ملاحظات حول كتاب: حقيقة الصابئة المندائيين/ د. عدنان الظاهر

المؤلف : حامد نزّال السعودي (1)
أعارني مشكوراً هذا السفر الجميل [ 544 صفحة ] صديقٌ مندائيٌّ عزيز . سحتُ معه وفيه طولاً وعرضاً فلفت نظري صبرُ وطولُ نَفَس الأستاذ المؤلف وغيرته على قومه وديانته وطول باعه فيهما . كرّسَ الجزء الأول من الكتاب [ ثلاثة فصول ] لما قال المؤرّخون والمستشرقون الأجانب بحقهم وحقيقة ديانتهم المندائية . وخصص الجزء الثاني [ كذلك ثلاثة فصول ] لما قال المؤرّخون العربُ ـ المسلمون أو المسلمون العرب ، وما كتب الكتّاب والمؤرخون المندائيون عنهم . لقد بذل المؤلف جهداً كبيراً في جمع هذه المعلومات الغزيرة وتبويبها وعرضها بأمانة وموضوعية بعيداً عن الذاتية وضيق الصدر وبجرأة عزَّ نظيرها في هذه الأيام . لم يتردد أبداً في تدوين ما كتب خصومهم عنهم قوماً وديناً وما سطّر بعضهم من تخرّصات وافتراءات وتشويهات بحق معتقداتهم وأصول طقوسهم وشعائرهم الدينية وعاداتهم الإجتماعية . فجادلهم فيما قالوا وناقشهم نقاش المقتدر العالم بأصول دينه وقدَمه وعراقة تقاليدهم ونشأتها .
أما الجزء الثالث وهو الأخير فإنه كسابقيه مكوّنٌ من ثلاثة فصول أعطاه العنوان
(هكذا عرفتهم ) : حقيقة الصابئة المندائيين .
خرجت من قراءتي لهذا الكتاب القيّم بجملة ملاحظات حول بعض المعتقدات المندائية التي وردت في كتبهم الدينية المقدسة التي ينسبونها لآدم [ كتاب الكنزا ربّا ] مثلاً ، وتعاليم يحيى ، يحيى المعمدان إبن زكريا ، يهيا يهانا ، المسمى [ دراشة إدْ يهيا ] . ثم قد وجدتُ من المفيد أنْ أقف مع البعض من هذه المعتقدات الدينية مقارناً إيّاها بمثيلاتها في الأديان الأخرى ، ولا سيّما الدين الإسلامي ، في محاولة للوقوف على سر إختلافها عن معتقدات هذه الأديان ، خاصة والدين المندائي ـ حسب إعتقاد الأخوة المندائيين ـ هو أقدم الأديان حيث يعتقدون أنَّ آدم هو نبيّهم وإنه هو من أسّس الدين المندائي وإنه هو نفسه كان مندائياً . وهذا الأمر يخالف كلاً من تأريخ العلوم الدينية وكلَّ ما نعرف من منجزات العلوم الحديثة . لا أريد الرجوع إلى داروين ونظريته في النشوء والتطور أو الإرتقاء ولا إلى تأريخ وعمر كرتنا الأرضية ... لا أود التطرق إلى هذين الأمرين لأنني إبتداءً لا أريد الإختلاف معهم ولا مع الأستاذ حامد السعودي الشديد الإحترام لدينه المندائي. وقبل الشروع في طرح النقاط التي سأناقشها وأعارضها بما أعرف من فلسفات دينية مغايرة وأقارنها بما جاء في كتب الأديان الأخرى ... قبل ذلك كله لا بدَّ لي من التصريح أنَّ هذه الطائفة المسالمة النادرة التي وقع عليها الحيف والجور في مختلف مراحلها دونما ذنب إقترفته أو جريمة إرتكبتها ... وجدت نفسها دوماً في زواية حادة حرجة للدفاع عن نفسها بالدفاع عن دينها وتوضيحه للعالمين ولدحض الفتاوى والإتهامات والإفتراءات الزاعمة بأنهم يعبدون الكواكب والنجوم وأنهم لا إيمان لهم برب واحد خالق وبيوم آخر وحساب وعقاب. وعلى هذا أجهد الباحث الممتاز السيد حامد السعودي نفسه ليُظهر بالأدلة والبراهين والآيات حقيقة إيمانهم برب خالق واحد أَحَد . مُتهَمون وهم الأبرياء . مُحارَبون وهم المسالمون ... وقد وردت لفظة { إسلام } في كتبهم المقدسة قبل ظهور الإسلام ربما بقرون وقرون . وهناك نص صريح في القرآن يبين أنَّ إبراهيم هو مَن سمّى المسلمين بهذا الإسم [[ وجاهدوا في الله حقَّ جهاده هو اجتباكم وما جعل عليكم في الدين من حَرَج ملّةَ إبراهيمَ هو سمّاكم المسلمين من قبلُ وفي هذا ليكونَ الرسول شهيداً عليكم وتكونوا شهداءَ على الناس .../ سورة الحَج ، الآية 78 ]] . لقد وجدتُ أغلب الأخوة المثقفين والمؤرخين المندائيين ينحون بقوة هذا المنحى ما عدا العزيز الأستاذ عزيز سباهي فقد حافظ على خطه الفكري { التقدمي } وعلى منهجه العلمي فلم ينزلق في خطوط اللاهوت ومتطلبات القناعات الدينية المعروفة. في نظري أنَّ موضوع أصل ومنشأ الصابئة المندائيين كقوم أو ملّة هو الأكثر أهمية من تفاصيل دينهم وما اختلفوا فيه مع طقوس وشعائر باقي الأديان . الأقوام أولاً ثم تأتي الأديان . القوم يليه الدين . الدين يتغير وأصحابه يتغيرون وينقلبون عليه لشتّى الأسباب وقد أسلم الكثير من الصابئة المندائيين [ وربما الكثير من اليهود ] خلال مسيرة تأريخهم الطويلة وتزوجت مندائيات من رجال مسلمين وإنْ على نطاق ضيّق محدود لكنهنَّ بقين مندائيات . القومَ أكثر رسوخاً وثباتاً .
أولاً / النفس والروح
أراني هذا الكتاب أنَّ الديانة المندائية تختلف جذرياً عن باقي الأديان ـ ولا سيّما الدين الإسلامي ـ في الموقف من النفس والروح خاصّةً . سأقارن المفهوم المندائي للنفس والروح بالرؤية الإسلامية لهما حسب نصوص القرآن فقط . ثم أمرُّ على هذين الموضوعين من وجهة نظر أفلاطون وربما الفيلسوف الألماني هيكل .
ينص كتاب الأستاذ حامد الجبوري على ما يلي [[ النفس هي نفحة من الذات العليا بعالم الأنوار ، لا بدَّ لها أنْ تعودَ إلى موطنها الأصلي في الملكوت الأعلى الذي هبطت منه أصلاً ... والنفسُ هي النشمة باللغة المندائية ، وتعني النسمة السماوية المباركة أو نسمة الحياة التي وضعها اللهُ ـ سبحانه ـ في جسد آدم الأرضي . فإذا أتمَّ هذا الإنسانُ قدره على الأرض تتحرر نفسه التي عرفت الإيمان الحق فتتحد بالكون الأعظم الخالد تاركةً جسد الإنسان فانياً لا أهميةَ له بدونها / الصفحة 427]] .
وماذا عن الروح ؟ نقرأ في نفس الصفحة 427 ما يلي [[ يعتقد الصابئة المندائيون أنَّ للإنسان روحاً ونفساً ، وإنَّ النفس هي هبة الله للإنسان التي فيها من سنا وجلال موطنها الأصلي ونوره وكماله وجماله وسلامه لإعانتها من شرور الأرض ومغرياتها ، تكون عُرضةً للحساب . أما الروح التي حلّت جسدَ الإنسان مع نفسه فهي التي تدفعُ الإنسان إلى الشر والفساد والمخالفة ، لأنها مجموعة من الخلايا الحية والغرائز والعادات المختلفة التي حملت معها كلَّ ما في عالم الظلام من خبث ومكر وكذب وشر ورياء وفساد وإغراء للخطيئة والمعصية ]] .
لا نجد مثل هذه التفصيلات في الدين الإسلامي بخصوص النفس والروح أبداً . فإذا عدنا للقرآن وجدنا أنفسنا مع النزر اليسير مما قال عن النفس والروح . ثم إنَّ القرآن يختلف جذرياً مع النص المندائي في مفهوم الروح . مجّد القرآن الروح في سورة القْدر ووضعها في مقام الملائكة ومستواها وعظمة قدرها عند ربّها [[ ليلة القَدر خيرٌ من ألف شهر . تَنزّلُ الملائكةُ والروحُ فيها بإذن ربّهم من كلّ أمر . سلامٌ هي حتى مطلع الفجر / سورة القدر ، الآيات 3 و 4 ]] . في آيات ثلاث أخرى ينحو القرآنُ هذا المنحى ذاته في ربط الروح بالملائكة فهل الملائكة أرواحٌ حسبُ أم أنَّ الروحَ هي نفسها مَلَكٌ كريم ؟ الآيات الثلاث هي حسب تسلسل ورودها في سور القرآن [[ يُنزّلُ الملائكةَ بالروح من أمره على مَن يشاءُ من عباده أنْ انذروا أنه لا إلهَ إلاّ أنا فاتقون / سورة النحل ، الآية 2 ]] . حسب فهمي لهذه الآية أحسبُ أنَّ تفسيرها هو أنَّ اللهَ يُنزّلُ ملائكته على نبيه محمد مثلاً ليس بهيئة جسد ماديّ إنما بشكل وهيئة وطبيعة روح والروحُ لا تُرى بالطبع . المَلَك ـ الروحاني في هذه الحالة هو جبريل واسطة الإتصال الإيحائي بين محمد الرسول وخالقه ، الوسيط الذي يُلقّنُ محمداً آيات القرآن في لحظات نزولها . نقرأ في سورة الشعراء ما يلي [[ وإنه لَتنزيلُ ربّ العالمين . نَزلَ به الروحُ الأمين / سورة الشعراء ، الآيتان 192 ، 193 ]] . " نزلَ به الروحُ الأمين " توكيدٌ على إستنتاجي السابق القاضي بإستحالة الفصل بين الملائكة والأرواح : الروحُ مَلَكٌ والمَلكُ روحٌ . الروح الأمين هو المَلَكُ أو الملاكُ جبريل الوسيط الناقل لكلام الرب . لنلقي نظرة أخرى على ما جاء في سورة المعارج حول نفس الموضوع [[ من الله ذي المعارج . تعرُجُ الملائكةُ والروحُ إليه في يوم كان مقدارهُ خمسين الفَ سَنة / سورة المعارج ، الآيتان 3 ، 4 ]] . أرجو ملاحظة ورود الملائكة بصيغة الجمع لكنَّ الروح دوماً في هذه الآيات تأتي بصيغة المفرد . الروح واحد لكنَّ الملائكة هم جمعٌ عديدٌ . معنى هذا أنَّ جبريل الوسيط / الروح / الأثيري / الهيولى ... يستطيع أنْ يتقمصَّ أو يتلبّسَ أو يستخدمَ هيئات ملائكة شتى حسب الظرف والحاجة وطبيعة المهمة الموكولة به لأدائها . فهناك مهمات عمومية لا تختص بشراً بعينه دون سائر البشر . لكنّا نرى في آية سورة المعارج عنصراً جديداً ذا دلالة زمانية محددة { اليوم } غيرَ أنَّ هذا اليوم ليس كباقي الأيام من حيث طوله المعروف والمحدد بأربع وعشرين ساعةً إنما يساوي خمسين ألف سنة هي ضرورية لبلوغ مقام العرش العظيم . لا تخضع هذه الحسابات لحسابات تقويمنا الزمني الآخذين به منذ قديم الزمان ، منذ زمان البابليين في العراق . إنه تقويم شمسي خاص بمنطق العروج وهو أمر مفهوم إذا أخذنا في الإعتبار مقدار السرعة الكونية الفائقة التي يجب أنْ تحلّق بها المركبات الفضائية والصواريخ الموجهة نحو القمر أو الشمس وبعض الكواكب السيارة الأخرى . تقويم المعراج الزمني هذا يضعنا وجهاً لوجه أمام السنوات الضوئية ووحدات قياس السرعات القريبة من سرعة الضوء لقطع المسافات الشاسعة والمتناهية في البعد عن أرضنا. لكنَّ القرآن يقف محايداً في سورة أخرى من مسألة الروح حيثُ لا يُعطي جواباً لمن سأل عنها النبيَّ محمداً [[ يسألونك عن الروح قل هي من أمر ربّي / سورة ؟ ]] . { قل هي من أمر ربي } كلام عام غامض لا يُغني السائل ولا يُشفي غليله . إذاً لا نجد تفسيراً محدداً واضحاً لمفهوم ومعنى وحقيقة الروح من وجهة نظر الإسلام إلا من خلال ربطها بالملائكة ، أي أنها ليست طليقة من جهة ، وطليقة من جهة أخرى من حيثُ لا من علاقة تربطها بجسد الإنسان وهي حلٌّ من وضع هذا الجسد في حالتي الحياة والوفاة . لا تفارقه لأنها لم تكن مرتبطة به أصلاً . الجسد بعد الموت يتفسخ تحت التراب لكنَّ الروحَ خالدٌ جزءاً من مملكة الرب الخالق لا إنفصام بينه وبين الملائكة أبداً . وهذا فرق كبير جداً بين موقفي الدين الإسلامي والدين المندائي من موضوع ومفهوم الروح .
وماذا عن النفس ؟ نجد في القرآن موقفين متخالفين متضادين من النفس . ففي سورة يوسف نقرأ [[ وما أُبرئُ نفسي إنَّ النفسَ لأمّارةٌ بالسوء إلاّ ما رَحمَ ربّي إنَّ ربّي غفورٌ رحيمُ / سورة يوسف الآية 53 ]] . النفس تأمرُ بالسوء إذاً . نقيض هذا النص نجد القرآنَ يُعلي من شأن النفس ويخاطبها خطاباً صوفياً يمسُّ شغاف القلوب [[ يا أيتها النفسُ المطمئنة . ارجعي إلى ربّك راضيةً مرضية .فادخلي في عبادي . وادخلي جنّتي / سورة الفجر، الآيات 27 و 28 و 29 و 30 ]] . ما موقف الإنسان المسلم من هذين القولين المتناقضين ؟ فالنفسُ تأمرُ مرّةً بالسوء ، ومرةً أخرى يخاطبها ربّها أروع خطاب ويأمرها أنْ تعود إليه راضيةً مرضية وأنْ تدخلَ جنته أسوةً بعباده الصالحين الذين يستحقون دخول الجنة . سوف لا أذهبُ بعيداً فيما قال القرآنُ عن النفس لأنَّ القرآن لم يعرض تفصيلات شافية فيما يتعلق بالنفس كما فعلت كتب الديانة المندائية . وإلاّ هل نستطيع إستخلاص معنى أو مغزىً للنفس من منطوق الآية [[ يا بني إسرائيلَ اذكروا نعمتي التي أنعمتُ عليكم واني فضّلتكم على العالمين . واتقوا يوماً لا تَجزي نفسٌ عن نفس شيئاً ولا يُقبلُ منها عَدلٌ ولا تنفعها شفاعةٌ ولا همْ يُنصرون / سورة البقرة ، الآيات 122 و 123 ]] . وثمّة مثلٌ آخرُ [[ وإذا أخذنا ميثاقكم لا تسفكون دماءكم ولا تُخرجون أنفسكم من دياركم ثم أقررتم وأنتم تشهدون / سورة البقرة ، الآية 84 ]] . المقصود هنا وهناك بالنفس هو الإنسان المخاطب أو مجموعة من الناس وهم في هاتين الحالتين بنو إسرائيل . لا تجزي نفسٌ عن نفس تعني لا يجزي شخصٌ عن شخص آخرَ ولا يٌقبلُ منه عدلٌ ولا تنفعه شفاعةٌ . أما معنى النفس في الآية الثانية فتعني أنتم ، لا تتركوا دياركم . أسوق أمثلة قليلة أخرى من القرآن تتكلم عن النفس . من سورة النساء [[ يا أيها الناسُ اتقوا ربّكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبثَّ منهما رجالاً كثيراً ونساءً واتقوا اللهَ الذي تَساءَلون به والأرحامَ إنَّ اللهَ كان عليكم رقيبا / سورة النساء ، الآية 1 ]] . فالنفس هنا هي أصل منشأ الإنسان ، منها تمَّ خلقه . وخلق من هذه النفس الواحدة زوجاً للمخلوق الأول من أجل مواصلة وإدامة دائرة ودورة الحياة . هنا يتضح الفارق الجوهري الكبير بين الروح والنفس حسب فلسفة الدين الإسلامي . الروح لا تنفصل عن الملائكة لكنَّ النفس هي حوض ورحم وحاضنة الإنسان وإنها قابلة للإنقسام مثل الأميبيا وبقية حجيرات جسم الإنسان إنقساماً تكاثرياً لا إنقساماً تدميرياً يُفضي للعدم . نجد في سورة الزُمَر شيئاً شبيهاً بهذا المعنى مفاده [[ خلقكم من نفس واحدة ثم جعل منها زوجَها وأنزل لكم من الأنعام ثمانيةَ أزواج يخلُقكم في بطون أمّهاتكم خَلقاً من بعد خَلق في ظُلُمات ثلاث ذلكم اللهُ ربّكم له المُلْكُ لا إلهَ إلاّ هو فأنّى تُصرفون / سورة الزُمَر ، الآية 6 ]] . مَنْ كان الأول في عملية الخلق هذه ، الأنثى أو الذكر ؟ لا تفصلُ هذه الآيةُ في هذا الأمر لذا يبقى خاضعاً للتأويلات والتخمينات والتكهنات وقناعات بعض المفسرين الذين يميلون لتفضيل الذكر على الأنثى مٌسلحين ببعض ما ورد في القرآن من آيات تميل لكفة الرجال على حساب النساء وهي لحسن الحظ ليست كثيرة .
قد يكون للقرّاء الكرام فهم آخر لما ورد في القرآن عن النفس والروح ورأيٌ آخر يختلفون معي فيه فليتني أسمعه منهم .
الآن ، ما رأيُ أفلاطون في هذا الموضوع ؟ (2)
[[ ينبغي التخلّص من حَمَق الجسد . إنَّ إنطواءَ النفس على ذاتها وبُعدها عن الجسد إنما هو التفلسف على الحقيقة ]] . يشرح مؤلف المصدر الثاني كلام أفلاطون كما يلي [[ لكي تُصبحُ فيلسوفاً حكيماً ينبغي أنْ تمارسَ على نفسك تحويلاً ينتهي بك إلى الإنشطار إلى ثنائية متنافرة تغلبُ فيها سلطة الروح على الجسد لأنَّ الروحَ ، بإعتبار أساسها العقلي هي أساس النظر الصحيح ، أما الجسدُ ، باعتبار أساسه الحسّي ، هو مصدر العمى / الصفحة 109 المصدر الثاني ]]. حصر أفلاطون هنا فكرته الفلسفية بثنائية الروح / الجسد وانحاز للروح باعتبار { أساسها العقلي ، أساس النظر الصحيح } أما الجسد { باعتبار أساسه الحسّي ، هو مصدر العمى } . دعا بهذا أفلاطون الإنسانَ لأنّ ينشقَّ على نفسه ويُغلّب روحه على جسده للفرق الكبير بينهما فللروح أساسٌ عقلي بينما للجسد أساسٌ حسّي والحسُّ هو مصدر التشويش فالعمى . ما قال أرسطو في معرض كلامه عن " الزوجين الميتافيزيقيين " الجسد والروح ؟ قال فيهما [[ جسد ، باعتباره آلة تملك أدوات نطق ، وروح بوصفها نفساً تفكّر / المصدر الثاني ، الصفحة 60 ]] . لم يفصل أرسطو بين الروح والنفس بل جعل الروحَ نَفساً تُفكّر أي أنَّ النفسَ جزءٌ من الروح . من هذا نرى أنه مع ثلاثية الجسد ـ النفس ـ الروح . يخالف الدين المندائي كلا من الإسلام وأفلاطون الفيلسوف في الموقف من الروح فهي بالنسبة لهذا الدين سيئة وإنها مصدر الشرور والخطايا لكنه يركّز على النفس ، كما سنرى ، فإنها هي الخالدة وإنها تعود بعد الموت في نهاية أمرها للإتحاد مع خالقها الحي الأزلي أو عالم النور الأزلي حتى لو كانت قد أخطأت في فترة حياة صاحبها فمراحل التطهير السبع تكفي لتنقيتها وتزكيتها وجعلها صالحة للعروج حتى بلوغ مقام مكان النور الأزلي .
ثانياً / مراحل العروج المندائية السبع للأعلى ومراحل النزول السومرية السبع للعالم السفلي .
أقتبسُ ما ورد في المصدر الأول على الصفحة 428 ثم أقارنه بما ورد في المصدر الثالث (3) في الصفحات 133 ـ 141 وربما أتناول مسألة العروج في قرآن المسلمين للمقارنة والتذكير ليس إلاّ .
[[ لقد صار واضحاً أنَّ المندائيين يؤمنون بالله واليوم الآخر ... فهم يعتقدون بوجود الحساب والعقاب ، والثواب والجزاء ، والنعيم والجحيم ، والجنة والنار في الآخرة ... وهذه موزّعة على عالمين رئيسيين هما : (أ) عالم النور ، آلما دَ نهورا (ب) عالم الظلام ، آلما دَ هشوخا . فبعد وفاة الإنسان تصعدُ نفسهُ إلى الآخرة حيث يعتبرُ المندائيون يومَ الوفاة هو بمثابة يوم إنطلاق النفس لأنها تتحررُ من أسارها وتجابهُ بعد ذلك مرحلة غريبةً تمرُّ خلالها بسبعة عوالم هي محطّات الحساب والتطهير التي تُدعى مندائياً " المطراثي " التي تعترض سبيلَ النفس في عروجها ومحاسبتها حساباً عسيراً ... / المصدر الأول ، الصفحة 428 ]] .
يوم وفاة الإنسان المندائي هو يوم تحرر نفسه من أسار الجسد فالجسد أسرٌ وحبسٌ لهذه النفس التي تتوق في نهاية الأمر للصعود والإتحاد { بالذات العظمى في عالم الأنوار الذي إنبعثت من ذاته مما يؤكدُّ عقيدتهم بخلود النفس / المصدر الأول ، الصفحة 228 } . هذا الأمر لا يختلف عن جوهر ونص الآيات القرأنية سالفة الذكر التي قالت : يا أيتها النفس المطمئنة . إرجعي إلى ربك راضية مرضية . فادخلي في عبادي . وادخلي جنتي / سورة الفجر . على أنَّ رجوع النفس الإسلامية إلى ربها لا يعني الإتحاد به على الطريقة المندائية إنما يعني دخول الجنة مع عباد الرحمن الصالحين المؤمنين لا غير . لا إتحاد في الإسلام مع الخالق سوى في فلسفة المتصوفة بالحلول .
تمر نفس المندائي بعد وفاته إذاً بسبعة عوالم أو محطات من الحساب والتطهير خلال مرحلة الصعود أو العروج للإتحاد بالذات العظمى . يبدو أنَّ الرقم 7 ذو مغزى ودلالات مرتبطة بقوة بالأديان ثم إنَّ عدد أيام الأسبوع سبعة وعدد الكواكب السيّارة سبعة وعدد السماوات حسب القرآن سبع ، سبعاً طباقاً . لا أدري مَن سبق مَنْ : الأدب السومري أم الدين المندائي ؟ أسالُ هذا السؤال لأنَّ في أسطورة نزول عشتار السومرية للعالم السفلي سبع مراحل ، فما سر هذا التطابق في الأرقام ؟ لا أُعيدُ تفاصيل مراحل الأسطورة السومرية بل أوجزها إيجازاً ففي هذا الإيجاز كفاية . هبوط عشتار إلى العالم الأسفل(3) :
[[ إلى أرض اللاعودة ، مملكة أرشكيغال
عشتار ، إبنة سين ، قرَّ قرارُها
نعم ، إبنة سين قرَّ قرارُها
إلى منزل الظلام ، مقر إيركال لا
إلى المنزل الذي لا يعودُ منه مَنْ دخلَهُ
إلى الدرب الذي لا رجعةَ منه
إلى المنزل الذي حُرّمَ فيه نزلاؤه من النور
حيثُ الغبارُ قوتهم والطينُ طعامهم
حيثُ لا يرون ضياءً والظُلمةُ مأواهم
...
ففغرَ حارسُ البوّابة فاهُ ليتكلّم
ويقولُ لعشتار ذات المقام الرفيع
سأذهبُ لأعلنَ عن إسمك للملكة أريشكيغال
ثم إنَّ حارسَ البوّابة دخلَ وقال لأريشكيغال
أنظري ، شقيقتك عشتار تنتظرُ في الباب
...
وهكذا ذهبَ حارسُ البوّابة ليفتحَ لها البابَ :
أدخلي يا سيدتي فلعلَّ الكوثاه تغتبط بقدومك
لعلَّ دارةَ عالم اللاعودة يعمّها السرورُ بحضورك
وعندها أذنَ لها بدخول الباب الأول
جرّدها من التاج العظيم الذي يجللُ رأسَها
" لماذا يا حارسَ البوّابة انتزعتَ تاجَ رأسي العظيم ؟ "
أدخلي سيدتي ، تلك هي شرائعُ سيدة العالم الأسفل .
وعندما أذنَ لها بدخول الباب الثاني
جرّدها من قُرطي أذنيها
" لماذا يا حارسَ البوّابة إنتزعتَ قُرطي أُذني ؟ "
أدخلي سيدتي ، تلك هي شرائعُ سيّدة العالم الأسفل .
وعندما أذنَ لها بدخول الباب الثالث
جرّدها من قلائد جيدها
" لماذا يا حارسَ البوّابة إنتزعتَ قلائدَ جيدي ؟ "
أدخلي ، سيدتي ، تلك هي شرائعُ سيّدة العالم الأسفل.
...
وعندما أذنَ لها بدخول الباب السابع
جرّدها من المئزر الذي يسترُ جسَدَها .
" لماذا يا حارسَ البوّابة إنتزعتَ المئزر الذي يسترُ جسدي ؟ "
أدخلي ، سيدتي ، تلك هي شرائعُ سيّدة العالم الأسفل ]] .
هذا مختصر مراحل هبوط عشتار إبنة سين ، إله القمر ، إلى العالم الأسفل عالم الموتى والظلام . نلاحظ التدرّج في هذه المراحل في تجريد عشتار مما ترتدي من ملابس وما تضع على جسدها من مصوغات كأقراط الأُذنين والتاج والقلادة لينتهي الأمر بها إلى التخلي عمّا يستر جسدها ، المئزر حسب شرائع أو أوامر مليكة عالم الأموات ، العالم الأسفل . كما نلاحظُ أنْ لا مكان للموتى في الأعالي ، في السماوات أو الجنان أو في عالم النور والحي الأزلي . نظرة وفلسفة السومريين واقعيتان فالموتى يُدفنون تحت الأرض ، أسفل الأرض أي العالم السفلي حيث الظلام التام المُطبق يقابل ذلك العالم الأرضي ، حيث حياة البشر والحيوان والنبات وحيثُ نور الشمس والحرارة والضوء والنماء والخصب والتناسل وعشتار نفسها هي آلهة الخصب والجنس والتناسل . لذا توقفت الحياة على سطح الكوكب الأرضي في بلاد سومر نتيجةً لغياب عشتار آلهة الخصب والتناسل وجاء ذلك في هذه الأسطورة واضحاً جميلاً وكما يلي :
[[ وبعد أنْ هبطت السيدة عشتارُ إلى العالم الأسفل
لم يعدْ الثورُ يعتلي البقرة ، ولا الحمارُ يُسفدُ الأتان
وفي قارعة الطريق لم يعدْ الرجلُ يُلقّح المرأة
صار الرجلُ ينامُ في حجرته والمرأةُ تنامُ على جنبها ]] ... ألا ما أبلغ التعبير والتصوير في هذا المقطع : توقفُ عملية التناسل ؤدي لا ريبَ إلى الموت إذْ لا دوام للحياة بدون تناسل . إستوقفتني جملة { وفي قارعة الطريق لم يعدْ الرجلُ يُلقّح المرأة } ذاك أنَّ القرآن الكريم كان واضحاً وصريحاً في تحريم إتيان النساء في المساجد وفي التنديد وردع قوم لوط الذين كانوا { يأتون الفاحشةَ في ناديهم } ... فهل كان السومريون يمارسون الجنس عَلَناً في قارعة الطريق ؟ نص هذه الأسطورة يقولُ ذلك كما رأينا قبل قليل .
عالما الموتى المندائي والإسلامي في الأعلى ، المندائيُّ مُتّحدُ النفس مع الحيّ
الأزلي مليك الأنوار ، أما الإسلامي فلا يتحد بعد موته مع الله ولكنْ تصحبُهُ ملائكة إما في الجنة أو في النار ولا من خيار ثالث بينهما . حتى النفس المندائية الخاطئة تتطهّر ثم تتحد بالحي الأزلي ... وهذا أمرٌ خطير الشأن يدلُّ على روح العفو والتسامح في جوهر العقيدة المندائية وهو أمرٌ بيّنٌ واضحٌ تدلُّ عليه طبيعة وخُلق وسلوك المندائيين المسالمين الغفورين الجانحين للسلم وللدعة والتحاب والتواد كأنَّ شعارهم ما قال القرآن في بعض آياته [[ إدفعْ بالتي هي أحسنُ ، فالذي بينك وبينه عداوةٌ كأنه وليٌّ حميمٌ ]].
ختام / لكم وددتُ أنْ أتعرّضَ بالدرس والمقارنة لعدد آخر من الموضوعات مما قرأتُ في كتاب الأستاذ حامد نزّال السعودي لكنَّ إستثنائية ظروفي الراهنة وقفت حائلاً لشديد أسفي ... ليت سوايَ يواصل البحث والمقارنات ويكملُ ما عجزتُ عن مواصلته . من هذه الموضوعات ، وليس جميعها :
1ـ الإختلافات بين المندائيين وتوراة اليهود حول قصّة سارة وابراهيم وأسباب ختانه وخلافهم معه بسبب هذا الختان .
2ـ خلاف بين المندائية والقرآن الكريم حول مَنْ كان مع نوح في فُلكه ؟ لم يكن إبنه معه في سفينته التي أنقذ بها البشر والحيوان حسبما ورد في القرآن .
3ـ خلافات حول تفسير أسباب طوفان نوح وعمار الدنيا التي أفناها هذا الطوفان.
4ـ الفروق بين تفاصيل جنّات القرآن الكريم وجنّة سام بن نوح في التراث الديني المندائي .
وكذلك في الختام لا بدَّ لي من أنْ أقدّم جزيل شكري للأخ الأستاذ حامد نزّال السعودي إذْ أتاح لي بكتابه القيّم هذا أنْ أتعرّف على الكثير من خفايا العقيدة المندائية وعلى الكثير من طقوس وشعائر وتقاليد الأخوة المندائيين . ثمَّ ، لا أقولُ إني أعترض على بعض مواقفه وقناعاته وتفسيراته وأخالفه فيها لكنني أستطيع أنْ أقولَ إني أتحفظُ على البعض منها قليلاً أو كثيراً مع إعتذاري .
المصادر
1ـ حقيقة الصابئة المندائيين " بحث في تأريخ أمّة حاضرة منسيّة " .
المؤلف : حامد نزّال السعودي . الناشر : ؟ هولندا 2009 .
2ـ هيدجر والميتافيزيقا . المؤلف : محمد طواع . الناشر : إفريقيا الشرق ، الدار البيضاء ، الطبعة الأولى 2002 .
3ـ من روائع الشعر السومري . المؤلف : علي الشوك . الناشر : منشورات الجمل ، الطبعة الأولى 1990 ، كولن ، المانيا .

CONVERSATION

0 comments: