تاريخ حديقة/ عبدالقادر رالة

  عاودتني الرغبة ثانية  في التوجه الى الحديقة . في المرة الاولى لم أكن أصدق أن الحديقة بذاك الهدوء المميز والـتأثير الهادئ، أني كنت أمر عليها يوميا الى البقال أو الخضار لابتياع حاجياتي...  
 الحديقة تتوسط الجهة الجنوبية من مدينتنا الصغيرة ،أو الحي الفرنسي كما يسميه الكبار ،إذ كان في الماضي مخصصا للمعمرين ، بينما الاهالي يسكنون في الجهة الشمالية ، وتتوسط الجهتين ثكنة الدرك. الحديقة تعود الى العهد الاستعماري ، وطالما عبر السكان عن اعجابهم بالذوق الفرنسي إذ جعلوا الحديقة تتوسط الكنيسة من جهة اليسار ، وقد حولت الى مسجد، والمدرسة الابتدائية  من جهة اليمين وقد حولت الى مديرية جهوية للتربية، والحديقة هي البناء الوحيد الذي ظل صامدا...
 أتذكر جيدا لما كنا أطفالا كانت أمنيتنا الوحيدة أن نقترب من سور الحديقة الخارجي، ونشم ورودها الجميلة ،إذ كان حارس الحديقة يعتني بها ويمنعنا من الاقتراب منها ويتشدد في ذلك حتى على الرجال الكبار سوى نفر قليل من المعلمين المثقفين أو الشيوخ المسنين الذين يجلسون ينتظرون أذان صلاة العصر أو المغرب....ولم يكن يتشرف بزيارة الحديقة من الاطفال سوى القليل من زملاء ابن حارس الحديقة، ولطالما توددت الى ذاك الابن وحاولت مصادقته لكن كان يتهرب بسبب فارق السن بيننا!  وبعد أن انتقلنا الى الثانوية اصيبت الحديقة بالشحوب لأن القائم عليها تقاعد ، ولم ينشغل أحد بالحديقة لأننا كنا جميعا منشغلون كيف نخرج الوطن سالما من الأزمة التي ضربته بقوة؟ ومع مرور الأيام اختفت الورود نهائيا وبقيت بعض الشجيرات البائسة  التي اتخذها الخمارون الشبان مكانا لاحتساء الخمرة  في الليل بعيدا عن أعين الأباء، وفي النهار اتخذها طلبة الثانوية مكانا لمراجعة الدروس وحل الواجبات! لكن هذا ليس مشكلا في حد ذاته، انما المشكل الذي أصاب الحديقة في الصميم أن مجموعة الشباب التي كُلفت  بالقيام على الحديقة يسألون  دائما عن الأجرة قبل السؤال عن الورود والكراسي الإسمنتية  والبلاط الذي اقتلع
 بأكمله! 
      لم تعد تثيرنا الحديقة كما كانت تفعل ذلك  ونحن صغار! حديقة بدون ورود جسد  بدون روح سرعان ما يتعفن وينفجر بالديدان!  والحقيقة أن الحديقة صارت تثير شفقة كل سكان مدينتنا الصغيرة، وبالأخص سكان الحي الجنوبي.... 
حتى ذاك اليوم الذي تشاجرت فيه مع زوجتي  ...أنا أصرخ وهي تصرخ.. فخرجت هائما لا أعرف أين أذهب؟ ... أبصرت باب الحديقة الحديدي الأخضر مفتوحا فدخلتها... وجلست على كرسي اسمنتي مهشم لم يبقى منه الا القليل...شعرت بالراحة... يا الهي! الحديقة حتى وهي في أبشع حالاتها تشعرك بالراحة! كانت الساعة الرابعة مساء ...تذكرت زملائي الاطفال ونحن نتفرج على الورود البنفسجية من بعيد...تذكرت الكتب...تذكرت الأقارب...تذكرت القائم على الحديقة ، كان انسانا حازما كرهناه في طفولتنا لكننا احببناه جميعا وازددنا احتراما له لما كبرنا، لأنه أحب الورود من قلبه! تذكرت أولادي...لعنت ابليس ! أمر تافه  تسبب في شجار يتهدد أسرتي الصغيرة! تذكرت زوجتي لما كنت اطاردها من حي الى حي! إذ كانت زوجتي غبية وسطحية التفكير فلأكن أنا حكيما !

CONVERSATION

0 comments: