إنه أكثر شعوب المنطقة تفتحاً وليبرالية/ د. ابتهال عبدالعزيز الخطيب




« وايد حلو هاللون»

بلا شك». كان ذلك تعقيب والدي على حكاية زيارتي للبحرين ليومين قصيرين الأسبوع الماضي، بدعوة من جمعية المنتدى البحرينية لتقديم ندوة بعنوان «الليبرالية كمنهاج حياة». تعرّف جمعية المنتدى، وهي ذات طابع اجتماعي غير سياسي، نفسها في صفحتها الإلكترونية على أنها «تطمع .. إلى بناء نواة من النخبة في البحرين تسهم مع سواها من مؤسسات المجتمع المدني الأخرى ذات المنحى الديمقراطي، في تأسيس نهج ليبرالي في الحياة السياسية والفكرية يدعم التوجهات الهادفة إلى بناء مؤسسات المجتمع المدني وسيادة القانون والحفاظ على الحريات الشخصية وبناء الحياة الدستورية».

وعليه، فالجمعية ذات توجه ليبرالي منصوص عليه في صفحتها الإلكترونية، توجه جريء يعتز أصحابه بقيمته الفكرية، توجه لا يجرؤ عليه في ظل التغييب والتضليل الحاليين سوى، كما قال والدي، أهل البحرين. كان في انتظاري في مطار البحرين الأستاذ إبراهيم علي، عضو الجمعية النشط والمتفرغ لعملها تماماً، فكان، لابتسامته الطيبة ولهجته البحرينية الساحرة، أجمل وأدفأ الأثر في قلبي بعدما تجمدت أطرافي ونفسي بسبب برودة الطيارة، وبعدي عن الكويت الذي لم تعد النفس ولا الجسد يحتملانه كثيراً ولا قليلاً.

كان في انتظاري برنامج حافل من المقابلات والأحاديث كشفت كلها عن العمق الثقافي والتحرر الفكري لأهل هذه الجزيرة الغنية المبهرة، والأهم من ذلك كشفت عن حنان ومحبة وكرم وطيبة وخفة ظل لم أعرفها تجتمع إلا عند هؤلاء الجيران الذين يحضرونك برائحة عود وبخور كأنها تفوح طبيعية من النفوس قبل الأجساد. من ضمن الجدول، كان لديّ لقاء مع طلبة الجامعة الأهلية، والتي تستأجر مبناها مؤقتاً لحين إتمام مقرها الرئيس في جزء كبير من مول بحريني. كان للحرم الجامعي نكهة خاصة، فهو مفتوح يستقبل الشمس من كل الجهات، يتناثر في جنباته الأولاد والبنات، الذين يبدو أنهم يستمتعون في البقاء في الحرم، بسبب ثقافة موقعه الخاصة، وقد بدت مواقع تجمعهم قريبة من مكاتب مدرسيهم، بل ومدير جامعتهم الرائع الدكتور عبدالله الحواج، الذي أكد على اهتمامه بسياسة المكان بتقاربه وانفتاحه الشرح. دار في مكتب الدكتور الحواج حوار رائع بينه وبين الأستاذ إبراهيم علي عن ذكرياتهما حول الدراسة في الكويت، حيث كان الأخير رئيساً للاتحاد الوطني لطلبة البحرين، يتحدثان عن زمن الانفتاح والحرية الفكرية، وأنا أجتر صمتي بابتسامتي الحرجة التي أرسمها رسماً كلما اعتمل حديث في داخلي لا أود الإفصاح عنه.

ترك طلبة البحرين أثراً كبيراً في نفسي، فعلى الرغم من أنهم يعانون من المخاوف ذاتها ويتزاحمون خلف الخطوط الحمر ذاتها والمحرمات والأفكار التي فرضها الساسة الإسلاميون عليهم، والتي يعاني منها شباب الوطن العربي ككل، إلا أنهم أظهروا جرأة وقدرة على المحاورة واهتماما بواقعهم جعل ساعتي الزمن معهم غير كافيتين أو مشبعتين بالنسبة إليّ.. هؤلاء هم الأمل، وهم من كنت أريد أن أقضي معظم وقتي معهم. إلا أن جدولنا حكم، ووقتنا أزف، فكان أن تركتهم وفي قلبي حنين لكل واحد منهم، ومخاوف على مستقبلهم، أن يسلموه غير مدركين لمن يريد أن يسلبهم حرياتهم وآمالهم ومستقبلهم، الذي هو ملك لهم هم.. وحدهم.

أما الندوة الرئيسة، فقد أتاحت الفرصة لي للالتقاء بالنخب البحرينية المثقفة، وتبادل الحوار معهم، فانتعش القلب وتجددت مياه الأمل، وتوردت النفس، بل وحتى الوجه. لقد نسيت كم تعيد الحرية وحديث الأمل من شباب قلب الإنسان، بل ووجهه. وكان ختام كلا اليومين عشاء فاخرا دافئا بدعوة من الأستاذ جمال فخرو، النائب الأول لرئيس مجلس الشورى البحريني، ورئيس جمعية المنتدى. نعم...كلا المنصبين الحكومي والليبرالي .. جداً، وزوجته الجميلة الفنانة التشكيلية لبنى أمين التي تبين أنه تربطها علاقة معرفة طيبة بوالدتي بحكم كونهما «تلونان» اللوحات وحياة من حولهما، كما بدا واضحاً.

كان على العشاء كذلك الدكتور الرائع عبدا لله المدني الذي استحييت أن أفصح له عن مدى هيامي بشخصه الفكري، فاكتفيت برفع عيني في اتجاهه وزوجته الجميلة بين الفينة والأخرى بغرام عقلي، حاولت أن أضبطه.. لكنه انفلت عندما أهداني جل كتبه وروايتين جديدتين له أسعدتا قلبي، وأفلتتا المحبة الثقافية. كما كان على العشاء في الليلة الثانية الأستاذ رشيد المعراج، محافظ البنك المركزي، الذي ما إن سألته عما إن كان البنك يوزع «فلوسا» على الناس، حتى أطلق ضحكته الصافية البحرينية، وقال «تستاهلون والله»، غير مفرط بأي فلس بحريني بالطبع.

أما صديقتي الجميلة لولوة، فقد انضمت لعشائنا بطلب صارم من سعادة النائب الأول لرئيس مجلس الشورى، ومن يستطيع أن يرد طلبه؟، فكان عشاء رائعاً ودوداً ضاحكاً تمنيته أن يستمر ساعات أطول. وقد التهمت في هذين اليومين كمية من الأكل ما قد يسيء لسمعة الكويتيين المخملية والصحية أمام رقة البحرينيين «الطعامية»، ولكن كلي أمل أن يعزو الأستاذ فخرو وزوجته لبنى «فجعنتي» للمجهود الكبير الذي بذلته بين المقابلات والزيارات، التي وبسبب حميميتها أنستني إشباع معدتي. وبقيت صحبة «أبو مروان»، الأستاذ إبراهيم علي، لآخر يوم، واهتمامه وكرمه دفء الرحلة ودهن عودها ووردها.

شكراً لجمعية المنتدى ولحفاوة كل بحريني وبحرينية قابلتهم، فعلى العادة، تلون الحفاوة والسعادة الدنيا، فلا أعود أرى سوى قوس قزح كبير يغلف سماء البحرين، وهكذا ستبقى في قلبي وعقلي دائماً.

CONVERSATION

0 comments: