ذكرى وتأريخ / الفصل السادس/ د. عدنان الظاهر

Adnan 7 GER
( في ألمانيا / 1984 ـ 1988 ) 1ـ3 غادرنا الجماهيرية الليبية في شهر آب عام 1984 متجهين إلى ألمانيا مع قرارنا أن نحاول الإقامة في أي بلد نستطيع الإقامة فيه بشكل دائم . كانت أبواب العراق حتى يومذاك مقفلة ً تماماً في وجوهنا حيث تركناه على عجل في شهر تموز من عام 1978 هاربين بجلودنا وقد أحرقنا السفن فلا من سبيل للرجوع إليه بأي حال من الأحوال في ظل أوضاعه السائدة يومذاك . راسلتُ ونحن في ألمانيا العديد من الجامعات على أمل الحصول على عمل تدريسي أو في مجالات البحث العلمي فلم تفلح محاولاتي . أية جامعة تغامر بمنح مثل هذه الُفرص لرجل مثلي معلّق مع عائلته في ألمانيا وهارب من وطنه العراق ولا يحمل جواز سفر بلده وأمضى ستة أعوام يبحث ويدرِّس في جامعة الفاتح في مدينة طرابلس ؟! أنذرتنا السلطات الألمانية المختصة ( دائرة الهجرة والإقامة ) أنَّ علينا مغادرة ألمانيا بعد إنتهاء صلاحية التأشيرة المثبتة على جوازات سفرنا . طلبنا تمديد إقامتنا ريثما نتمكن من الحصول على عرض للعمل في إحدى جامعات العالم . سمحوا لنا بالبقاء في ألمانيا شهراً واحداً آخر غير قابل للتمديد . مرَّ هذا الشهر هو الآخر سريعاً دون الحصول على عرض للعمل لا في داخل ولا في خارج المانيا . جددتُ طلب تمديد إقامتنا فرفضت السلطات الألمانية بحزم وأمرتنا بمغادرة البلاد على الفور . سألتهم إلى أين نغادر ؟ قالوا إرجعوا إلى بلدكم العراق ! قلت لهم ذلك مستحيل ، لأننا في الأصل هاربون من العراق وأنَّ حكومة العراق رفضت تمديد جواز سفري أواخر عام 1979 وتركتني معلقا ً بدون أية وثيقة للسفر . قالوا عدْ إذا ً للبلد العربي الذي تحمل جواز سفره . قلت لهم لا أستطيع العمل هناك لأنني لست مواطنَ ذلك البلد ولا أحمل جنسيته ولا من علاقة تربطني به . قالوا إذا ً أمامك طريق واحد للبقاء على الأراضي الألمانية : طلب اللجوء ! كنا محاصرين من جميع الجهات وكافة الطرق مغلقة في وجوهنا فإلى أين نولّي ؟ وافقنا على تقديم طلب اللجوء الأصولي وقالوا سنأخذكم إلى أحد معسكرات اللجوء . قلت لا مانع لدينا . ثم عادوا وسألوني هل معكم نقود ؟ قلت نعم . قالوا إذا ً ستبقون في مكان إقامتكم في الفندق ما دامت معكم نقود كافية . كلفت محامياً لمتابعة قضية لجوئنا ورحت أبحث ليلاً ونهاراً عن شقة أو سكن مناسب لي ولباقي أفراد عائلتي المكونة من طفلي ( أمثل 14 سنة ) و شقيقته ( قرطبة 12 سنة ) ووالدتهما . كانت فترة غاية في الصعوبة والتعقيد إذ ما كانت لنا دراية باللغة الألمانية ولا من أحد يعرفنا في مدينة ميونيخ سوى قريب بعيد جداً عن هذه المدينة . تعرفت بالتدريج على بعض المعارف القدماء لكنهم لم يستطيعوا مساعدتنا في الحصول على سكن مناسب لنا . حاولوا لكن جميع محاولاتهم باءت بالفشل لهذا السبب أو لذاك . ما كانت إقامتنا في الفندق مريحة فضلاً عن تكاليفها الباهضة . وضعت الأطفال في معهد لتدريس اللغة الألمانية وتحملنا أجوره العالية ثم إنتظمت ُ أنا نفسي في معهد آخر للغة الألمانية . وفي عين الوقت ترجمتُ في مكاتب الترجمة المجازة كافة وثائقنا ووثائق مدارس الأطفال إستعداداً لإدخالهم المدارس بعد كورس اللغة . عثرنا بما يشبه المعجزة على شقة يروم مستأجروها إخلاءها لمستأجر ثانٍ . كنا نقرأ الإعلانات في الصحف اليومية دون أن نفقه شيئاً مما فيها . كنا نتهجس كأننا في ظلام دامس ونتكهن ونجتهد في معنى هذه الكلمة أو تلك . ركزنا على كلمة واحدة لا غير وردت في أحد الإعلانات رسمها كما يلي :
NACHMIETER

أدرتُ رقم التلفون الملحق بهذا الإعلان وتكلمت مع الطرف الآخر باللغة الإنجليزية مستوضحاً الأمر . قالت لي سيدة هناك إنَّ الشقة معروضة لمن يستأجرها للفترة المتبقية من عقدهم السنوي ، أي مُستأجر لاحق لإتمام الزمن الباقي من العقد السنوي ، وهذا معنى الكلمة بالحروف الألمانية كما كتبتها قبل قليل . لم أفهم وقتذاك هذا الأمر لكني قلت لها إني مستعد لإستئجارها فقالت راجع الشركة وأملتْ عليَّ رقم تلفونها وقالت ثبتْ مع مدير الشركة موعداً لمقابلته وخذ معك ما يثبت أنَّ لديك ما يكفي من مال للبقاء في الشقة ما لا يقل عن عام واحد . نفذتُ صبيحة اليوم التالي ما قالت السيدة فتم توقيع عقد جديد مع الشركة لمدة عام كامل قابل للتمديد أعواماً أخرى . دفعتُ التأمينات المطلوبة وقومسيون الشركة بالإضافة لإيجار شهر واحد هو الشهر القادم . نصر ، نصر عظيم حققته بنفسي لكأنه مصباح نور أضاء الظلام أمامنا فسارعنا لشراء الأثاث المناسب وجهزنا الشقة التي قد كانت مجهزة أصلاً بمطبخ كامل المعدات دفعنا ثمنه للمستأجرين السابقين . إنتقلنا جميعاً بعد ظهر يوم من أيام أوائل شهر شباط عام 1985 من الفندق إلى شقتنا الجديدة الواقعة قريباً من النهر المسمى ( إيزار ) ثم من حديقة الحيوان في منطقة محاطة بالغابات الكثيفة من جميع أطرافها . نصر مؤزَّر ومحجّل . هنا يتكلمون بلغة الأمتار المربعة ... مساحة الشقة 74 متراً مربعاً وتتكون من ثلاث حجرات إثنتين كبيرتين جداً والثالثة صغيرة ، مع حمام كامل ومطبخ وشرفة واسعة تطل على حديقة غناء تابعة للعمارة السكنية . يا للنعيم !! نحن في سكن جديد ، نحن أحرار ، الأطفال يواصلون دراسة اللغة فما أسعدنا لولا ... لولا هاجس أمر اللجوء وهل توافق السلطات المختصة على طلبنا أم سترفضه ؟ وإذا ما رُفض طلبنا فما مصيرنا ؟ أشد ما كان يؤلني ويمضّني هو مصير أمثل وشقيقته . كان المحامي يطلب بين حين وحين مقابلتي لتزويده ببعض الوثائق المترجمة وللإجابة عن بعض إستفساراته وأسئلته حول جوانب عديدة تخص وضعنا في العراق وحول قانونية طلب اللجوء . لتلطيف الأجواء المتوترة والمتشنجة على العائلة إبتعتُ سيارة مرسيدس قديمة ورحنا نجوب بها المدن الجميلة ومناطق البحيرات وكنا ممنوعين من العمل حسب قواعد اللجوء ولكن ْ ، كانت في حوزتنا وثائق سفر مؤقتة محدودة الفاعلية لا تسمح لنا بمغادرة ألمانيا .
جاءني خلال هذه الفترة من أوائل عام 1985 عرض للعمل في إحدى جامعات الجزائر وعرض آخر لإجراء أبحاث علمية في جامعة كاردف البريطانية ولكنْ ... بعد فوات الآوان ! لا يمكنني مغادرة البلد وقد سلمنا جوازات سفرنا للسلطات الألمانية المختصة وأتممنا متطلبات طلب اللجوء فإعتذرتُ لكلا الجهتين أنَّ ظروفي لا تسمح لي بالإلتحاق هناك .
حرصتُ أن أجعلَ الأهل في العراق على علم بكل هذه التطورات التي طرأت بشكل فجائي على حياتنا فكان جزعهم شديداً على وضع ومستقبل طفلينا بالدرجة الأولى وأدهشهم قرارنا السريع بمغادرة ليبيا . ولّى الشتاء القارص البرودة وذابت الثلوج التي نزلت شتاءً بكثافة ولفترة إستثنائية طويلة نادرة الحدوث كأنَّ الطبيعة قد أعدّت لنا مهرجانَ إستقبال خاص يليق بالمحنة التي واجهناها وكانت محنة متعددة الأطراف والأشكال والزوايا . كنت بإعتباري رب العائلة أجهد في أنْ أخفف عن أطفالي وأمهم وطأة ما نحن فيه غرباءَ بعيدين عن الأهل ومأساتنا كبيرة مع وطن محرَّم علينا ونظام حكم نكبنا وجارَ علينا بدون ذنب ٍ قارفناهُ وأجبرنا على التشرّد وأن نجوبَ آفاق الدنيا بحثا ً عن عمل وعن ملجأ آمن يقينا من شرور ومظالم حكم حزب البعث في العراق الذي حرمني من أبسط حقوقي المدنية والوظيفية والجامعية والأكاديمية ثم ضاق بي ذرعاً فأبعدني في شهر نيسان عام 1978عن حرم جامعة بغداد مع نخبة من الزملاء في قائمة ضمت 76 أستاذاً جامعياً كانت الأولى ثم تلتها قوائم وقوائم لكي تخلو الجامعات العراقية للعناصر البعثية وأصدقائهم ومؤيديهم ومن كانوا يأملون فيهم الإنضمام إليهم عاجلاً أم آجلاً من العناصر المستقلة أو المحايدة أو المستعدة لمساومات البيع والشراء مقابل منصب أو إمتياز أو ما شابه ذلك من وسائل الإغراء التي برع فيها البعثيون العراقيون . كما لم تسلمْ أم أولادي من بطش دولة البعث وطغواها الأثيم بحق كل عراقية وعراقي يرفض المساومة ويعتذر عن دعوات الإنضمام إلى حزب البعث الحاكم المستبد والمستهتر بكل القيم والأعراف والمواثيق والقوانين المعروفة والمألوفة والمتداولة بين البشر . أخروجها من وظيفتها التدريسية في معهد إعداد المعلمات وحين راجعت مدير التعليم الثانوي العام سلمان داوود العزاوي تسأله عن الأسباب خاصة وقد بدأ الدوام الرسمي في كافة مدارس العراق ... قال لها بإختصار وصلف وعنجهية فارغة : إبحثي لكِ عن مدرسة تقبلك للتدريس فيها !! بحثت فلم تجدْ مكاناً تملأه في مدارس ومعاهد البنات في بغداد . بعد جهود وتشبثات ووساطة بعض الأقرباء تم َّ تعيينها مديرةً لأحد الأقسام الداخلية الخاصة بالطالبات في منطقة الكرخ من بغداد .
تأقلم ولدنا أمثل بسرعة مع محيطه الجديد وسيطر بسرعة فائقة على مفاتيح اللغة الألمانية في حين تعثرت شقيقته قرطبة وما كانت أصلاً مرتاحة من مجمل وضعنا في ألمانيا ولم تستطع الإنسجام معه إلا بعد مرور سنين وسنين في بعضها قسوة ومرارة غير قليلتين . كانت تحنُّ بقوّة إلى العراق وأهلنا فيه ومدرستها ( النيل النموذجية ) في منطقة المنصور ثم إلى ليبيا ومدرستها هناك وإلى زميلاتها ومعلمات مدرستها فكانت تتكلم مع بعض المعلمات طويلاً بالتلفون .
في هذه الفترة الحرجة رأيت أموراً ما كانت لتخطر على بالي أبداً ، بعضها يحاكي ما يحصل في عالم الخيال أو الفنطازيا أو الأفلام السينمائية. إكتشفتُ أن وجوها منوَّعة تلاحقني حيثما ذهبت سواء في مقهى أو مطعم أو خلال تجوالي في بعض شوارع المدينة . يطلب بعضهم مني عقد صداقات ... ويعرض عليَّ آخرُ مخدرات ... ثم يطلب ثالث أن أسلفه كمية من النقود لتمشية مصالحه ... ورابع يرجو أن أهرِّب له بعض نقوده إلى خارج المانيا وخامس يقترح أن نشترك في إستئجار وإدارة فندق كبير أو مطعم شرقي ... و... و ... إلخ . لحسن الحظ كنا محصنين بما فينا من وازع خلقي وإلتزام قانوني دقيق وما كان لدينا من نقود كافية إدخرناها خلال فترة عملنا في الجماهيرية الليبية لستة أعوام كاملة أنا وأم أولادي .
طلب محامينا مني في أوائل شهر حزيران عام 1985 مقابلته على عجل . قابلته فأشار أنَّ علينا جميعاً السفر إلى مدينة ( نورنبرك ) للمثول في ساعة محددة ويوم محدد أمام محكمة اللجوء الخاصة هناك مع كافة ما لدينا من وثائق مترجمة لعرضها أمام القاضي المختص لكي تساعدنا في شرح أسس قضيتنا ودواعي طلبنا اللجوء وأسباب مغادرتنا بلدنا العراق وما إلى ذلك من حجج وبيانات حقيقية لإقناع هيئة المحكمة بعدالة قضيتنا وتيسير الحسم في أمر منحنا حق اللجوء السياسي ... قدر المستطاع .
تمت المحكمة أو الإستجواب المطوَّل الذي إستغرق قرابة الثلاث ساعات وعدنا إلى مدينة ميونيخ وفي صدورنا نفحة أمل قوية . سلّمت المحامي نسخة من الإستجوابات المطوّلة والمعقدة وأجوبتي عليها ويسمونها
( بروتوكول ) . أجرى عليها بعد ذلك ببضعة أيام بعض التعديلات وبعض الإضافات والشروح وأرسلها ثانيةً إلى هيئة المحكمة وأرسل لنا نسخةً منها .
مرّت ثلاثة أشهر فقط ، أي في غضون شهر أيلول ، حسمت المحكمة أمرنا بمنحنا حقَّ اللجوء السياسي الكامل فراجعنا السلطات المختصة في مدينة ميونيخ لإستلام جوازات السفر الجديدة مختوم فيها حق الإقامة الدائمة وحق ممارسة العمل على أن يتم تمديد صلاحياتها مرة ً كل عامين مع حثنا في أن نُسرع دون إبطاء للتسجيل في أحد معاهد تدريس اللغة الألمانية . هل نحتفل بهذه الإنجازات وكيف سنحتفل ؟ لقد ضمنا الإقامة الدائمة في البلد الجديد وفيه أمننا وفيه سيتقرر مصير ومستقبل العائلة ولا سيما ولدنا وإبنتنا . نعم ، وجدنا وطناً يحفظنا ويرعانا ولكن ، ماذا عن الوطن الأصل ، وطن الآباء والأجداد وأجداد الأجداد حيث وُلدنا ونشأنا ومارسنا العديد من الوظائف فيه حتى حان موعد ضربة القدر الغادر إذ تحكم فينا وفي مصائر كافة العراقيين نظام حكم جائر ليس له من شبيه في العصر الحديث . كان ما زال فيه حتى يومذاك بقية من الأهل على قيد الحياة وبقايا ذكريات عزيزة عسير علينا أن ننساها فغدوتُ أكثر من ترديد بيت من الشعر يقول :
بلادي وإنْ جارتْ عليَّ عزيزةٌ
وأهلي وإنْ شحّوا عليَّ كرامُ

الأهل والأقرباء والأصدقاء لم يبخلوا علينا ولم يشحّوا ولم يبخسونا حقنا إنما نظام الحكم المسرف في العسف والجور والطغيان . أجلْ ، إحتفلنا ولكنْ كان طعم الفرحة الكبيرة مشوباً بالكثير من المرارة . لم يشعر الأطفال بالفارق أبداً ولست أدري أكان ذلك صرخة إحتجاج ورفض لما هم فيه من واقع جديد وبلد آخر جديد إخترناه لهم دون أخذ موافقاتهم ؟ بلد لا يتكلم لغتهم وليس لهم فيه أهل وأقارب وأصدقاء . بلد جوه ومناخه وسماؤه ليس فيها ما يشبه سماء ومناخ أوطانهم سواء في العراق أو ليبيا . إقتلعناهم من العراق مجبرين وكان ذاك قراراً حكيماً وصائباً بشكل مطلق رغم معارضة البعض من أهلي من حَسنيِّ الظن بنوايا وخفايا نظام حزب البعث . هل كان قرارنا الثاني كذلك صائباً وحكيماً إذْ إقتلعناهم عنوة ً من الجماهيرية الليبية وما كنا في خطر أو تحت تهديد ؟
سجلنا أوائل شهر أيلول عام 1985 أمثل وشقيقته قرطبة في مدرسة قريبة من سكننا يسمونها من حيث مستواها التدريسي ( جمنازيوم )
Gymnasium
وهي مدارس ثانوية تُؤهل مَن يتخرج فيها للدراسة في الجامعات .

في معهد ( غوتة ) / كورس اللغة الألمانية
Goethe Institute
سجّلتُ في معهد ( غوتة ) المعروف في ألمانيا وعلى نطاق العالم المختص بتدريس اللغة الألمانية بينما إختارت الحاجّة أم البنين معهداً آخرَ يُكنى له بالرموز
DGB
لأنَّ الدوام فيه بعد الظهر يناسب ظروفها البيتية ومتطلبات أمثل وشقيقته .
كان خريف ذلك العام ودوداً لطيفاً فأكثرنا السفر والتجوال بسيارتنا أثناء العطل الرسمية ونهايات الأسبوع في العديد من المدن القريبة ومناطق البحيرات والجبال حتى حاولنا في إحدى المرات زيارة مدينة سالسبورغ النمساوية القريبة من ميونيخ لكنَّ شرطة الحدود النمساويين منعتنا بحجة أنْ لم يكن مع أطفالنا تأشيرة دخول النمسا رغمَّ أنَّ مع والديهما هذه التأشيرة التي كانت صالحة لمدة ستة أشهر حسب العرف الجاري يومذاك. عدنا إلى ميونيخ خائبين وقد كنا نظن أن فيزات الوالدين تكفي لأنَّ الأطفال كانوا دون السن القانونية فهم يتبعون آباءهم وكانت في حوزة كل منهما وثيقة سفر أصولية مؤقتة خاصة بالأطفال . الطريف أني لدى نقطة الحدود الألمانية ـ النمساوية أوقفت سيارتنا حسب التعليمات عند خط معين في إنتظار شرطة الحدود . جاء شرطي وحيانا بأدب جم ثم سألني وأنا خلف مقود السيارة : إلى أين ذاهبون ؟ شعرتُ ببعض الوجل غير المبرر فأجبتُ دون تفكير : جئنا لكي نمضّي ساعة واحدة ، ساعة واحدة فقط لنرى مدينة سالسبورك العريقة . هات جوازات سفركم . أعطيناه جوازاتنا مختوماً فيها الختم الخاص بالفيزا النمساوية . قال هات جوازات الأطفال . تطلع ملياً فيها ، أعادها لي ثم قال : ليس معهم فيزا لدخول الأراضي النمساوية ... عودوا من حيث أتيتم !! يا للخيبة . أطفالنا بدون فيزات لدخول الجارة النمساوية !! عدنا أدراجنا مكسوفين إذ كان جو نهار الأحد ذاك رائعاً بشكل إستثنائي وكان قرارنا أن زيارة مدينة سالسبورك تلك هي جزء متمم لفرحة الإنتصار الأخير وطقس إحتفالي آخر إضافي . رجعنا لا إلى مدينة ميونيخ ولكن لنرى جزءاً آخر من أطراف شمال مقاطعة بافاريا الشهيرة وهي منطقة حمامات ( راخينهال ) ومدينة ( بريختسكادن ) حيث في أعالي مرتفعاتها مقر وسكن ومنتجع هتلر السابق المسمّى
( عش النسر ) .
كنا مسرورين في معهدي دراسة اللغة الألمانية ولا سيّما معهد غوتة من حيث المستوى التدريسي فيه والوحدات المطلوبة لدراسة اللغة وحسن إدارة المعهد وموقعه على شارع الشمس في قلب مدينة ميونيخ وما كان ينظّم من سفرات وجولات تثقيفية لطلبة المعهد وما يعرض بين الفينة والفينة من أفلام راقية المستوى وما يقيم من حفلات في بعض المناسبات والأعياد وتنظيم سفرات سياحية لبعض المدن والبحيرات والقصور التأريخية . كذلك كان مدرسو ومدرسات المعهد جيدي الإعداد وذوي خبرة تدريسية وحياتية طويلتين بإستثناء مدرسة شمطاء كان أداؤها ضعيفاً جدا ً وما كانت تخفي حقدها الأسود والأصفر على الطلبة الجيك والبولنديين [ وخاصة الطالبات ] والعرب . الأمر الذي حدا بهؤلاء الطلبة إلى الإنتفاض عليها وتقديم مذكرة إلى إدارة المعهد شديدة اللهجة يطلبون فيها تغيير هذه المدرسة فإستجابت الإدارة على الفور وأعفتها من مسؤولية تدريسنا . ظلت هذه العجوز الشمطاء على خبثها ولؤمها إذ ْ دأبت كلما إلتقت في ممرات المعهد أحدأً من طلبتها السابقين على مفاجأته قائلة ً : لا تفرحوا ... سأدرِّسُ غيرَكم ... لا يستطيع المعهد أن يرميني في الشارع !.
لؤم فيها عنصري مركب يبدو مزمناً ومرضياً متأصلاً يجري في عروقها المتصلبة . بعد إعفائها من تدريسنا صارت تأتي المعهد وفي رقبتها صليب من الفولاذ عظيم الجُرم يتدلى حتى أسفل سرتها ... ما تفسير ذلك ؟ رأتني مرة ً فسألتني : لماذا تكرهني ؟ هل أسئتُ إليك ؟ لم أقل لها أجلْ ، أسئتِ إليَّ في عدة مناسبات لكني قلت لها : لا يكرهك أحد ٌ فينا ، بل الكل يحبك ويقدرك كإمرأة وأم وأرملة لكننا رفضناك كمدرسة غير جديرة بمهنة تدريس طلبة أجانب . فلفترة شهرين كاملين لم تمسكي بقطعة الطباشير في يدك ولم تكتبي حتى كلمة واحدة على لوح السبورة ونحن أحوج ما نكونُ إلى التوضيح والكتابة فضلاً عن الشروح ووسائل التعبير والتعليم الأخرى . ثم ، واصلتُ دفاعي ، حقدك الأسود غير المبَرَر على الكثير من طلابك . يبقى السؤال معلقاً دونما جواب : مَن الذي فرضها على إدارة معهد غوتة ذي السمعة العالمية الواسعة الإنتشار ؟؟ من ؟؟
لا أنسى حدثاً وقع أثناء فترة دراستي في هذا المعهد . بعد الضربات الجوية لمدينتي طرابلس وبنغازي الليبيتين التي أمر بها الرئيس الأمريكي الأسبق رونالد ريغن ... وجّه أحد مدرسينا اللامعين وإسمه ( ميخائيل كراوتر ) سؤالاً لطلابه أثناء حصة الدرس فحواه : هل أنت مع أو ضد هذه الضربات الجوية ؟ كانت النتيجة أن أغلبيتنا الساحقة كانت ضد هذه الضربات البربرية وغير الشرعية . كان المدرس بادي الغبطة من النتيجة وعظيم السرور . لا أحدَ يعرف إلى مَن رَفع نتيجة التصويت لكننا عرفنا لشديد الأسف أن َّ المعهد قد أنهى خدمات هذا الرجل الشجاع . كان دائم الحرص على إثارة مواضيع ثقافية وتأريخية وعلى تقوية الأواصر بين الشعوب ، بل ونظّم مرة ً أمسية فاخرة لطلابه في بيته فأكلنا وشربنا وغنى من غنى ورقصت مَن رقصت وكان بيننا مزهواً كالطاووس تشع السعادة من عينيه ووجهه . كما عرض هو نفسه في إحدى الأمسيات بعد الدوام فيلماً ممتازاً حول صعود هتلر والنازية في ألمانيا وما جرى نتيجة لذلك في بولونيا ثم طلب منا كتابة تقرير عن هذا الفيلم لمناقشته أمام الطلبة . عرفت فيما بعد أنَّ هذا الفيلم مأخوذ ٌ من رواية الكاتب الألماني الشهير
( كونتر كراس )
Guenter Grass
المسماة ( طبل الصفيح ) .
Blech Trommel
كان واضحاً أن مدرسنا هذا هو أحد نشطاء حركة السلام المناوئة للحروب.
عودة لمعهد غوتة . الدراسة فيه جادة تماماً وإنْ كانت مرهقة لكثرة الواجبات البيتية وباقي متطلبات الدراسة . كنا جميعاً طلاباً أجانبَ من بيننا نسبة عالية من مواطني الأقطار الإشتراكية السابقة : روسيا وبولندا ورومانيا وجيكوسلوفاكيا رجالاً ونساءً فضلاً عن طلبة آخرين هاربين من إيران الإسلامية . تبدو بعض متناقضات الحياة مضحكة في بعض الأحيان. إجتمع في صف واحد لدراسة اللغة الألمانية أُناس ٌ هاربون من الإشتراكية مع آخرين مطاردين ومشردين لأنهم مع الإشتراكية وإشتراكيون !! حدث هذا قبل أن يكتب سلمان رشدي روايته ( آيات شيطانية ) بأربع سنوات تقريباً حيث بيّن فيها كيف أنَّ ضحايا أجهزة شرطة أمن ومخابرات النظام الإيراني الشاهنشاهي ( السافاك ) اللاجئين إلى بريطانيا وجدوا أنفسهم وجهاً لوجه يلتقون ويأكلون في مطاعم في لندن تملكها وتديرها عناصر هذا السافاك من الذين هربوا من إيران بعد إندلاع الثورة الإسلامية عام 1979 هناك . ضحايا السافاك يلتقون بجلاديهم من هذه الأجهزة في لندن عاصمة لجوء كلا الطرفين !!. الضحية والجلاد لاجئان في بلد واحد . أنظمة اللجوء تستوعب الفئتين . ما أشبه البارحة باليوم . وهذا بالضبط ما حدث وما يحدث في باقي الأقطار الأوربية وغيرها إذ صرنا نرى ضحايا نظام البعث وصدام حسين في مدينة واحدة مع شرطة أمنه ومخابراته وجلاديه وطابوريه الخامس والسادس ، وربما أكثر من طابورين ، والكل في سلة واحدة يحملون سمة لاجئين !!؟؟ .
إقتربنا من نهاية العام 1985 فإستعد الناس للإحتفال بمولد عيسى المسيح ثم العام الجديد . تعطلت مدارس أولادنا فجهزنا أنفسنا وشقتنا وإبتعنا شجرة ضخمة ً زيناها بالشرائط والزينات والمصابيح المتلآلئة نهاراً وليلاً للإحتفال بذكرى يوم مولد إبنتنا قرطبة المصادف الرابع والعشرين من شهر كانون الأول . بعد ذلك ببضعة أيام دعونا بعض العوائل العراقية للسهر معنا حتى حلول منتصف ليلة 31 / 12 / 1985 ـ 01/ 01 / 1986 . ترك طفلانا شقتنا وإنصرفا إلى الحديقة الكبيرة الخلفية ليساهما في إستعراض إطلاق الألعاب النارية الزاهية الألوان والمنوعة التشكيلات والزخارف مع ما يرافقها من أصوات الإنفجارات التي تهز سماوات ميونيخ وتحيل الليل نهاراً ... فرجة لا ينساها المرء أبداً .

عام جديد / 1986
واصل الصبي أمثل دراسته ( تخصص علوم ورياضيات ) في مدرسته كما في الفصل الأول من السنة الدراسية . بدل دراسة اللغة اللاتينية المطلوبة حسب المقررات المدرسية والتي يجهلها كلية ً إقترحت إدارة المدرسة كبديل أن يدرس اللغة العربية لغة ً ثانية ًأجنبية ً فضلاً عن اللغة الإنجليزية . أما الألمانية فهي اللغة الأصل وليست أجنبية على أية حال . لذا كان عليه أن يجتاز إختبارين في اللغة العربية كل عام دراسي ولمدة ثلاثة أعوام . تتضمن هذه الإختبارات ترجمة مزدوجة من العربية إلى الألمانية ومن هذه إلى تلك بالإضافة إلى كتابة موضوع إنشائي محدد ثم إختبار في قواعد اللغة العربية . إجتاز الجميع بنجاح وتفوّق . أما أخته الصبية قرطبة فكانت مشكلتها المستعصية مع اللغة الألمانية . نعم ، اللغة الألمانية . لم تتقبلها ولم تنسجم معها لا شكلاً ولا لفظاً ولا روحاً . كانت روحها في ومع اللغة العربية وآدابها ومع لغة القرآن الذي كانت تحفظ منه العديد من الآيات عن ظهر قلب . لذا تعثرت دراستها فإقترح مدير مدرستها نقلها إلى مدرسة آخرى أقل مستوىً علمياً من مستوى مدارس
( الجمنازيوم ) تُعرف ( ريال )
Realschule
وهي لا تؤهل خريجيها لدخول الجامعات الألمانية والدراسة فيها لعشرة أعوام فقط في حين تستغرق الدراسة في مدارس الجمنازيوم 13 سنةً . تغير الحال مع قرطبة في المدرسة الجديدة ودرجت أمورها الدراسية طبيعية ً وعلى أحسن ما يرام فحققت النجاحات المطلوبة وأكملت الدراسة فيها فقررت الإنتقال إلى مدارس الجمنازيوم أسوةً بأخيها وهذا ما كان .
مرّت السنوات العجاف نزولاً وصعوداً فيما يخص مدارس أولادنا وزالت عن صدورنا هموم كثيرة ثقال فهما كل ما تبقى لنا من رأسمال في الحياة .

البحث عن عمل
ما أنْ أنهينا كورسات اللغة حتى سارعنا ، أنا وأم أولادي ، إلى مراجعة مكاتب التشغيل محاولين الحصول على أعمال مناسبة لنا كلاً في مجال إختصاصه . بالإضافة إلى ذلك كنت أتابع صفحات الجرائد اليومية المختصة بالإعلان عن الوظائف الشاغرة . راسلت العديد من الشركات والمعاهد والجامعات داخل وخارج المانيا وبقيت أنتظر وطال الإنتظار !
كما إتصلتُ بأساتذة ألمان سبق وأنْ تعرّفتُ عليهم خلال مؤتمرات كيميائية إنعقدت في بريطانيا أو قام بعضهم أواسط سبعينيات القرن الماضي بزيارة جامعة بغداد وقدموا محاضرات أمام أساتذة قسم الكيمياء في كلية العلوم . ثم زرتُ الكثير من الأساتذة وزرتُ عدداً من معاهد الكيمياء وجامعة ميونيخ وجامعة ( ريجينسبرغ / بروفسور برونر) . كما وجّهتُ العديد من الرسائل إلى شركات ومؤسسات ذات علاقة داخل وخارج ألمانيا أستفسر فيها عن إمكانية التعاقد على عمل له علاقة بإختصاصي . فشلت كل هذه المحاولات . بدت كل الأبواب مغلقة ... أزمة في سوق العمل وقيمة المارك الألماني في أوطأ مستوى بالنسبة للدولار الأمريكي والباون الإسترليني البريطاني .

1986 / 1987
الحرب والمرض
مع مجئ العام 86 ـ 87 الدراسي بلغت الحرب العراقية الإيرانية أطواراً ومستويات بشعة لا إنسانية إذ شرعت حكومة ونظام حزب البعث في العراق يإستخدام الغازات السامة المحرَّمة دولياً والقصف الصاروخي المتبادل لعاصمتي الطرفين المتحاربين ، طهران وبغداد . فاقمت الحرب ونيرانها التي أشعلت البلدين بالحرائق وحل الدمار الشامل في أنحاء كثيرة من كلا البلدين ... فاقمت من سوء وضعي إذْ فشلتُ في إيجاد عمل مناسب فساءت صحتي وتدنت ووقعتُ فريسة ً لمرض غريب ما عرفت ُ له مثيلاً في حياتي : أصيب ذراعي وكتفي الأيمن بحالة تصلب شديد مفاجئ لدرجة إستحالت معها قدرتي على تحريك أي ٍّ منهما . ثم غدا نومي شبه مستحيل بسبب ما كنتُ أعاني من آلام تفوق طاقة تحمّل البشر . لم تزدْ الأدوية ووسائل العلاج الأخرى المنوَّعة أمري هذا إلا سوءاً . لم تنفعْ حُقن ( إبر ) الكورتيزون في أعلى الكتف ولا الحبوب المهدئة للألم ولا العلاج بالأشعة والموجات القصيرة ، ولا الهواء الساخن ولا مكعبات الثلج ولا الطين الأسود الساخن المسمى ( فانكو ) ولا تمارين الحركة تحت إشراف وتوجيه الممرضات المختصات والمساج والتدليك 4 ـ 5 مرات في الأسبوع . غير أنَّ السباحة في مسابح الأحواض الدافئة كانت تساعدني قليلاً وبشكل مؤقت طالما كنت طافياً في الماء حيث المعاناة تخف قليلا ً جرّاء تحريك ذراعي وإنْ كانت حركات محدودة ومحسوبة وشديدة الحذر. خلاف ذلك لا من تحسنٍ خارج الماء !! قبلَ أنْ أبدِّلَ طبيبي المختص بأمراض العظام ( دكتور بادلتْ ) ، وقد يئستُ منه ومن طبه ، سألني سؤالاً مفاجئاً حيرني ، قال : متى تنتهي الحرب العراقية ـ الإيرانية ؟ أدهشني سؤاله فسألته وما علاقة هذه الحرب بمصيبتي ؟ قال وقد يئس هو الآخر من إمكانية شفائي على يديه ... قال : هنا بالضبط تكمن مصيبتك ، في هذه الحرب !! لم أصدّق كلامه .
في المستشفى الجامعي وتحت إشراف أطباء جُدد ... وجدتُ نفسي مثل فأرٍ من فئران التجارب المختبرية . قام بفحصي أطباء ٌ وطالبات وطلاب طب من كل جنسية ومِلة . لم تتحسن صحتي في المكان الجديد رغم إتباع أساليب جديدة للفحص والمعالجة وحبوب جديدة وحقن جديدة طويلة منظرها مخيف تُغرز في أعالي كتفي بدون رحمة . فضلاً عن جلسات المساج الطبي تنجزها ممرضات خبيرات متخصصات في هذا النوع من العلاج مع ما تحمل لي من آلام مبرِّحة تعوّدتُ عليها ولا مهربَ منها . حدث لي ذات مرّة وكنت مستلقياً مسلما ً أمري لرحمة أيدي الممرضة المكلفة بالقيام بعمليات المساج وتدريب ذراعي وكتفي على الحركات الحرة ... حدث أن إصفرّت ثم غامت في عيني الدنيا وفقدتُ الوعي فأصيبت الممرضة بحالة ذعر هستيري طالبةً المساعدة والنجدة على عجل فسارعوا لنقلي على نقالة إلى أحد أقسام المستشفى لإجراء شتى الفحوص العاجلة ثم أشاروا عليَّ وقد إستعدتُ بعض وعيي بضرورة أن أمكث في المستشفى لإجراء المزيد من الفحوص والكشوفات والتحليلات الهامة لتشخيص حالتي المرضية وأسباب ما حدث . رجوتُ إحدى الممرضات أن تتصل بالأهل بالتلفون وتبلغهم ما حلَّ بي وأن يجلبوا لي معهم بعض الملابس وماكنة الحلاقة وما إلى ذلك من متطلبات الإقامة لأربعة أيام في الأقل طريح َ الفراش . أُجريت لي فحوصات لا حصرَ لها وتحاليل بدون عدٍّ وزارني وكشف عليَّ عدد لا يُحصى من الأطباء مختلفي الإختصاصات مع الكثير من طلبة كلية الطب . لم يتركوا سؤالاً لم يسألوه وبعض أسئلتهم مزعج أو محرج . تحسنت صحتي بعد أن إعتقد بعض ُ الأطباء أن إنسدادا ً أو ضيقا ً مفاجئا ً في أحد شرايين القلب هو سبب غيابي عن الوعي . وشخّص َ آخرون الحالة بأنها حالة ( إختناق دماغية ) سببها عدم حصول الدماغ على ما يكفيه من غاز الأوكسجين. لماذا ؟ لا تفسير لهذه الظاهرة ، لا أحدَ يدري لماذا !! هكذا قال الأطباء . قالت لي آخر طبيبة أشرفت على فحصي قبيل مغادرتي المستشفى : لقد أنقذناك من موت محقق كنتَ وشيكه .
مع حلول ربيع عام 1987 ودفء بواكير شهر حزيران صرتُ أشعر بتحسن أوضاعي ولكن بشكل بطيء تدريجي بعد مرور قرابة الثمانية أشهر على إنحراف صحتي وما عانيت ُ خلالها وما تحملتُ من عذاب وشقاء غير مسبوقين .
عودة لفترة ما قبل المرض .
مع حلول العام الجديد تساقطت ثلوج جديدة كثيرة فأصبحت سيارتنا عبئاً ثقيلاً علينا لأنَّ إطاراتها صيفية لا تصلح لموسم الشتاء وبرده وثلوجه . ثم إنها كانت بستة سلندرات أي أنها تستهلك كميات كبيرة من وقود البنزين فضلاً عن إرتفاع نفقات التأمين عليها وعلى راكبيها وعلى راكبي المركبات الأخرى في حالات التصادم أو الإنقلاب أو أي حادث مرور أو سواه من الحوادث المتوقعة والمعتادة. عرضناها للبيع فباعها أحد معارفي بثمن بخس ولم أشعر بغضاضة أبداً لأنني كنت أنوي التخلص منها بأي ثمن وبأسرع وقت ممكن . تغير الجو جذرياً في بيتنا إذ زارتنا ( ميساء ) إبنة خالة أولادنا . جاءت من بغداد في طريقها إلى العاصمة السويدية ستوكهولم لتمضية فترة تدريب في أحد المعاهد هناك لقرابة الستة أشهر . مكثت معنا أسبوعاً واحداً كنا فيه في غاية الفرح والغبطة وكان سرور أمثل وشقيقته بدون حدود إذ وجدا فيها الأهل في العراق جميعاً لكأنها حملت العراق قاطبةً معها .
خالد وجولي في ميونيخ
في شهر أيلول من عام 1987 زارنا الصديق طبيب الأسنان الدكتور خالد عبدعلي الكفيشي قادماً من مدينة ( شفيلد ) البريطانية وما زارنا لوحده ... كانت برفقته زوجه السيدة ( جولي ) وطفلتهما ( جنّة ) . كنتُ لم أزل أعاني من آثار مرضي الذي أنهك قواي جميعاً فضلا ً عن الآثار الجانبية المدمرة التي نجمت عمّا تناولت من أدوية وعقاقير وحقن الكورتيزون وباقي العلاجات التي أحالتني إلى ما يشبه الحطام ففقدتُ الكثير من وزني وشحب لوني وأنحرف مزاجي لذا لم نستطع ْ القيام بواجبات الضيافة كما يجب وكما تحتم الأصول . كانت تلك زيارتهم الأولى لنا ولألمانيا وكانت لديهم رغبة قوية في أن يزوروا مدينة سالسبورك النمساوية ومدينة البندقية الإيطالية ولكنْ ولشديد الأسف ما كنتُ قادراً على تنفيذ رغبتيهما في زيارة هاتين المدينتين . كنتُ قد بعتُ السيارة أولاً ثم إني كنتُ ما زلتُ أمرُّ في فترة نقاهة حرجة وما كنتُ قادراً أصلاً على الجلوس خلف المقود لقيادة أية سيارة بسبب ما تبقى من آلام في كتفي الأيمن وذراعي . ثم ، يا لعذاب الدنيا ، رافقت ألام الكتف والذراع حالة تشنج قوي فيهما كليهما بدون سبب ظاهر ... فكيف أستطيع أن أقود سيارة تحمل ضيوفنا لنقطع بهم مئات الكيلومترات في طرقات شديدة الزحام نخترق حدود بلدين مجاورين هما النمسا وإيطاليا ؟ لقد تركناهم يتعرفون على ميدنة ( ميونيخ ) لوحدهم وعلى هواهم وما كانوا يعرفون اللغة الألمانية . لم نصطحبهم إلى مناطق البحيرات المحيطة بمدينة ميونيخ ولا إلى جبالها الشاهقة الرائعة الجمال ولا إلى سلاسل جبال الألب الممتدة بين ألمانيا والنمسا . خلا مناسبة واحدة إذ رافقتهم إبنتنا قرطبة للتعرف على المركز الأولمبي في ميونيخ وهناك أخذوا مصعد البرج الشاهق لإلقاء نظرة من عل ٍ على مدينة ميونيخ . كانوا مع ذلك مسرورين في تجوالهم في شوارع ومخازن ومطاعم ومقاهي المدينة ولم تقف اللغة عائقاً في سبيل التواصل مع الناس فالناس هنا يتكلمون الإنجليزية وسواها من اللغات الأوربية . الشئ بالشئ يُذكر . بعد أنْ انجزت ُ بعض المهام الشخصية في لندن زرتُ الصديق خالد في شهر أكتوبر عام 1986 في مدينة شفيلد وبقيت معهم في دارهم لعشرة أيام مرّت سريعة ً ملأى بجميل المفاجأت . كنت خلالها لا أفترق عن الصديق الدكتور نوري سالم زميلي في جامعة بغداد إذ أحال نفسه عام 1982 على التقاعد وإلتحق بعائلته الإنجليزية في مدينة شفيلد . عرّفتهما على بعضهما وقفلتُ راجعاً إلى ألمانيا . غمرني أبو رائد دكتور نوري والسيدة ام رائد بفضليهما وكرم ضيافتيهما فما اكثر ما جهزا لي الاكلات العراقية الاصيلة التي اهوى وعرفاني على بعض الاصدقاء والعوائل العراقية اخص بالذكر منها الضابط الطيار المتقاعد السيد دريد ابراهيم مظلوم ( أبو سرمدْ ) وعقيلته . بل واخذني ابو رائد بسيارته في سفرة طويلة لزيارة مدينة ( يورك ) البعيدة عن مدينته شفيلد فقضينا فيها نصف نهار تقريبا وكانت فرصة نادرة للاطلاع على اهم معالم المدينة التاريخية القديمة ولا سيما احدى كنائسها القديمة . كنت إذا لم التق ِ بأبي رائد اقوم بزيارة المدن الشهيرة المحيطة بمدينة شفيلد مثل مانجستر وبرمنغهام وليدز وبرادفورد وغيرها من المدن الصغيرة والضواحي ثم اعود مساء لالتقي عزيزي دكتور خالد في بيته لنقوم معا بجولات مسائية في شفيلد نرتاد خلالها بعض اشهر مقاهيها ومطاعمها وبارات البيرة فيها . كانت سفرة لا انساها خاصة وقد كانت هي المرة الأولى التي التقي فيها بأصدقاء أعزّة عليَّ يعملون ويقيمون في بريطانيا .
في مكتبة بافاريا الحكومية /
درجتُ منذ ما بعد حقبة دراسة اللغة الألمانية على إرتياد المكتبة الحكومية العامة وطلبت تنظيم هوية تخوّل حاملها إستعارة أي كتاب يشاء إستعارة داخلية لفترة شهر كامل قابل للتمديد . كان في المكتبة ـ جناح أو القسم الشرقي ـ العديد من الصحف والمجلات العربية وغيرها معروضة للقرّاء. كما وجدت في أرشيف المكتبة ما لا يُحصى من الكتب باللغة العربية في كافة المجالات : علوم ، آداب ، فلسفة ، شعر ... إلخ. كنتُ أطلب وأقرأ وأستزيد حتى إستهواني ذات يوم موضوع ( الكيمياء عند العرب الأوائل ). قررتُ أن أخوض غمار هذا الموضوع خاصةً وإني رجل كيميائي الإعداد والتأهيل ثم البحث والتدريس . وقعت يدي على نوادر الكتب ونفائس المخطوطات المصوّرة للرواد الأوائل الأجانب من الألمان والإنجليز والفرنسيين مستشرقين وغير مستشرقين ممن أسهم في دراسة هذا الموضوع وإغنائه والتوسع في مضامينه وأبوابه المختلفة . صوّرت الكثير والكثير من صفحات هذه الأسفار الجليلة لكي أتابع دراسة ما فيها حين أكون في داري بعيداً عن المكتبة وأجوائها الصارمة وكراسيها الخشب غير المريحة . فضلاً عن الكيمياء القديمة قرأت الكثير من دواوين الشعر العربي وكتب الفلسفة والأدب وغيرها من حقول المعارف الشديدة التباين . لاحظتُ للأسف أنَّ هذه المكتبة الهائلة تفتقر إلى وجود المنشورات الحديثة مما ذكرتُ من المصنفات والمؤلفات وحقول العلم والمعرفة الأخرى . كل ما فيها من مصادر قديم ، حتى كتب الشعر . مثلاً لم أجد للشاعر العراقي الراحل ( بلند الحيدري ) من دواوين شعره إلا أولها الذي يحمل عنوان ( خفقة الطين ) !! الأمثلة كثيرة على ذلك . تحمّلت هذا العيب الكبير من أجل تأريخ الكيمياء وحالها في الزمن القديم ومَنشئِها وأماكن نشأتها وأوائل المشتغلين بها ... غدت هوايتي وشغلي الشاغل . كنت أقضي في هذه المكتبة جُلَّ وقتي وفي كافة أيام الأسبوع . على أني لم أتوقف أبداً عن متابعة إعلانات الوظائف الشاغرة في الصحف الألمانية وتقديم طلبات العمل الأصولية ولكن دون جدوى . لذا كنت أعوّض الفشل هنا بالمزيد من التعمق في موضوعات تأريخ الكيمياء آملاً أنْ سيأتي يومٌ أستطيع فيه أن أنشر كتابا ً أو أكثر في هذا الحقل فيما لو نجحتُ في إكتشاف حقائق ومعطيات جديدة تثير إهتمام مَن يعنيهم هذا الأمر من مسؤولين وعلماء وطلبة كيمياء . فكّرتُ في إمكانية تشكيل فريق عمل يضم بعضا ً من طلبة الدكتوراه في حقل الكيمياء تحت إشرافي للبحث وتقصي الجوانب غير المعروفة من هذا الأمر . يحتاج المشروع بالطبع إلى إسناد وتمويل جهات مهتمة وقادرة مثل مجالس البحث العلمي في العالم العربي أو إحدى وزارات التعليم العالي أو الثقافة أو البحث العلمي أو ما يوازيها من مراكز وهيئات ومعاهد . فاتحتُ لأول وآخر مرة وزير الثقافة العُماني في مسقط وأوجزت له تفاصيل المشروع على أمل أن تقوم حكومته بتبنيه والإنفاق المناسب عليه . لم أحصل منه على جواب !! يئستُ ، لا بأس ، لديَّ يؤسات كثيرة أواجهها صباحاً ومساءً فيما يخص الحصول على عمل مناسب فما قيمة يأس آخر مُضاف ؟ شعلة الحياة والأمل تتقد في صدري وستبقى . مَن يدري ، فربما سينجح مشروعي ذات يوم وسأجد فيه العمل الذي أريد وأنتظر وأتخلص من معضلة الجري اليومي اللاهث العنيف وراء أمل إحتمال حصولي على عمل لدى الجامعات والشركات الألمانية وغيرها. واصلتُ همتي فجمعت أسماءَ وعناوينَ مصادر للبحث فيها النادر وغير المتوفر في المانيا لكنها موجودة في الهند ومصر وتركيا وإيران والدنمارك وبريطانيا وفي بعض الجامعات الأمريكية . قررتُ القيام بزيارة بعض هذه البلدان لتصوير المصادر ثم العودة بها إلى ألمانيا لمواصلة أبحاثي ومغامراتي شبه الخيالية . كان دخول أراضي البلدان الشرقية عربيةً وإسلامية محرّما ً على أمثالي ، ذاك لأنني أحمل جواز سفر لجوء لا غير . ما كانت تعترف به هذه البلدان . لذا خططت ُ للقيام بسفرة طويلة مأمونة العواقب أزور فيها الأقطار الإسكندنافية ثم بريطانيا وهي بلدان لا تطلب من أمثالي تأشيرات دخول أراضيها ما عدا فنلندا . سفرة إستطلاع ومحاولات إيجاد عمل في بعض جامعاتها ومعاهدها ثم زيارة مكتباتها لتصوير ما فيها من مصادر كتب ومخطوطات تخص مجال بحثي الأصل .


CONVERSATION

0 comments: