى والذكريات (كان مستلقياً لوحده، مستغرقاً تماماً بأحلام وردية حملته كله مسافرا عبر مسافات الزمن البعيدة وهو يكتحل بمرور الذكريات)ص9، (يأخذه قارب النجاة بعيدا في شواطئ الحب والذكريات التي تبرعم دوما شذى وحبا أبديا) ص10-11، أما علاقة الشخصية الثانية وهي (لقى) فهي علاقة تصورية اندماجية (أخذت أصابعه تعبث بألبوم الصور، رأى لقى تبتسم مسد شعرها أخذ يقبلها بحرارة)ص10، (صورة لقى ابنته المبتسمة في بداية ألبوم الصور)ص12، أما شخصية (فتاة كلية الآداب) فهي علاقة استعادية /انفصالية (أسفي الوحيد أني لم أكن رساما لأرسم شناشيل البصرة أو ممرات كلية الآداب وذلك الشعر المسترسل الذي يدغدغ النظر والقلب معا لصاحبته..)ص10، (قعد مزهوا ما بين ثيل الحديقة يغازله كأنما يغازل فتاة كلية الآداب) ص11، أما العلاقة الأخرى التي تظهرها تلك الإشارات وهي علاقة (البيت) بالشخصيات، فعلاقته بالشخصية الأولى تعكس عمق الوحدة التي تشعر بها تلك الشخصية (كان مستلقيا لوحده)ص9، (يهتز ومحتويات البيت هزة منفعلة، يستيقظ على أثرها ليغطس بقارب النجاة في يقظة قصيرة أخرى، ويسافر من عالم الظلمة ووحشة الجدران حيث كان وحيدا منذ أيام)ص9، (في هذا المكان بالذات قد تطول الوحدة وتكثر الأحلام ووحشة الظلام وصمت الجدران) ص10، ( يتحسس المكان والبيت والمحتويات، لعب لقى، علب عطور وأدوات الماكياج)ص10، وترينا العبارة الأخيرة بأن البيت كان فارغا إلا من أثار الناس الذين كانوا فيه، وهذا تعميق للوحدة التي تشعر بها الشخصية، أما علاقة (لقى) بالبيت فهي علاقة ارتباط وفقدان بأن واحد، حيث إن (لقى) هي جزء من البيت في نظر الشخصية الأولى، لذلك تظهر هناك علاقة سببية بين فعلي رحيل (لقى) واستهداف البيت وتهدمه، أما فتاة كلية الآداب فهي علاقة انفصالية تحاول من خلال الشخصية الأولى التخلص من ربقة البيت الذي هو رمز للوحدة والعزلة والتعويض عنه بالأمكنة التي تجمعه بفتاة كلية الآداب (قعد مزهوا مابين ثيل الحديقة يغازله كأنما يغازل فتاة كلية الآداب، ثم قام يلملم قواه ويعانق أشياء ما تبقى من شق البيت المنتصب)ص11.
أما العلاقة بين الشخصيات نفسها، فعلاقة الشخصية الأولى بـ(لقى) هي علاقة ارتباط بالحياة، أما علاقتها بفتاة كلية الآداب فهي علاقة استعادية تعويضية عن الوحدة والخوف الذي كان يشعر بهما، ولا توجد أي علاقة مباشرة بين لقى وفتاة كلية الآداب سوى إنهما تشتركان بارتباطهما بالشخصية الأولى.
أما الإشارات التي تكتنزها تلك المستويات الدلالية للمكان فهي على التوالي: البيت يحمل إشارة ضمنية للامان والاستقرار والحياة، الحديقة فهي إشارة معززة للبيت، كلية الآداب والبصرة، فهي إشارة إلى ذاكرة والى الحب وحلم مستعاد.
أما نص ( يبدو إن الخطر كان عابرا)ص13 فقد استند إلى حاضنة مكانية توزعت مابين مكانين هما المكان الواقعي وهي ارض الجبهة ( مفازة موحشة يختلج صفير الريح في سمع نبضات الحركة فيها)ص13، (المنطقة رغم تلك الكثبان الرملية التي سرعان ما تنهار مع أسراب الريح تبدو صالحة لحركة الدروع، وقد تكون لحظات مكتنزة بالأسرار والمفاجآت)ص13، أما المكان الأخر فهو مكان افتراضي تعويضي (ما كان ليتحدث لولا ضغوطات حديث الحب للوجوه الغائبة وللقبرات المرتحلة وسواقي الذكريات التي طرز على شواطئها أجمل الأشواق، وازدادت رغبته وهو يدنو من الوصول أكثر ليوزع حبه وشوقه تمائما يعلقها على الأغصان وعثوق نخيل الشطرة ونهر الغراف وعلى تلك الشجيرات المتناثرة خلفه)ص14، ( الأصوات تتعالى وقد تقترب، القبرات مازالت تسرع نحو القرى المحروسة بآلهة الوطن المسكون بالعشاق والعذارى)ص14، وداخل هذه الحاضنة المكانية، يتحرك مستوى دلالي واحد، هو الشخصية التي تتوزع بصورة غير متوازية بين (عدنان) الشخصية و(نغم) و(الجنود)، فعلاقة (عدنان) بـ(نغم) هي علاقة استذكارية مرتبطة بالمكان الافتراضي (لم أهذي وسأبقى كذلك أطرز أحلامي ساقية عشق تتورد فيها أشجار قريتي فتبرعم ثانية أعمل او لا أعمل حفلة ميلاد لحبيبتي الصغيرة (نغم) )ص15، أما علاقة (عدنان) بـ(الجنود) فهي علاقة مباشرة متماهية مع صورة المكان (الجبهة)، وربما تكون في بعض الأحيان منطلقا إلى المكان الافتراضي، أما (نغم) و (الجنود)، فلا توجد بينهما علاقة مباشرة ولكنهما ربما يشتركان بارتباطها بالشخصية الرئيسية.
أما نص (أول فتاة في العالم)ص16، فأن الحاضنة التي تحتوي المستويات الدلالية للنص، هي الصيغة المجردة للمكان، أما تلك المستويات فهي الشخصية الرئيسية وهي الراوي، وأيضا (الغرفة) التي تظهر في النص كشخصية فاعلة وحركية (زحفت جدران الغرفة حتى ضاقت زواياها المبتلة بدموع الغربة وهي ترتدي الوحشة التي بصمت على الأبواب بقع الظلام)ص17، أما العلاقات التي تنشأ داخل تلك الحاضنة فهي علاقة الشخصية الرئيسية بالغرفة والتي تظهر بأنها علاقة تبادلية (تتكة الساعة تسرق السكون المخيم في الغرفة وتبرز كآبة الجدران الملفوفة بوحشة المساء، وقلب طير يرفرف في قفص الأضلاع)ص16، وهي أيضا فسحة لتشظي الذات (وأنا أتلوى من وحشة المكان وأذوب ألاف المرات بين أشيائي، واضطرب في اختيار أماكن الاطمئنان)ص16، ومع ذلك فأن تلك الذات تحاول الانعتاق نحو الخارج.
أما نص ( الغريب في الرحلة)ص45 فان حاضنته هي الذات المولدة للأفعال والصور، وعلاقتها بـ(أنا) النص هي علاقة استكشافية، بينما يأتي باقي الشخوص ومن بينهم الصوت الأنثوي والأخر صاحب الوصية والقوم النحاف والذين يأكلون الجيف..الخ، بصورة ثانوية، وتبدو علاقتهم بالذات الحاضنة علاقة وصفية جاءت لتعزيز الغرائبية التي تسيطر على المكان وأفعال الشخصية، فالمكان يرتبط بالذات بعلاقة توالد، وان بدت النظرة إليه في بادئ الأمر نظرة خارجية موضوعية مفصولة عن الذات، بيد إن ما أظهره النص من صور غرائبية، قرب المكان إلى النظرة الذاتية المتكيفة مع زاوية نظر الراوي للمكان الافتراضي (لما اشتد عزمي في الدخول انهمر الماء الذي شاعت منه رائحة طيبة على جسدي وألبست ثيابا غير ثيابي ثم في عالم غير هذا العالم الذي أنا فيه امتطيت فرسا غريبة الأطوار سريعة الجري)ص45.
أما نص (كان سفري في إحدى عربات القطار)ص48 فكانت الحاضنة هي الصيغة الزمكانية، مع إن البنية الزمنية بدت خافته، ولكنها موجودة بصورة ضمنية محركة الشخصية الرئيسية، التي هي (أنا) في المكان الذي يتوزع طبقا لتلك الحركية (كنت وحدي بالضبط واعلم إن لا احد في الشارع سواي وقبلها كنت في الدار وحدي أتحسس أشيائي على ضوء شمعة قريبة إلى الخفوت ولم يكن هنالك غيري)ص49، أما علاقة هذه الحاضنة الزمكانية بالشخصيات، فهي عكس ما ظهرت عليه في نص (تكويرة اللانظام) حيث تكون الزمكانية فعلا توليديا، أو مولدا من خلال علاقته بالشخصيات، بيد إن هذا النص يأخذ فيه المكان إطارا موحيا للتغيرات التي تطرأ على الشخصية وحركيتها داخل الزمان المضمر (وحل وأمطار غزيرة وشارع ضيق والساقية الوحيدة فيه مختفية كما اراها من فوق سطح الماء، كنت اضع يدي فوق الهواء اقول كلمات فيها رائحة نفاذة من الحب فتتشظى في الاثير)ص48، (قريب جدا من حافة المصطبة الطويلة تحسست برودة الخشب)ص49، (حرت والطريق الموحل، برودة سرت قوية مع توازي الرطوبة، اقتربت من نعومة المساء، لم اسمع إلا صفير الريح والوحشة)ص49، أما علاقتها بـ(أنا) المتكلم الشخصية الرئيسية والراوي، فهي علاقة استكشافية، بينما علاقتها بـ(هي) هي علاقة وجودية، فللشخصية الرئيسية وجود داخل النص حيث يحرك دواله ويتناوب مع المكان في تعزيز إشاراته وتوجيهها، بينما (هي) فهي وجود مموه، وان حققت نوعا من الحضور من خلال الحوار، لكن النص يظهرها دائما (توارت)ص48، (ذابت أناملها في يدي)ص48، وأيضا (حين التقيها كمن أقبض على ريح)ص50، وكذلك (تغطت تمتما بشعر طويل)ص50.
إن العلاقة مابين (الزمان والمكان والحدث والشخصية) هي علاقة تبادلية، تتشكل نصوص المجموعة على وفقها، وربما نجد نصوصا أخرى لديها نفس المشتركات مع ما طرحناه هنا، وربما هناك ما يفارق طرحنا بيد إننا اكتفينا بهذه النماذج ظنا منا بأنها قد أجلت الفكرة التي أردنا توضيحها..
0 comments:
إرسال تعليق